الرئيسية / صوت الاقتصاد / ردّا على الدعاية الرسمية: النموّ الوهمي (الجزء الثاني)
ردّا على الدعاية الرسمية: النموّ الوهمي (الجزء الثاني)

ردّا على الدعاية الرسمية: النموّ الوهمي (الجزء الثاني)

بقلم جيلاني الهمامي

ردّا على الدعاية الرسمية: النموّ الوهمي (الجزء الأول)

حاولنا في العدد السابق تبيان المغزى الحقيقي للعديد من الأرقام والمعطيات التي استعملتها وسائل الإعلام الرسميّة وشبه الرسميّة لبثّ دعاية تضليلية بغاية “التدليل” على النجاحات الاقتصادية لنظام الحكم. ونواصل في هذا الجزء الثاني تسليط الضوء على بعض الجوانب الأخرى في الدعاية الرسميّة حول “الإنجازات” الوهميّة للمنظومة الشّعبويّة.

يمثّل الادّخار الوطني، العمومي والخاصّ، أهمّ مصدر لتمويل الاستثمارات التي تراجعت نسبتها ما بين سنة 2020 والسنة الحاليّة إلى حوالي 16 % من الناتج الإجماليّ المحلي حسب تقرير “ندوة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية” CNUCED(1). ويعود ذلك فيما يعود إلى انهيار نسبة الادخار الوطني في نفس المدة من 9.2 % إلى أقل من 5 % وهو ما أدّى إلى نسب نموّ ضعيفة جدّا متأثّرة أيضا بعجز الميزانيّة والعجر التجاري المزمن.

سجّلت موارد الميزانيّة خلال السنوات الأخيرة زيادة سنويّة بحوالي 10 % أي بما لا يفي بالحدّ الأدنى المطلوب لتمويل المصاريف السنويّة(2). وهو ما انجرّ عنه ضغط قويّ على الميزانيّة وإمكانيات التّمويل. ذلك ما خلّف نتيجتين كليهما مضرّ من النّاحية الاقتصاديّة والماليّة وهما عجز الميزانيّة الذي يبقى إلى الآن مرتفعا (6 % سنة 2024) واللّجوء إلى الاقتراض الداخلي والخارجي. وقد توقّعت ميزانيّة السنة الحاليّة 2025 أن يرتفع مجموع الدّيون التونسيّة إلى 147 مليار دينار أي حوالي 81 % من النّاتج الداخليّ الخام.

حول حقيقة التّعويل على الذّات

وهو من الشّعارات التّضليليّة التي تستعملها سلطة قيس سعيّد وأتباعها وتكذّبها الوقائع والمعطيات الرسميّة المنشورة. فقد اعترف سمير عبد الله وزير الاقتصاد والتّخطيط أمام البرلمان في شهر ماي الماضي أنّ البرلمان صادق على 19 اتّفاقية قرض وهو نفس عدد القروض التي سبق أن صادق عليها البرلمان سنة 2015. وللمقارنة فإنّ البرلمان صادق في دورته ما بين 2015 و2019 على 136 اتفاقية قرض في حين أنّه صادق ما بين 2020 و2024 على 80 اتفاقية قرض(3). ما يعني أنّ خيارات الدولة قبل مجيء قيس سعيّد وبعده لم تتغيّر فيما يتعلّق بطريقة تمويل الاقتصاد والتعويل على الاقتراض الداخلي والخارجي. وللتدليل على ذلك فقد ارتفعت نسبة التداين بـ 7.2 % هذه السنة مقارنة بالعام الماضي. مع الإشارة إلى الفارق في كلفة القروض المصادق عليها قبل 2019 والمصادق عليها بعد هذا التاريخ.

وإلى حدود سنة 2021 كانت الديون الخارجية تطغى على هيكلة المديونية التونسية لتترك مكانها اليوم للديون الداخلية التي أصبحت تمثّل هذه السنة 57 % من مجموع المديونية وذلك بسبب الصعوبات التي تلاقيها بلادنا في الأسواق المالية العالمية بعد تعطّل المفاوضات مع صندوق النّقد الدولي بصدد القرض الممدّد بمبلغ 1.9 مليار دولار.

إنّ ما يقع ترويجه حول “رفض” السلط التونسية لإملاءات صندوق النّقد الدولي هو محض مغالطة وقلب للحقائق وادّعاء لا أساس له من الصحة ذلك أنّ الحكومة التونسية التي أنهت كل المشاورات مع الصندوق عبر فريقه التقني المكلّف ومن خلال حضورها لاجتماعات مواعيد الربيع والخريف صادقت على مضمون “اتفاقية القرض الممدّد” بما جاء فيها من أحكام وشروط ومنها “الإصلاحات” الاقتصادية والمالية والاجتماعية وكانت على أهبة إمضاء الاتّفاقية(4) لو لا اشتراط الصّندوق أن يكون الإمضاء من قبل رئيس الدولة لا الحكومة.

إنّ رفض قيس سعيّد إمضاء الاتفاقية لأسباب سياسيّة انتخابيّة (تتعلق بمستقبله السياسي) لا يعني بالمرّة رفضه لمضمونها بل بالعكس سعى بكل جهده إلى إقناع صندوق النقد الدولي بالاكتفاء بإمضاء الحكومة الأمر الذي تم رفضه. والدليل على ذلك أن شرعت الحكومة في تنفيذ “إصلاحات” الصندوق حتى في ظل فشل الصفقة وطيّ صفحتها. ذلك ما تضمنته ميزانيات السنوات الماضية فيما يخصّ سدّ باب الانتداب والتخفيض من حجم كتلة الأجور إلى 12 % والتخفيض من اعتمادات الدّعم وخوصصة المؤسّسات العموميّة الخ… وتجدر الإشارة هنا إلى إعلان رئاسة الحكومة التونسية، يوم الثلاثاء 5 أوت 2025، انخراط بلادنا رسميًا في مبادرة لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) بخصوص مقايضة الديون الخارجية باستثمارات موجّهة نحو مشاريع تنموية ومناخيّة(5). ذلك ما يثير مخاوف جدية أن تكون الدّيون المقصودة هي تلك التي حصلت عليها المؤسّسات العمومية. وسبب التخوّف هو أن يكون ذلك مدخلا للتخلي عن جزء من رأسمال هذه المؤسسات لشركاء أجانب. بهذه الطريقة تنفّذ تونس توصية صندوق النقد الدولي المتعلّقة بخوصصة المؤسسات العمومية في الوقت الذي تثير الكثير من الضجيج حول “التعويل على الذات” وعدم “التفريط في مؤسسات الشعب” وما إلى ذلك من الشعارات الكاذبة.

ما ينبغي الإشارة إليه أيضا أنّ طيّ صفحة القرض الممدّد لا يعني انقطاع علاقة تونس بالصندوق، فتونس عضو فيه ومطالبة بمقتضى البند الرابع من قانونه الأساسي بالقيام بمشاورات دورية كل سنة. غير أنّ هذه المشاورات (الإجبارية) تعطلت أكثر من اللزوم (من وجهة نظر الصندوق) ولم تقع منذ شهر فيفري 2021 وهو ما من شأنه أن ينعكس سلبا على الاقتصاد التونسي في عديد الاتجاهات منها حصول “انطباع سلبي لدى المستثمرين ووكالات الترقيم السيادي وشكوك حول المصداقية السياسية والمالية لتونس”. من جانب آخر ونتيجة لتعطل العلاقات بين الطرفين أصدرت وكالات الترقيم تصنيفات سلبية جدا لتونس واقتصادها ومديونيتها وحتى لبعض مؤسساتها (البنوك مثلا) بحيث لم يعد بإمكانها التوجه للسوق المالية العالمية إلا بشكل محدود للغاية. مع العلم أن الاقتراض من الصندوق يعدّ هو الأقلّ كلفة (إذ لا تتجاوز نسبة الفائدة الـ 6 %). وفي غياب ذلك اضطرّت الحكومة التونسية إلى الاقتراض من البنك الإفريقي للاستيراد والتّصدير Afrimexbank والبنك الإفريقي للتنمية BAD بنسب فائدة تصل إلى 12 % ومن الاتّحاد الأوروبي ومن بعض البلدان (الجزائر مثلا) بنسب عالية هي الأخرى.

وعلى الرّغم من كل هذه الحقائق وغيرها لا تتوانى الدعاية الرسمية عن الإشادة بسياسة “التّعويل على الذات” وحول “السّيادة الوطنيّة” وتحجب عن المواطن كل هذا الخور الذي يكبّد الاقتصاد التونسي أضرارا جسيمة وتزجّ به، أي الاقتصاد، في أتون الضبابية والغموض والعبث والتسيير الرعواني وتخضع البلاد إلى حالة من العمالة لا تختلف عمّا خضعت إليه من قبل سوى في خطاب المغالطة والكذب.

الهوامش

1 – انظر التقرير على الرابط التالي:

Examen de la politique d’investissement : Tunisie

2 – سجلت موارد الميزانية في نهاية 2024 ارتفاعا بـ8.7% حيث ارتفعت قيمتها من 43.2 مليار دينار في نهاية ديسمبر 2023 إلى 47 مليار دينار في ديسمبر 2024 وبعود ذلك إلى تطور العائدات الجبائية بنسبة بلغت 7.9% لتناهز 41.7 مليار دينار، والعائدات غير الجبائية بنسبة 3.3% لتصل إلى 4.6 مليارات دينار.

3 – وفق ما جاء في تصريح الوزير المشار إليه فقد صادق البرلمان على عدد القروض التالية:

 

4انظر تقرير المرصد التونسي للاقتصاد بعنوان الطريق إلى التداين: رصد رحلة مفاوضات تونس المكبلة بالديون مع صندوق النقد الدوليعلى الرابط التالي: imf_monitor_arabic.pdf

5انظر موقع رئاسة الحكومة على الرابط التالي:

مجلس وزاري مُضيّق حول مبادرة لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية (الإسكوا) لمقايضة الديون الخارجية مقابل استثمارات لتنفيذ مشاريع تتكيّف مع التحديات المناخية وتساهم في تحسين المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية | Portail de la Présidence du Gouvernement – Tunisie

إلى الأعلى
×