بقلم زياد بن عبد الجليل (*)
اعتصم الدكاترة المعطلين عن العمل منذ يوم 11 أوت 2025 أمام وزارة التعليم العالي، مطالبين بالانتداب المباشر في التعليم لـ5000 دكتور عاطل عن العمل كدفعة أولى، معتبرين أنّ توجّه الوزارة لحلّ الملف على مراحل وعبر التناظر حسب تصريح الوزير في جلسة مع البرلمان في 7 جويلية يعتبر مخالفة صريحة لما وعدت به رئاسة الجمهورية في بلاغها الصادر على الفايسبوك بعد اجتماع 13 فيفري الذي ضمّ الرئيس بوزير التعليم العالي.
وبالتوازي مع الاعتصام، اكتفت مجموعة أخرى من الدكاترة بوقفة احتجاجية أمام المسرح البلدي اقتصر احتجاجها على التشهير بتباطؤ الوزارة في تنفيذ توصيات الرئيس، ولم يتجاوز سقف مطالبها تحديد خارطة طريق ومعايير واضحة للانتداب، دون معارضة مبدأ التناظر في حدّ ذاته.
هذا، وتتفق المجموعتان، اللتان كانتا مجموعة واحدة منذ أشهر ثم انقسمتا على خلفية الموقف من المناظرة، واللتان تقودان تحركات الدكاترة حاليا وتتلاسنان في ذلك، أنّ توجيهات الرئيس حسمت حلّ معضلة تشغيل الدكاترة حسما نهائيا وعادلا لكن الوزارة والإدارة واللوبيات الجامعية تعطل هذا الحلّ.
ولقد فضت المجموعة الأولى اعتصامها بطلب من قيس سعيد خلال زيارته للاعتصام يوم الخميس 21 أوت واعدا ببذل ما يقدر لانتداب الدكاترة وفق الصيغ القانونية داعيا إيّاهم للانخراط من مواقع متقدمة في الدولة كالجنود في جبهة القتال. وبالتالي عاد الدكاترة إلى المربع الأول حيث أصبح ضمان عقد هشّ خلال هذه السنة أخف الضررين في انتظار انتداب قد يأتي وقد لا يأتي، بعد أن بدأ يتشكل وعي بمقاطعتها خلال موجة التحركات الأخيرة، باعتبار عقود الساعات العرضية شكل من أشكال العمل الهشّ.
فكيف وصلت قضية الدكاترة ومطالبهم في التشغيل للجميع إلى هذا الأفق الضيق اليوم؟
نبذة عن تاريخ قضية الدكاترة المعطلين ونضالهم منذ 2011 إلى 2024
لقد بدأت ظاهرة بطالة الدكاترة في التشكل منذ 2010 تقريبا كنتيجة للأزمة هيكلية للتعليم العالي والبحث العلمي في تونس وفي العالم (لاحظوا بطالة الدكاترة في عديد الدول المتقدمة خاصة العلوم الإنسانية والبيولوجيا)، وكإفراز لتطبيق منظومة “أمد” التي اعتمدها النظام السابق، وكوجه من أوجه فشل السياسية والاقتصادية اللاشعبية للدكتاتورية التي عمقتها الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008، سياسات واصلت فيها كل الحكومات بعد الثورة وبعد الانقلاب.
انطلقت تحركات الدكاترة منذ سنة 2012 حيث نظمت المسيرات والوقفات الوطنية أمام مركز السلطة السياسية آنذاك أي البرلمان مطالبة بحق كل الدكاترة في الانتداب في التعليم العالي والبحث العلمي بما أن تكوين الدكتور، على خلاف تكوين الإجازة والماجستير، موجّه كلّيا نحو البحث والتدريس. ليتجذّر نضال الدكاترة من جديد منذ 2017 بعد غلق باب الانتداب نهائيا، ويبلغ أوجه باعتصام ملحمي للدكاترة داخل وزارة التعليم العالي انطلق في 29 جوان 2020 وصمد لمدة تفوق السنة، ولقي مساندة من الاتحاد والرابطة والمثقفين ومن الأحزاب المعارضة وعلى رأسها حزب العمال الذي تعهّد الاعتصام بالزيارة والمساندة الدورية. وقد تخلل الاعتصام إضراب جوع دام لشهر، زاره الرئيس طالبا رفعه وظاهرا فيه بمظهر المنتقد لحكومة المشيشي الفالت عنه حينها دون أن يقدّم حلا ملموسا للمضربين. لقد صمد الاعتصام أمام محاولات فضّه بالقمع البوليسي ليحقق في الأخير نجاحا نسبيا، بمعايير ميزان القوى حينها، في فرض انتداب حوالي 2000 أستاذ مساعد على 3 مراحل، لم تفي الدولة بقسطه الثالث إلى حدّ كتابة هذه الأسطر. لكنه فشل في تحقيق المطلب المركزي لنضال الدكاترة: تشغيل كل الدكاترة المعطلين في الانتداب في التعليم العالي والبحث العلمي.
عرفت نضالات الدكاترة المعطلين عن العمل حالة جزر وتراجع ككل الحركات الاجتماعية بسبب ذروة جائحة كورونا في صائفة 2021 ثم بسبب طغيان حالة الانتظارية على المزاج الاجتماعي بعد انقلاب 25 جويلية الذي أغدق الوعود المخاتلة بالعدالة الاجتماعية على الجميع، ممّا أدّى إلى كبح الاحتجاجات الاجتماعية حسب إحصائيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ثمّ عادت الحركة في صفوف الدكاترة المعطلين، في سياق تصاعد موجة الاحتجاج الاجتماعي من جديد، منذ ما يقارب السنة مستعيدة المطلب المركزي والجذري للحركة والمتمثل في ضمان الشغل لكل الدكاترة المعطلين تدريسا وبحثا.
الحركة الأخيرة للدكاترة وأمراض الشعبوية
ورغم رفع النسخة الأخيرة من الحركة (2024-2025) للشعار المركزي العابر لكل أجيال الدكاترة المتخرجين منذ 2011: التشغيل في التعليم العالي والبحث العلمي للجميع، فإنها لم تكن في مأمن من الوقوع، كأغلب الحركات الاجتماعية في تونس اليوم، في فخ الشعبوية التي تجزل الوعود وتبخل في الإنجاز. بل إنّ الحركة الأخيرة للدكاترة طبعتها كل أمراض حزب الشعبوية.
تتشكل الحركات الاجتماعية كحركات مستقلة عن السلطة، أو جزء منها، وتتعاطى معها كطرف مقابل تضغط عليه بكل الطرق المتاحة بالنسبة لها لتحسين شروط تفاوضها معها وللاقتراب من هدف تحدده بشكل مستقل عن هذه السلطة. لكن الحركات الاجتماعية في تونس أصيبت في زمن الشعبوية، التي تدّعي التحام الشعب بالسلطة من ناحية وتمركز السلطة بين يدي شخص واحد من ناحية أخرى، بارتباك البوصلة بل قد تحوّل بعضها إلى فصيل من فصائل حزب الشعبوية.
رغم حفاظ حركة الدكاترة المعطلين عن مسافة من السلطة في السابق، وخاصة في اعتصام 2020-2021، فإن الحركة الأخيرة، وبشقيها، وقعت في خطأ الاقتراب من فلك رئاسة الجمهورية، مغترّة بمعسول وعودها (خطاب يوم العلم في 2024، بلاغ 13 فيفري 2025)، حتى فقدت استقلالية قرارها عمليا، وأصبح قيس سعيد، بل “مستشاره” أحيانا، هو من يحدد سقف مطالبها ويحدد إيقاعها بل ويرفع اعتصامها الذي رُفِعت فيه صور الرئيس بجانب مطالب الدكاترة. ومن مظاهر التفريط في الاستقلالية تحوّل ممثلي الحركة إلى مفسّرين لخطى وحركات وسكنات وإشارات الرئيس الملهم، ومتبنّين لخطاب المؤامرة التي تبثه الشعبوية والذي خلق شخصية “اللوبي الجامعي”، شرشبيل الجامعة التونسية، الذي يحاول تعطيل توجيهات الرئيس الحكيم. لقد وقعت الحركة الأخيرة في هذا الخطأ في حين أنّ المطلوب منها كان ترجمة مطالب مختلف شرائح الدكاترة وتأليفها في شكل مطالب تخدم الهدف الرئيسي أي تشغيل كل الدكاترة المعطلين، والتفاوض الندي مع السلطة، وتبيان أنّ “اللوبي الجامعي” ليس إلا بيروقراطية الدولة والتي يستند إليها قيس سعيد ذاته في حكم البلاد اليوم.
ومن أمراض الحركة الأخيرة للدكاترة معاداة كل المنظمات والأحزاب بل ووسائل الإعلام المحسوبة على المعارضة، من ذلك احتجاج المعتصمين أمام الوزارة على بيان مساندة صادر عن الجامعة العامة للتعليم الثانوي ووصم جماعة المسرح البلدي المعتصمين بـ”جماعة الاتحاد”، كل ذلك يحدث في الوقت الذي يهاجم فيه مريدو السلطة مقر الاتحاد ويتقدم سعيد أشواطا في محاصرته للاتحاد والإجهاز عليه. إنّ معاداة الأجسام الوسيطة هو مرض من أمراض الشعبوية الذي تبثه في المجتمع بغاية حرمان الجماهير من أدوات إسناد نضالها للاستفراد بها. ليس مطلوبا من حراك الدكاترة المعطلين عن العمل أن يذوب في جمعية أو منظمة أو حزب، فكما أنّ الاستقلالية عن السلطة شرط من شروط نجاح الحركة فإنهم يبقون شريحة مختلفة عن الشرائح التي تدافع عنها النقابات ويجب أن يحافظوا على استقلالية حركتهم عنها، لكن خصم الدكاترة ليس النقابات أو الرابطة بل خصمها هو الحكومة التي يرأسها قيس سعيد والتي تترجم ميزانيتها سياستها العامة، وفي الميزانية لم ترصد اعتمادات للانتداب ولم ترصد زيادة في الأجور. السلطة إذن هي موضوعيا خصم النقابات والحركات الاجتماعية معا وبالتالي فإن النقابات هي حليف الحركات الاجتماعية، ومنها حركة الدكاترة المعطلين. إنّ معاداة حركة الدكاترة للاتحاد وريبتها من كل المنظمات ساهم بشكل كبير في ضرب عزلة حول اعتصامها وحرمانها من أدوات مناورة مع السلطة، لكن هيهات فالحركة الأخيرة لم تنظر إلى السلطة كخصم، بل نظرت إليها كمخلص، وهذا خطأ.
تبرز الحركة الأخيرة للدكاترة محافظة المطلب المركزي على راهنيته، ممّا يعني أن الحركة ستتواصل بأشكال مختلفة ومتفاوتة نضاليا. إنّ المحدّد في شكل ومضمون الحركة مستقبلا هو ما سيقرره الدكاترة المعطلون في مصير علاقتهم بالسلطة. فإمّا المواصلة في تصديق وعود السلطة الشعبوية الممركزة بين يدي قيس سعيد وبالتالي إضاعة الوقت أو استعادة الاستقلالية عنها والضغط عليها لتحقيق مطلب الانتداب للجميع. لكن الغائب في تحركات الدكاترة منذ 2011 إلى اليوم هو الوعي بعضوية العلاقة بين بطالتهم وبين أزمة البحث العلمي والتعليم العالي ككل وطنيا وعالميا، فالحركة لم تطرح قطّ مسألة إصلاح التعليم العالي المتهالك والبحث العلمي المتعطل وبقيت حبيسة لنظرة فئوية ووظيفية ضيقة، وتلك مسألة أخرى سنعود إليها لاحقا.
(*) دكتور معطل عن العمل
صوت الشعب صوت الحقيقة
