الرئيسية / الافتتاحية / الجمهورية بعد أربع سنوات من انقلاب 25 جويلية 2021:
الجمهورية بعد أربع سنوات من انقلاب 25 جويلية 2021:

الجمهورية بعد أربع سنوات من انقلاب 25 جويلية 2021:

جمهورية في الخطاب، دكتاتورية في الواقع
شعب في الخطاب، رعيّة في الواقع

في 25 جويلية من سنة 1957، أي بعد حوالي 16 شهرا من “إعلان الاستقلال”، أنهت السلطات الجديدة في تونس بقيادة بورقيبة نظام “البايات” وأعلنت قيام “الجمهوريّة”. وبعد ذلك بحوالي عامين وتحديدا في 1 جوان 1959، صدر الدّستور الذي كان من المفروض أن يؤسّس هذه “الجمهوريّة”. لكن تبيّن أنّ هذا التّأسيس كان شكليّا لأن الدّستور الذي صِيغَ لم يضع قواعد نظام جمهوري وإنّما أرسى نظامَ حكمٍ فرديٍّ، دكتاتوري وقمعي يمثّل مصالح الأقلية البورجوازية العميلة وأسيادها الاستعماريّين الجدد. وقد آل نظام بورقيبة في النهاية إلى نظام رئاسة مدى الحياة صحّ نعته بـ”الجملكيّة” بمعنى أنّه كان في الواقع ملكيّة بغطاء جمهوري زائف. ولم يتنحّ بورقيبة عن الحكم إلّا بانقلاب “طبّي” في 7 نوفمبر 1987. لكنّ الجنرال بن علي الذي عوّضه لم يفعل أكثر من تجديد نفس النظام الدكتاتوري العميل وتقويته إلى أن ثار ضدّه الشعب التونسي في أواخر سنة 2010 وبداية 2011 وأسقطه منشدا الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنيّة.
لقد مثّلت ثورة 2010-2011 فرصة للشّعب التونسي لتأسيس جمهوريّة ديمقراطيّة تمثّل مصالحه الوطنية والاجتماعيّة وتضمن لأفراده الحرية والمساواة والمشاركة النشيطة في إدارة الشّأن العام. لكن موازين القوى الطبقية والسياسية لم تنتج أكثر من تغيير لشكل الحكم فانتقلت بلادنا من نظام الحكم الفردي الدكتاتوري إلى نظام ديمقراطي، بورجوازي، تمثيلي وفقا لدستور 2014. وهو ما كان يُعتبَر خطوة إيجابية مقارنة بالفترات السابقة إذ توفّرت للشعب التونسي الحرية السياسية كما توفرت له الإمكانية القانونية، الشكلية لانتخاب ممثليه في البرلمان وفي المجالس البلدية. لكن هذه التجربة لم تعمّر طويلا فقد عطّلت قوى اليمين البورجوازي، الليبرالي والديني، تطوّرها واستكمالها حتى في حدودها الدّنيا وأغرقت البلاد في أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وقيمية خانقة وهو ما فتح الباب لصعود الشعبوي، اليميني المتطرف، قيس سعيّد لسدة الرئاسة في انتخابات 2019 كما فسح له المجال للقيام بانقلاب داخلي يوم 25 جويلية 2021 وإزاحة خصومه من الحكم والانفراد بالسلطة في خطوة لم يكن الهدف منها سوى إنقاذ نظام العمالة والاستغلال.
لقد وضع قيس سعيّد يده على الحكم مدعيا أنّه جاء لـ”تصحيح مسار الثورة” و”تأسيس “الجمهورية الثالثة” و”إعادة الحكم للشعب”. لكن ما حصل هو عكس ذلك تماما. لقد صفّى قيس سعيّد مكتسبات ثورة 2010-2011 الديمقراطيّة وأعاد البلاد إلى مرّبّع الدكتاتورية وهو ما جسّده دستور 2022 وكل المراسيم والأوامر والقوانين التي خطّها قيس سعيّد بنفسه. فقد عاد الحكم الفردي المطلق في أبشع تجلياته إذ جمّع قيس سعيد بين يديه كلّ السلطات التي حوّلها إلى مجرّد وظائف تحت إمرته، فلا برلمان يشرّع ويراقب ولا حكومة تسطّر وتنفّذ ولا قضاء يحكم باستقلاليّة بل مجرّد أجهزة شكليّة، منزوعة الصلاحيّات، تنفّذ ما يأمر الحاكم الفرد بتنفيذه. كما أنّ قيس سعيّد صادر الحريات عبر ترسانة القوانين القمعية سواء الموجود منها من قبل أو الذي أضافه بنفسه مثل المرسوم 54 فوضع يده مجددا على وسائل الإعلام وصحّر الحياة السياسية والمدنية وملأ السجون مجددا بالمعارضين وأصحاب الرّأي المخالف والمحتجين والمشاركين في الحركات الاجتماعية وأشاع الخوف في المجتمع في الوقت الذي تغرق فيه البلاد في المديونية والتبعية وتتفاقم البطالة والفقر والجوع والعطش وتشتعل الأسعار وتتدهور الخدمات العامة وتزداد الجريمة وتتعمق الأزمة القيمية والأخلاقية والانقسامات والتفكّك داخل المجتمع.
وهكذا فقد تجلّى بشكل واضح، بعد أربع سنوات كاملة، من انقلاب 25 جويلية 2021 أنّ جمهورية قيس سعيد الثالثة هي مجرّد كذبة بل شعار فارغ يقابله في الواقع دكتاتورية فاشية متخلفة لا يتجاوز فيها وضع الشعب التونسي وضع الرّعية. فهو بشكل مركّز ومختصر شعب بلا حقوق ولا كرامة. وهو ما يطرح عليه مجدّدا النضال من أجل انتزاع حريته وحقّه في حياة كريمة. وهو ما لن يتحقق إلّا في إطار جمهورية ديمقراطيّة تكون من إنجازه وتكون له فيها السيادة على الدولة وعلى ثروات البلاد. إنّ تحقيق هذه الجمهورية على أنقاض الدكتاتورية الحالية هي مهمّة العمّال وعموم الكادحين في المدن والأرياف والمثقفين والمبدعين والشباب والنساء الطامحات إلى العزة والمساواة. إنّ الطريق يبدأ من تنظيم الصفوف والجرأة على المقاومة والتصدّي لكافة أشكال القمع والاعتداء على القوت اليومي للشعب والالتفاف حول برنامج موحّد. وهذا ليس بالأمر المستحيل على الشعب التونسي ذي التاريخ الحافل بالنضالات والمواجهات مع الدكتاتورية والرجعيّة. إنّ الحرية لا تنقسم ولا وسط فيها. كما أنّ الشعب الذي يتهاون في الدفاع عن حرّيته ويقبل التنازل عنها أو حتى عن بعضها إنّما يرشّح نفسه للعبوديّة الكاملة. وقد بيّن الشعب التونسي في كافة مراحل تاريخه أنّه شعب لا يقبل الهوان حتّى إن مرّ بفترات صعبة.
فإلى النضال ضدّ الدكتاتورية والفاشية. إلى النضال من أجل الجمهورية الديمقراطية الشعبيّة. جمهورية العمال والكادحين والفقراء والنساء المضطهدات والشباب المحروم والمثقفين والمبدعين الأحرار.

إلى الأعلى
×