الرئيسية / صوت الثقافة / لحظة انتصار على السردية الصهيونية في السينما: فيلم صوت هند رجب لكوثر بن هنية في البندقية
لحظة انتصار على السردية الصهيونية في السينما: فيلم صوت هند رجب لكوثر بن هنية في البندقية

لحظة انتصار على السردية الصهيونية في السينما: فيلم صوت هند رجب لكوثر بن هنية في البندقية

بقلم كوثر الباجي

منذ عقود طويلة، شكّلت السينما العالمية أداةً قويةً لتكريس السردية الصهيونية، إذ عملت أفلام عديدة على تقديم “إسرائيل” كضحية محاطة بالأعداء، وكشعب مقهور يبحث عن البقاء وسط محيط معادٍ. هذه السردية، التي غذّتها آلة هوليوود المدعومة بقوى ضغط مالية وسياسية وإعلامية، صنعت صورة مشوهة للواقع في فلسطين، وأعطت شرعية رمزية للاحتلال، بحيث ظهر الجلاد في موقع الضحية، بينما غُيِّب الفلسطيني كلياً أو اختُزِل في صورة “الإرهابي” أو “البرابري”.

غير أن هذه المعادلة تغيّرت جزئياً في قلب مهرجان البندقية السينمائي، أحد أهم المواعيد العالمية للفن السابع. فقد جاء عرض فيلم “صوت هند رجب” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية ليحدث صدعاً حقيقياً في هذه البنية المتجذرة. الفيلم لم يكن مجرد عمل إبداعي، بل لحظة انتصار رمزي وثقافي على رواية صهيونية طالما بدت راسخة في المخيال السينمائي العالمي. فقد كشف، بجرأة نادرة، الوجه الحقيقي لـ”إسرائيل”: جيش غاصب، لا أخلاقي، متورط في القتل والجرم، ودولة قامت على الاغتصاب الممنهج للأرض والتاريخ والذاكرة.

السينما كسلاح للسردي

ولفهم قوة هذا الحدث، لا بد أولاً من العودة إلى الدور المركزي للسينما في تشكيل الوعي الجمعي. فمنذ النكبة سنة 1948، سخّرت الدوائر الصهيونية موارد هائلة لاختراق الفضاء السينمائي الغربي. هوليوود، بقدرتها على التوزيع العالمي، تحولت إلى ساحة معركة رمزية، حيث انتصر “الكيان الصهيوني” لعقود على الشاشة، حتى في لحظات هزيمته العسكرية أو ارتكابه المجازر.

وفي هذا السياق، تُقدَّم إسرائيل غالباً ككيان هشّ، مهدَّد من الخارج، يحمل ذاكرة المحرقة في وعيه الجماعي، ويكافح للبقاء في مواجهة “الإرهاب العربي”. هذه الاستراتيجية لم تكن عفوية، بل جزء من ماكينة سياسية – ثقافية متكاملة. في المقابل، غُيّبت القصة الفلسطينية، أو حُشرت في زوايا مظلمة: الفلسطيني هو “الخطر”، “الآخر”، “الذي لا يعرف لغة الحضارة”.

من هنا يمكن القول إن أي عمل فني يخرق هذه البنية يعدّ فعلاً سياسياً بامتياز، لأنه لا يقدّم مجرد صورة جديدة، بل يهزّ أسساً أيديولوجية بُنيت عبر عقود من التكرار والتغليف الإعلامي.

هذا الفيلم حمل جرأة مضاعفة

وإذا عدنا إلى مسيرة كوثر بن هنية، نجد أنها لم تدخل الساحة العالمية لأول مرة. فقد سبق لها أن لفتت الأنظار بأفلام مثل “الرجل الذي باع ظهره”، الذي رُشِّح لجائزة الأوسكار. غير أن فيلم “صوت هند رجب” يختلف في عمقه السياسي ورمزيته.

فمن جهة، يقدّم رواية مغايرة في فضاء غربي اعتاد على صورة واحدة عن “الشرق الأوسط”. ومن جهة أخرى، يضع الكيان الصهيوني تحت المجهر كفاعل أساسي في المأساة، لا كضحية.

إن كوثر بن هنية لم تُخفِ خلفياتها ولا رؤيتها النقدية. بل على العكس، استخدمت وعيها كفنانة عربية تنتمي إلى منطقة دفعت ثمن الاحتلال بشكل مباشر وغير مباشر، وحوّلت السينما إلى منصة لكشف المستور وإعادة الاعتبار للحقيقة التي لطالما حُجبت: حقيقة احتلال دموي، يقوم على السلب والقمع والقتل.

من الضحية إلى الجلاد

وفي هذا الإطار، يأتي فيلمها ليغير قواعد اللعبة. فبدلاً من إعادة إنتاج ثنائية “الضحية – الإرهابي”، يعرّي الفيلم الوجه العسكري لدولة الاحتلال. الجيش الذي يُقدَّم في الإعلام الغربي كـ”الأكثر أخلاقية في العالم” يظهر هنا في صورته الحقيقية: آلة قتل بلا رادع، تستهدف المدنيين بدم بارد.

وهكذا، يكشف الفيلم عن فلسطين المخفية وراء الضجيج الدعائي. لا يكتفي بتوثيق المعاناة، بل يربطها ببنية استعمارية متكاملة: مصادرة الأرض، قتل الأطفال، تدمير البيوت، محو الذاكرة. وهذه ليست أحداثاً متفرقة، بل منظومة جريمة مستمرة.

البندقية: منصة كونية لكشف الحقيقة

ولعل ما زاد من قوة الأثر، هو أن اختيار موسترا دي فينيسيا (مهرجان البندقية) كفضاء لعرض الفيلم لم يكن تفصيلاً عابراً. فالمهرجان، بثقله الرمزي وسمعته العالمية، منح العمل منصة كونية، لا محلية.

وعليه، حين يُعرض فيلم كهذا في مثل هذا الفضاء، فإن صداه يتجاوز حدود القاعات السينمائية. تتحول اللقطات والشخصيات والحوارات إلى مادة للنقاش الإعلامي والسياسي. وهنا، تكمن اللحظة الانتصارية: لأول مرة منذ زمن طويل، يُكسر احتكار السردية الصهيونية في فضاء نخبوي غربي، ويقدَّم الكيان ليس كضحية بل كجلاد.

الأثر الرمزي والسياسي

ولا يمكن التقليل من أهمية الرمزية، إذ أن الفن، حتى وإن بدا بعيداً عن السياسة المباشرة، يؤثر في الرأي العام أكثر من البيانات السياسية. فيلم مثل “صوت هند رجب” قد لا يغير موازين القوى العسكرية، لكنه يفتح ثغرة في جدار الدعاية الصهيونية.

وهنا، يتجلى الأثر في مستويات عدة:
على الجمهور الغربي: إذ يتعرض لرواية بديلة لم يعتد عليها.
على المشهد السينمائي: يفتح الباب أمام أعمال أخرى ويشجع مخرجين شباباً على طرق أبواب مغلقة.
على المستوى السياسي: يعيد النقاش حول صورة الكيان الصهيوني، ويكشف نفاق خطابه الذي طالما تباهى بـ”الأخلاقية”.

السينما العربية كأداة مقاومة

ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن السينما العربية، رغم التحديات الهائلة التي واجهتها بين الرقابة والتمويل والهيمنة الثقافية الغربية، بدأت تجد صوتها من جديد. ومع مخرجات مثل كوثر بن هنية، لم يعد هذا الصوت ضعيفاً ومجزأً، بل صار مسموعاً ومؤثراً.

فالفيلم إذن ليس فقط عملاً فنياً، بل امتداداً لخط مقاومة ثقافية تعتبر أن المواجهة لا تقتصر على الميدان العسكري أو السياسي، بل تشمل أيضاً الفضاء الرمزي والمعنوي.

نحو كسر الهيمنة وإعادة التوازن

وبناءً على ما سبق، يتضح أن السردية الصهيونية لم تُبنَ على حقائق، بل على تلاعب ذكي بالصور والكلمات. لذلك، حين يأتي فيلم مثل “صوت هند رجب” ليعيد سرد الحكاية من زاوية الضحايا الحقيقيين، فإنه يزعزع هذه الهيمنة.

وفي المقابل، يكشف هذا النجاح هشاشة الرواية الصهيونية، فهي تحتاج إلى دعم مستمر من اللوبيات الإعلامية والمالية حتى تبقى حية. يكفي أن يظهر فيلم واحد قوي ومتماسك ليكشف زيفها.

نحو مرحلة جديدة

قد يكون من المبكر الحديث عن تحول جذري في الموقف الغربي من القضية الفلسطينية. لكن المؤكد أن ما حدث في البندقية هو بداية مسار جديد. السينما العربية لم تعد مجرد متفرج على ما يُقال في الغرب، بل صارت قادرة على فرض روايتها.

وهكذا يمكن القول إن الفن، حين يلتزم بالحقيقة، يصبح أداة مقاومة لا تقل قوة عن الكلمة السياسية أو الفعل الميداني. وعليه، فإن عرض فيلم كوثر بن هنية في البندقية لم يكن مجرد حدث سينمائي، بل محطة في مسار مقاومة سردية، وانتصار رمزي للعرب وللقضية الفلسطينية في فضاء عالمي طالما كان محتلاً.

في الختام، يمكن اعتبار أن لحظة عرض فيلم “صوت هند رجب” في مهرجان البندقية ليست فقط انتصاراً لمخرجة تونسية، ولا نجاحاً فنياً فردياً، بل حدثاً تاريخياً في مواجهة السردية الصهيونية التي هيمنت على السينما العالمية لعقود. لقد قدّم للعالم صورة أخرى: إسرائيل ليست الضحية، بل هي الجلاد.

وبذلك يتضح أن السينما، حين تتحرر من سطوة اللوبيات وتفتح المجال للأصوات الحرة، قادرة على قلب الموازين. وما حدث في البندقية قد يكون بداية لمرحلة جديدة، حيث يجد الفلسطيني صوته على الشاشة، لا كـ”إرهابي”، بل كإنسان، ضحية استعمار.

إلى الأعلى
×