بقلم علي البعزاوي
كل المنظومات التي حكمت تونس منذ 1956 إلى اليوم غيّبت الشعب التونسي بنسائه ورجاله وشبابه وفلاحيه وكلّ كادحيه في المدينة والريف ومثقفيه ومبدعيه… واستبعدت أيّ دور له في إدارة الشأن العام من شأنه الارتقاء به إلى مصاف الشعوب الحرة التي تعمل بذاتها ولذاتها من أجل خدمة مصالحها المباشرة والبعيدة وخلق واقع جديد يكرس في إطاره شعار “السلطة للشعب”.
هذا التغييب الممنهج سببه الطبيعة المعادية للديمقراطية التي تميّزت بها أنظمة الحكم أولا وارتباطاتها الخارجية المكرسة للتبعية والعمالة وخدمة مصالح المستعمر ثانيا.
التجربة عبر التاريخ
كرّس نظاما بورقيبة وبن علي طيلة عقود من الزمن شكلا دكتاتوريا للحكم ينفي أيّ دور للشعب وللمؤسسات التمثيلية المنتخبة ديمقراطيا والممثلة فعليا للشعب. فلا البرلمانات ولا المجالس البلدية ولا الولاة والمعتمدون والعمد خضعوا للانتخاب الديمقراطي، بل كانوا يعيّنون على أساس الولاء والطاعة العمياء. وكانت المؤسسات المذكورة تخضع لانتخابات شكلية معلومة النتائج مسبقا ولا يسمح فيها للمعارضة/ات بالمشاركة الحرة. وكل من تجرأ على التقدم للانتخابات، إمّا يرفض ترشحه لأسباب “قانونية” بموجب القوانين المفصلة على قياس الدكتاتورية أو يقع اعتراضه واختطافه من قبل الميليشيات لتنكل به وتمنعه من تقديم ملف ترشحه لهيئة الانتخابات المنصبة بدورها والخاضعة للتعليمات.
إثر ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 فُتحت الأبواب أمام التونسيات والتونسيين الراغبين في الترشح لمختلف المسؤوليات ووقع اختيار هيئة انتخابات محايدة نظريا للإشراف على العملية بدعم من الاتحاد الأوروبي بالمال والتوجيهات حتى يستطيع مراقبة الوضع عن قرب والتحكم في العملية حفاظا على مصالحه الاستراتيجية في تونس. وقد ضخت الأموال الطائلة ولعب الإعلام الموجه أقذر الأدوار للمساهمة في هندسة النتائج بما يضمن تغييبا “ديمقراطيا” للشعب حتى لا يتحمل مسؤولية إدارة دفة الحكم التي عهد بها لأحزاب الحكم الجديدة التي حظيت بثقة القوى الاستعمارية لأنها ستحافظ على نفس الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية القديمة التي من شأنها خدمة مصالح القوى الاستعمارية المهيمنة تاريخيا على تونس ووكيلتها البورجوازية الكبيرة العميلة المحلية.
إنّ الثورة التونسية رغم المكاسب التي حققتها لم تساعد على تمكين الشعب بكل طبقاته وفئاته من أن يكون صاحب السلطة الحقيقي لأن الأحزاب الثورية والوطنية والديمقراطية المنتصرة لشعار “السلطة للشعب” والمنحازة لمصالح الطبقات والفئات الشعبية لم تكن منغرسة ومنظمة وجاهزة للقيام بذلك الدور. لذا شمل التغيير شكل السلطة فقط الذي أصبح ديمقراطيا ليبراليا وحافظ في نفس الوقت على جوهره الطبقي المنحاز لكبار الرأسماليين المحليين ومشغليهم من القوى الخارجية.
الشعبوية على خطى المنظومات القديمة
لئن هلّل البعض أحزابا ومنظمات وأفرادا لانقلاب 25 جويلية واعتبره انتصارا للشعب وتكريسا للسيادة الوطنية وقطيعة مع الماضي الاستعماري الجديد فان الوقائع على الأرض وتجربة حكم قيس سعيد طيلة ستة سنوات ونيف أكدت لكل متابع نزيه وموضوعي ولأغلبية الشعب التونسي صاحب المصلحة أنّ نفس الخيارات والسياسات تواصلت ما ساهم في الحيلولة دون معالجة القضايا الجوهرية للمجتمع التونسي من تنمية جهوية ومحلية وتشغيل وقدرة شرائية وقطيعة مع كل أشكال التبعية إلى جانب المشاركة الشعبية الواسعة في السلطة. بل إنّ الأزمة ازدادت سعة وعمقا وباتت متطلبات الحياة الدنيا أو على الأقل جزءا هاما منها غير متوفرة. وتفاقمت نسب العجز والبطالة والفقر وتكثفت محاولات الهجرة النظامية وغير النظامية هربا من جحيم الفقر والبطالة والخصاصة. وتكثفت معدلات الجريمة بأنواعها وفي نفس الوقت نشطت الاعتداءات على حرية النشاط والتعبير ونظمت الحملات القمعية والمحاكمات الجائرة لإسكات أصوات المعارضين باعتبار ذلك الحل الوحيد المتبقي للحفاظ على منظومة الحكم والاستمرار في السلطة.
لقد تواصل في ظل الحكم الشعبوي اليميني تغييب الشعب عن إدارة الشأن العام والاكتفاء بمؤسسات ديكور في تعارض واضح وصريح بين الخطاب والممارسة. ووقع التراجع عن المكتسبات التي حققتها الثورة وأهمها الانتخابات الديمقراطية بإشراف هيئات مستقلة والصلاحيات الممنوحة للمؤسسات التمثيلية وحق التعبير والاجتماع والاحتجاج إلى جانب الدور الواسع لمنظمات المجتمع المدني التي تشارك عبر إبداء الرأي في رسم القوانين، والهيئات التعديلية والإنسانية الرسمية.
من أجل إعادة الأمور إلى نصابها
نعتقد ألّا حلول حقيقية لمشكلات المجتمع الأساسية ولا إمكانية لتجاوز الأزمة الهيكلية والمزمنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية والقيمية والأخلاقية إلّا بإتاحة دور أكبر وأوسع وأهمّ للشعب التونسي حتى يحكم بنفسه ولنفسه ويضبط الخيارات والبرامج والسياسات التي من شأنها إتاحة فرص إرساء اقتصاد وطني مستقل موجه لخدمة الحاجيات الأساسية المحلية، اقتصاد منتج للثروة وقادر على تشغيل الشباب العاطل والمعطل وعلى تحسين القدرة الشرائية وتطوير الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وثقافة وخدمات بيئية… في إطار دولة قانون ومؤسسات ديمقراطية منتخبة انتخابا حرا وديمقراطيا وشفافا مع حق الناخبين في سحب الثقة من أيّ مسؤول أو هيئة منتخبة. دولة تقطع جذريا مع كل أشكال التبعية وتلغي الاتفاقيات والمعاهدات التي تتضارب مع السيادة الوطنية وتمسّ من كرامة الشعب التونسي الحر والسيد.
إن إعادة الأمور إلى نصابها يتمثل في إحلال منظومة جديدة وطنية وديمقراطية وشعبية تمكن الشعب بكل طبقاته وفئاته من أن يكون صاحب السلطة الحقيقية يتصرف بحرية ومسؤولية في ثروات وخيرات بلاده ويحدد العلاقات مع الدول وفق ما يخدم الصالح المشتركة ويكرس التعاون والتآخي مع شعوب العالم لا مجرد ناخب ينتهي دوره بانتخاب رئيس أو برلمان أو مجلس بلدي…
فالشعب ينبغي أن يشكل السلطة الحقيقية من خلال هيئات تمثيلية جديدة ممثلة لكل فئاته وطبقاته من عمال وفلاحين ومثقفين ومبدعين وموظفين ونساء وشباب وغيرهم، وهيئات تتمتع بسلطات تشريعية وتنفيذية حقيقية : تسنّ القوانين والتشريعات المختلفة بما في ذلك قانون المالية وتنظر في المعاهدات والاتفاقيات الدولية وتنتصر لحق الشعوب في تقرير مصيرها وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني الشقيق وتنتخب المسؤولين في الجهاز التنفيذي بما في ذلك رئيس الدولة ورئيس الحكومة والوزراء والقضاة وسلط الإشراف الإداري والمالي وتتابع وتحاسب الجميع دون استثناء مهما كانت مواقعهم وتسحب الثقة من أيّ مسؤول يخلّ بواجباته ويتخذ قرارات تتضارب مع التوجهات العامة المتفق بشأنها.
كل الأطراف الحزبية والجمعياتية والفعاليات والأفراد المنتصرون لشعار “السلطة للشعب” والذين يعوّلون على دور أساسي للشعب في إدارة الشأن العام معنيون بالنضال والمراكمة على طريق التغيير الجذري الذي من شأنه توفير الشروط الضرورية وخلق الأرضية المناسبة حتى يضطلع الشعب التونسي بهذا الدور ويدخل التاريخ من الباب الكبير بعد عشريات من التهميش والتغييب والاستغلال والفساد وبيع البلاد.
صوت الشعب صوت الحقيقة
