الرئيسية / صوت النقابة / تجمّع 2 مارس: محطة نضال وليس فاصلا في حملات التسخين والتبريد
تجمّع 2 مارس: محطة نضال وليس فاصلا في حملات التسخين والتبريد

تجمّع 2 مارس: محطة نضال وليس فاصلا في حملات التسخين والتبريد

بقلم جيلاني الهمامي

تجري الاستعدادات حثيثة في الاتحاد العام التونسي للشغل “للتجمع العمالي الاحتجاجي” بساحة القصبة في العاصمة يوم السبت 2 مارس القادم. وهو أول تحرك جماهيري في الفضاء العام يدعو إليه اتحاد الشغل، منذ حوالي سنة، دفاعا عن “الحوار الاجتماعي والحق النقابي وتطبيق الاتفاقيات والقدرة الشرائية” كما جاء في المنشورات الإشهارية التي يقع ترويجها بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي. ولا يخفي الطرف النقابي أن هذا التجمع جاء نتيجة الأزمة التي تمرّ بها علاقة الاتحاد بنظام الحكم كما قال السيد صلاح الدين السالمي عضو المكتب التنفيذي في تصريح له تتداوله وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام. وقد أكد في هذا التصريح أن هناك قطيعة بين السلطة والمكتب التنفيذي للاتحاد وأن عديد الملفات هي محل خلاف كبير بين الطرفين وأن انقطاع خيوط التواصل اقتضت من الاتحاد تنظيم هذا التجمع.
وإذا كان هذا المناخ العام الذي يحفّ بالوضع الاجتماعي يفسّر لجوء المنظمة إلى ما يفهم منه بداية تصعيد فإن أسباب مباشرة عجلت بالدعوة إلى هذا التحرك كشكل أوّلي من أشكال الاحتجاج. من ذلك إقدام الحكومة على عرض بعض مشاريع قوانين على البرلمان للمصادقة كانت موضوع حوار بين الطرفين ولم ينته التفاوض في شأنها وهي مشاريع على غاية من الأهمية بالنسبة للاتحاد ولكن أيضا بالنسبة إلى جزء مهمّ جدا من الشغالين التونسيين، أعوان الوظيفة العمومية وأعوان القطاع العام. يتعلق الأمر بمشاريع تنقيح للنظام العام للوظيفة العمومية والقانون الأساسي للشركات والدواوين والقانون عدد 9 لسنة 1989 المتعلق بمساهمات الدولة في رأس مال المؤسسات العمومية. ومن التنقيحات المعروضة على البرلمان ضمن مشاريع القوانين المذكورة إقرار “التسخير الجزئي والتسخير الكلي” الذي يعني إلغاء حق الإضراب.
لذلك يعوّل الاتحاد على هذا التجمع لممارسة أكثر ما يمكن من الضغط على الحكومة وعلى قيس سعيد نفسه للتراجع عن هذا التوجه. وقد عقد جملة من الاجتماعات (المكتب التنفيذي الموسع ومجمّع الوظيفة العمومية ومجمّع القطاعات الخ…) وهو بصدد دفع الهياكل القطاعية وخاصة الاتحادات الجهوية إلى بذل مزيد من الجهد لإنجاح عملية التعبئة لهذا التجمّع. فالمكتب التنفيذي يدرك أن قدرته على التعبئة قد تراجعت جراء انحلال النشاط الاحتجاجي العام ولذلك ذهب إلى استقدام أكثر ما يمكن من النقابيين والشغالين من داخل البلاد وتسهيل حركة التنقل وتسخير كل الإمكانيات لذلك. في الجهة المقابلة تعمل السلطة في صمت على إفشال هذه المساعي وأعطت تعليماتها في الجهات بالضغط على شركات النقل العمومية والخاصة حتى لا تستجيب لطلبات الاتحاد باكتراء حافلات النقل اللازمة. وهو ما سيؤثر، بلا شك، سلبا في تعبئة منخرطي الاتحاد وأنصاره من كل الجهات لإنجاح التحرك.
هذه نذر أولى تؤشر على أن الوضع قد يمضي باتجاه التصعيد. ففي حالة ما إذا نجح التحرك فقد يضخ مزيدا من الحماس لدى القيادة (أو على الأقل شق أغلبي منها) للاستمرار في مسار الضغط بعدما يئست من “التفاتة كريمة من سيادته”. أمّا إذا فشل فسيكون ذلك حجّة لدى الشق الآخر من القيادة والذي لا يخفي ميله إلى إيجاد أرضية تفاهم مع منظومة الحكم ومن جهة ثانية قد يكون دافعا لمزيد تشدد قيس سعيد وكامل المنظومة تجاه اتحاد الشغل.
لكن وبعيدا عن منطق الحسابات والتكهنات أين تكمن اليوم مصلحة الاتحاد ومصلحة الشغالين في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الراهنة؟ هل تكمن في النضال والدفاع المبدئي والمستميت عن الحقوق والمكتسبات أم في البحث عن توافق مع السلطة كيفا اتفق ومهما كان الثمن؟
قبل الإجابة عن ذلك يجدر بنا في البداية أن نشخص بدقة ووضوح وإيجاز، دون تضخيم ولا استنقاص من صورة الواقع وسمات الوضع. فما يميّز علاقة الاتحاد بالحكومة اليوم هو حالة الجفاء إن لم نقل القطيعة (كما يعترف صلاح السالمي بذلك) منذ التجمع الذي نظمه الاتحاد شهر مارس من السنة الماضية بساحة محمد علي. والحقيقة أن حالة الجفاء هذه انطلقت منذ مجيء قيس سعيد إلى الحكم. والجميع يذكر تعاليقه الساخرة على إعلان الاتحاد اعتزامه إطلاق “مبادرة حوار وطني” جديدة و”خارطة طريق” لمعالجة الأزمة العامة التي تمرّ بها البلاد. وقد تلا ذلك فترة طويلة نسبيا انقطعت فيها العلاقة بين الطرفين وتباعدت المواقف إلى حدّ أن أعلن الأمين العام للاتحاد في وقت من الأوقات شعار “الخط الثالث” في تباين من سعيد ومع النهضة في نفس الوقت. وحتى عندما استقبل سعيد الطبوبي في قصر قرطاج واستبشر لذلك أتباع الطرفين وهفتت الهجمات الفايسبوكية إلى حين، فإن الهدنة الوقتية انتهت إلى التلاشي وخيّمت على العلاقة بينهما ظلال أزمة جديدة هي مستمرة إلى الآن. لقد تودّدت القيادة أكثر من مرة وبالقدر الكافي للرئيس قيس سعيد وسارعت بركوب عربة “دعم مسار 25 جويلية” وأرسلت ما استطاعت من تعابير “الاتفاق مع مواقف الرئيس بخصوص السيادة الوطنية” وما إلى ذلك من الرسائل والإشارات دون جدوى.
الأسباب واضحة ومعلومة لكل من تابع خطة الرئيس قيس سعيد للاستفراد بالحكم ولكل من تمعّن في تفاصيل برنامجه. فهو لا يرى مكانا للأجسام الوسيطة في تصوّره لنظام الحكم ولتنظيم المجتمع وهو كما صرّح بذلك يعتبر أن هذه الأجسام، أحزاب ومنظمات وجمعيات، ما عاد لها من موجب للبقاء وقد أعدّ خطة للتخلص منها تقوم على تهرئتها “حتى تندثر وحدها”. ينضاف إلى ذلك بالنسبة إلى اتحاد الشغل أن قيس سعيد ماض دون هوادة في القيام بـ”الإصلاحات الكبرى” ولا أدلّ على ذلك التخفيض في كتلة الأجور ومراجعة القانون 9 لسنة 1989 والشروع تفكيك منظومة الدعم وغلق باب الانتداب الخ… وهي إصلاحات لا تقبل بوجود نقابة مستقلة قوية ومناضلة.
يبدو الآن أن قيادة الاتحاد (أو جزء منها على الأقل) أيقن أخيرا هذه الحقيقة وحزم أمره للدفاع عن وجود المنظمة النقابية التي يقترن وجوده، أي شقّ القيادة، بوجودها. ولكن السؤال المطروح هل يتعلق الأمر بموقف مبدئي وثابت أم هو مجرّد محاولة للضغط بغاية تليين موقف الطرف المقابل؟ بعبارة أخرى هل هي مجرّد حملة تسخين ككل حملات التسخين التي تلتجئ إليها البيروقراطية النقابية، والتاريخ حافل بالأمثلة على ذلك، ثم سرعان ما تنقلب عليها وتنخرط في عملية تبريد حالما تبدي السلطة استعدادها لعلاقة وئام جديدة؟
الحقيقة أنه لا يمكن الجزم لا في هذا الاتجاه ولا في ذاك. ومن السابق لأوانه القول إن القيادة ستتحمّل مسؤوليتها في الدفاع عن المنظمة وعن مصالح الشغالين أم أنها تحت التهديد بتحريك بملفات فساد وتنشيط طائفة من المناوئين داخل الاتحاد وخارجه سترمي المنديل إذا ما تمّ الهجوم عليها أو أنها سترخي جناح الخنوع للسلطة إذا ما أعطاها قيس سعيد بعض التطمينات.
إن مصلحة الاتحاد اليوم تكمن في دفاعه عن وجوده كمنظمة وطنية، بمحاسنها ومساوئها، وكمَعْلَمٍ عظيم من معالم تاريخ تونس المعاصر وكمكوّن أساسي من مكوّنات المجتمع التونسي، وعن المكاسب التي حققها لفائدة منظوريه وعن حقهم في النشاط النقابي الحرّ وعن حقهم في العيش الكريم وبالتالي في أجور جيّدة وظروف عمل لائقة وخدمات عمومية راقية. وإلى ذلك من مصلحته أن يحافظ على دوره كمنظمة نصيرة للحرية والديمقراطية ومناهضة للتعسّف والاستبداد. غير أن منظمة تخضع لأساليب التسيير البيروقراطي وتسمح لنفسها بالانقلاب على المكاسب الديمقراطية التي حققتها الأجيال النقابية السابقة بكثير من النضال والتضحيات لا يمكن لها أن تقنع أحدا بأنها حقا منظمة منحازة بصدق إلى جانب الديمقراطية والحرية. كما أن منظمة تغض الطرف عن تورّط بعض مسؤوليها في ملفات فساد مالي وإداري لا يمكنها أن تصمد في وجه هجومات قيس سعيد تحت عنوان محاربة الفساد و”تطبيق القانون على الجميع” حتى وإن كان الجميع مقتنعا بأنها “قضية حق يراد بها باطل”. وأخيرا وليس آخرا من مصلحة الاتحاد أن يكون ضمن القوى المناضلة من أجل استقلالية القرار الوطني والمناهضة لكل أشكال التدخل الإمبريالي في بلادنا وفي الوطن العربي والعالم.
في كلمة من مصلحة الاتحاد أن يكون في مستوى شعارات الأرضية النقابية التي بلورتها الحركة النقابية التونسية قبيل 26 جانفي 78 وأثناءه وبعده والتي لا زالت على راهنية كبيرة وتحمل صمّامات الأمان للحاضر والمستقبل ألا وهي الاستقلالية والديمقراطية والنضالية.
هذه هي الهوية الحقيقية للاتحاد والتي سعت إلى بنائها أجيال متعاقبة من النقابيين في مسارات نضال طويلة تكبّد فيها النقابيون والعمال تضحيات جسيمة. ومن باب الوفاء لحشاد وكوكبة المناضلين الذين رحلوا والشهداء الذين غيّبتهم يد الاستبداد والقهر الطبقي أن تتحمّل القيادة النقابية مسؤوليتها في حماية الاتحاد من محاولات التصفية.
إن انتشال الوعي العمالي من التردي واستنهاض حركة الاحتجاج والفعل والنضال من مسؤولية القيادة، لا فقط لإصلاح ما أفسدته في فترات سابقة ولكن أيضا للحيلولة دون مرور مشروع التأسيس الذي جاء به قيس سعيد والذي يستهدف منظمة حشاد في وجودها، فمن مسؤولية القيادة في هذا الظرف التاريخي الانتقالي أن تعطي المثل في الصمود مثلما أعطاه عاشور ومن معه في 26 جانفي 78 وفي أكتوبر 85 لا أن تخرّ ضعفا أمام الحسابات الشخصية الضيقة.
وفي كل الأحوال وبصرف النظر عمّا سيكون عليه موقف القيادة وسلوكها فإن النقابيين الديمقراطيين والتقدميين الحقيقيين، الأوفياء لخط النضال العمالي المبدئي ألاّ يستسلموا في هذه المعركة التي تلوح في الأفق وألاّ يربطوا مصير المنظمة بعجلة القيادة وخاصة من سيتواطأ من أعضائها مع مخططات ضرب المنظمة.

إلى الأعلى
×