بقلم علي الجلولي
ودّعنا يوم الثالث من جويلية الجاري رفيقا استثنائيا بكل المقاييس والمعايير. ودّعنا رفيقنا مراد بن يونس وداعا أخيرا بعد أن داهمه الموت الغادر وهو في باريس بعد أن حضر حفل تخرّج ابنته البكر، وقد أراد استغلال هذه الزيارة لعيادة الأطباء لإجراء كشوفات وفحوصات وهو الذي هدّه المرض منذ ريعان الشباب. لقد استوطنت الأمراض المزمنة جسد مراد وأصبح أسير قائمة طويلة من العقاقير والأدوية التي لا تفارقه في حله وترحاله. ولم تكن “ساشي الحرابش” فقط المرافقة الحميمة لمراد، بل كانت ترافقه دوما وحتى في أسوأ حالاته الصحية ابتسامته العريضة التي لا تكاد تفارق محياه. كان مراد ورغم غدر الصحة مملوءا بطاقة لا محدودة من الأمل والإصرار والتفاؤل حتى في أحلك الظروف تحت وطأة خيانة الجسد ممّا فرض عليه التوقف عن العمل لفترات طويلة ومتكررة، لكن إيمانه بالحياة لم يتزعزع. كما أن ثقته في النضال لم تتراجع.
عرفت مراد في الأشهر الأولى بعد الثورة وبدون مقدمات أصبحنا صديقين حميمين. كانت عفويته ومحبته لرفاقه وخاصة قدراته غير المشروطة في تقديم الخدمة للجميع، ممّا جعله محبوبا من الناس ليس في جزيرة جربة ولا في جهة مدنين فحسب، بل من كل معارفه بمن فيهم الذين لا يوافقونه آراءه السياسية التي كان ينشرها ويتحدث عنها أينما حلّ. كان حساسا، رقيق المشاعر، ما جعل منه فنانا في أدقّ تفاصيل حياته. كان بيته الكائن في أصقاع “بني معقل” في الجزيرة تحفة فنية رائعة جمعت بين البساطة والروعة ورفعة الذوق في الآن ذاته. كنت نزلت ضيفا على مراد بمناسبة تدشين مقر الحزب بالجزيرة، المقرّ الذي أصرّ مراد على وجوده والذي حوّله، صحبة رفيقاته ورفاقه، إلى مقر لكل تقدّميات جربة وتقدّميبها. وقد أصبح فعلا مقرا ونقطة لقاء لكل الحرائر والأحرار، ولعب مراد دورا محوريا في ذلك.
روعة مراد وجدت أروع تجليها في علاقته بزوجته وبنتيه، المتورّطات معه في صون المسحة الفنية العالية في البيت، وفي العلاقات الراقية التي يحتضنها ذلك العشّ في ذلك المكان القصي من ربوع جربة الدافئة.
ممّا لا شك فيه أن المرض أثر على تحرك مراد وحركته، لكنه لم يفلّ في قلبه وعقله وقناعاته، بل إنه ظل مواكبا للنضال ومتابعا للحزب حتى آخر لحظة قبل أن يتوقف قلبه عن النبض.
رحل مراد قبل الأوان، رحل في الوقت الذي نحتاج رجاحة عقله وهدوء تفكيره وقوة صبره ووضوح بصيرته وبصره وبرودة أعصابه. خصال نحتاجها كثيرا في وقت انتشرت فيه الشعبويات المولّدة للإحباط واليأس والوهم.
لمراد السلام ولذكراه الخلود الأبدي، لقد كان من أطيب وأنزه وأخلص الرفاق، بل من أروع البشر إذ كان إنسانا “مفرطا في إنسانيته”.
صوت الشعب صوت الحقيقة
