بقلم حبيب الزموري
صُنّفت تونس منذ سنة 1995 من قبل منظمة الأمم المتحدة كبلد يعاني من وضعية مائية حرجة، حيث تراجع نصيب الفرد من الماء الصالح للشرب إلى أقل من 500 م3 سنويا، محتلة المرتبة 30 عالميا من حيث الفقر المائي، علما وأنّ عتبة العجز المائي حددت بــ 1000 م3.
تُقدَّر الموارد المائية المتاحة بالبلاد التونسية حاليا بحوالي 4.865 مليار متر مكعب سنويا، 56% منها مياه سطحية و44% مياه جوفية. تتمّ عملية تعبئة المياه السطحية بواسطة 38 سدّا (18 سدّا كبيرا و20 سدّا جبليّا) و200 حاجز جبلي و1000 بحيرة جبلية. ومن المتوقع أن تصل نسبة التعبئة خلال السنوات الخمس القادمة إلى 100%، أمّا المياه الجوفية فإنها تستغل عبر حوالي 479 طبقة مائية (212 طبقة سطحية و267 طبقة عميقة) تصل نسبة استغلالها إلى حوالي 97% من المياه. تُستغَلّ الموارد المائية السطحية بشكل رئيسي في شمال تونس الذي يستأثر بــ 81% منها، بينما تُستغَلّ موارد الطبقات العميقة بشكل أكبر في الجنوب حيث يتركز 58% منها.
إنّ التحدي الأكبر الذي يواجه الموازنة المائية التونسية منذ سنوات هو تراجع الموارد الموارد المائية المتاحة القابلة للتعبئة وفي أفضل الأحوال تذبذبها من جهة وتنامي الطلب من جهة ثانية.
بلغت نسبة المياه المستغلة من قبل مختلف القطاعات الاقتصاديّة حوالي 2.528 مليار م مكعّب سنة 1996 وتنامى الطلب على المياه ليصل إلى قرابة 2.688 مليار متر مكعب سنة 2010 ومن المتوقّع أن يتنامى الطلب على المياه سنة 2030 إلى حدود 2.770 مليار متر مكعّب لتبلغ بذلك نسبة النموّ بين 1996 و2030 قرابة 9 %، لكنّ الطلب على الماء في القطاعات الاقتصاديّة والاستهلاك البشري تطوّر كثيرا.
تستأثر الفلاحة التونسية بقرابة 84% من حجم المياه المعبّأة مقابل 11.5% للاستهلاك المنزلي و6.1% للاستهلاك الصناعي.
وتُعتبَر المناطق السقوية في تونس الأكثر استهلاكا للمياه باستئثارها بحوالي 80% من استهلاك المياه رغم أنّ مساحتها لا تتجاوز 459,570 هكتارًا، أي حوالي 7.3% من إجمالي الأراضي القابلة للاستغلال الفلاحي، في المقابل لا تساهم سوى بنسبة 38% من الإنتاج الزراعي و20% من الصادرات الفلاحية. وهو ما يقودنا إلى الخيارات التنموية التي تتبناها الدولة في مجال التنمية الفلاحية التي حوّلت المجال الفلاحي التونسي إلى ضيعة فلاحية ملحقة بالسوق الرأسمالية العالمية التي تحدّد سياسات الإنتاج في بلادنا بما يستجيب لحاجيات الأسواق الخارجية. فعلى سبيل الذكر لا الحصر تستهلك حبّة الدقلة الواحدة قرابة 50 لترا من الماء، أمّا إنتاج القوارص سنة 2019 الذي ناهز 440 ألف طن فقد استهلك حوالي 320 مليون متر مكعب من المياه و هي كمية قادرة على تأمين 20% من حاجيات البلاد من الحبوب. و قد كان لهذه التوجهات انعكاسات وخيمة على مستوى سياسات الإنتاج و على مستوى الموارد المائية لا سيّما الجوفية منها. ففي ظل توجّه أغلبية مياه الريّ للمساحات السقوية المتخصصة في المنتوجات التجارية تفاقم نفور الفلاحين من زراعة الحبوب خوفا من ندرة مياه الريّ و تلف المحاصيل وتوجّهوا بدورهم للفلاحة التجارية والتصديرية. أمّا على مستوى الضغط على الموارد المائية فقد لجأ عدد كبير من الفلاحين لا سيّما في المناطق السقوية والواحية إلى استغلال الموارد المائية الجوفية بطريقة استنزافية حيث وصل عدد الآبار في تونس إلى حوالي 35 ألف بئر 60% منها بدون ترخيص.
أمّا في القطاع السياحي فيتجسّد التبذير وإهدار الموارد المائية بأكثر وضوح حيث وصل معدل الاستهلاك اليومي للسائح الواحد إلى 550 لترا ويمكن أن يصل إلى 900 لترا في الفنادق من فئة خمس نجوم وهو معدل يتجاوز معدل الاستهلاك اليومي للمواطن التونسي بخمسة أضعاف.
إنّ الأزمة المائية في تونس حقيقة غير قابلة للتشكيك و لكن طبيعة الأزمة و تشخيصها هو جوهر الخلاف. ففي حين تصرّ السلطة على تحميل المواطن مسؤولية استنزاف الثروة المائية بتلك الومضات التحسيسية البليدة التي دأب الإعلام النوفمبري على بثّها وواصلت حكومات ما بعد 2011 اعتمادها رغم أنّ الاستهلاك المنزلي لا يشكل سوى 11.5% من الاستهلاك المائي كما بيّنا سابقا واستفحل هذا السلوك الدعائي والتهرّب من مواجهة الأزمة في ظل الشعبوية التي دأبت على اختلاق الأزمات والمعارك الوهمية للهروب من من مواجهة عجزها عن مواجهة الأزمات الحقيقية حيث صرّح رئيس الدولة يوم 23 جويلية 2024: “أنّ قطع المياه بهذا الشكل الممنهج والمدبّر جريمة في حق الشعب بل هو يمسّ بالأمن القومي التونسي ولا يمكن لمن دبّر لهذه العمليات الإجرامية ومن نفّذها أن يبقى خارج المساءلة والعقاب… إنّ ما يحصل في عدد من جهات الجمهورية أمر تدبّره شبكات إجرامية تستهدف شبكات توزيع المياه وتستهدف المحطات الكهربائية”، في حين أنّ الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه (صوناد) نفسها تعترف في تقرير أصدرته سنة 2019 أنها ضخت 758,6 مليون متر مكعب في شبكاتها ولم يصل منها للمستهلكين إلّا 508,1 مليون متر مكعب في حين أهدرت 250,7 مليون في مرحلتي الإنتاج (96,1 مليون متر مكعب أي 38,3%) والتوزيع (154,6 مليون متر مكعب أي 61,7%) و أنّ 60% من شبكتها لاستغلال و توزيع المياه يتراوح عمرها ما بين 30 و50 سنة، وهذا ما يفسّر جزئيا العدد الكبير من حالات كسر المعدات والأنابيب (أكثر من 19 ألف حالة سنة 2019) وتسرّب المياه الصالحة للشراب (أكثر من 21 ألف حالة سنة 2019). هذا التفنّن في توزيع التهم والمسؤوليات على الجميع ومحاولة الظهور بمظهر القائد الهمام الذي يصارع أمواج المؤامرات وجحافل الأعداء وتجاهل المعطيات العلمية والموضوعية للأزمة هو المظهر الحقيقي للأزمة، فالسياسة المائية والسياسات التنموية عموما هي المسؤول الرئيسي عن الأزمة المائية في البلاد ومن أبرز مظاهر استهتار الدولة منذ عقود بالأمن المائي للتونسيين. فبالإضافة إلى ما تطرّقنا له سابقا من اهتراء البنية التحتية للشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه تحت أنظار الدولة التي ترجع لها بالنظر بوصفها من أعرق المؤسسات العمومية في البلاد تعتبر وضعية سدّ نبهانة بولاية القيروان نموذجا ساطعا على استهتار السلطة و تهافت التهم و”الأفلام البوليسية” التي دأب رئيس الدولة على ترويجها للرأي العام حيث كان هذا السدّ عرضة للإهمال وغياب الصيانة منذ سنة 1969 ممّا أدّى إلى خروجه عن الخدمة و إلحاق أضرار جسيمة بتجهيزاته وبشبكات توزيع المياه المتصلة به ممّا أدّى إلى خروجه عن الخدمة، وهي الوضعية التي تعاني منها أغلب السدود التونسية وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة ممّا أثّر على قدرتها على تخزين مياه السيلان حيث لم تتجاوز نسبة التعبئة هذه السنة 35.7%.
رغم حدّة التغيّرات المناخية التي يتعرّض لها سطح الأرض والتي تقع البلاد التونسية في منطقة من أشدّ المناطق تضررا منها، فإن الجفاف ظاهرة قارة في بلادنا منذ قرون نظرا لموقعها وخصائصها المناخية وتفسير الأزمة المائية بالعوامل المناخية فقط تفسير قاصر كي لا نعود إلى التفسيرات البهلوانية المتعلقة بالشبكات الإجرامية والقوى الخفية التي تقطع المياه ليلا عن الشعب التونسي، إنّ الأزمة المائية ببلادنا أزمة هيكلية وسياسية بامتياز تتعلق بالتوجهات السياسية الكبرى بالبلاد التي حافظت على خيارات التبعية وسلعنة موارد البلاد بما فيه المياه.
صوت الشعب صوت الحقيقة

