بقلم جيلاني الهمامي
كنا قدّمنا في الجزء الأول عرضا موجزا عن أهم ما تضمنته وثيقة “مشروع قانون المالية لسنة 2026” والمعطيات المالية الكبرى للميزانية وحاولنا رصد أهمّ خصائص المشروع. ومواصلة في دراسة مشروع الميزانية نحاول فيما يلي استعراض أهم الإجراءات الجبائية التي وردت في مشروع القانون على أن نعود لاحقا على موضوع التداين الداخلي والخارجي الذي مازال يمثل مصدرا أساسيا تلجأ إليه الدولة لتعبئة قسط كبير من الموارد وتصرف له جزءا هاما من نفقاتها في كل ميزانية.
المواطن مصدر أساسي لمداخيل الدولة
تمثل المداخيل الجبائية المتوقعة لميزانية 2026 (47 مليار و773 مليون دينار) تسعة أعشار أو 91% من مجموع مداخيل الميزانية (52 مليار و560 مليون دينار) التي ستعبّئها الدولة في عام 2026، بينما لا تمثل المداخيل غير الجبائية إلا العشر أي 9% فقط (4 مليارات و437 مليون دينار).
وتنقسم المداخيل الجبائية إلى مداخيل الضريبة المباشرة على دخل الأفراد أو الأشخاص الطبيعيين وعلى أرباح الشركات (الأشخاص المعنويين) من جهة ومداخيل الضريبة غير المباشرة (أداء القيمة المضافة والمعلوم على الاستهلاك المعاليم الديوانية).
وحسب التوقعات فإن مداخيل الميزانية ستشهد ارتفاعا بنسبة 7% على الأقل مقارنة بنتائج سنة 2025، وتعزى هذه النسبة إلى تطور مداخيل الجباية نتيجة تحسّن نسبة الاستخلاص. وتستمر الدولة في التعويل على مزيد تحسين مداخيل الجباية بالاعتماد على مزيد توسيع قاعدة الأداء وتبسيط الإجراءات ورقمنة الإدارة للتقليص من هوامش التهرّب.
في هذا الإطار تضمّن مشروع قانون المالية سلسلة من الإجراءات الجبائية ستمكن الدولة من جمع هامش إضافي من المداخيل ولكنه هامش غير كافي لمعالجة الأزمة المالية التي غرقت فيها البلاد من مدة. وفي المقابل من ذلك فإن هذا الهامش سيضاعف الضغط الجبائي الذي يعدّ من أكثر معدلات الضغط في بلدان البحر الأبيض المتوسط.
بالتمعّن في جملة الإجراءات الجبائية الجديدة نلاحظ أنّ غالبيتها تتعلق بتعديلات في إجراءات سبق اتخاذها في قوانين وقوانين مالية سابقة إمّا باتجاه توسيع قاعدة الأداء أو باتجاه تشديد نسبته.
يمكن تصنيف هذه الإجراءات في ثلاثة أصناف سنحاول فيما يلي استعراضها كي نعود لاحقا لاستنتاج ما يجب استنتاجه منها.
أ – إجراءات ابتزاز :
- إجراء ابتزازي يتمثل في التمديد في العمل بـ”الأحكام الظرفية” المتعلقة بما يسمّى بـ”المساهمة الاجتماعية التضامنية” إلى موفى سنة 2027 عوضا عن نهاية 2025 لتصبح بذلك نوعا من الضريبة الدائمة المفروضة على الأفراد (0.5%) وعلى المؤسسات (من 3 إلى 4%).
- عملية ابتزاز أخرى تتمثل في توظيف مبلغ 20 دينار عن كل كراس شروط لا تخضع لمعلوم طابع جبائي و100 مليم عن كل عملية شحن للهاتف الجوال لفائدة الصناديق الاجتماعية التي تعاني من عجز مزمن.
- توظيف معلوم 1500 مليم عن كل فاتورة لكل عملية شراء من المساحات التجارية الكبرى تكون قيمتها ما بيم 50 و100 دينار ومعلوم دينارين لكل عملية تفوق قيمتها 100 دينار.
- وبنفس المعنى سنّ معلوم دينارين عن كل عملية كراء سيارة على شركات كراء السيارات.
- الترفيع في المعلوم على نقل ومقاسمة العقارات غير المرسمة بالسجل العقاري من 100 دينار إلى 200 دينار.
ب – إجراءات شكلية لذرّ الرماد في العيون
- توسيع مجال تدخل صندوق النهوض بالمسكن لفائدة الأجراء وذلك بأن يصبح بإمكانه المساهمة في بناء المساكن وتهيئة المقاسم التي تقوم به شركة SNIT أو SPROLS (الفصل 22 من مشروع القانون).
- إحداث خط تمويل بـ 15 مليون دينار على موارد الصندوق الوطني للتشغيل لإسناد قروض على مدى سنتي 2026 و2027 بغاية بعث مشاريع خاصة في الجهات الأقل نموا وهو مبلغ زهيد لا يغني ولا يسمن جوع (الفصل 24).
نفس الشيء بالنسبة للاعتماد الإضافي بـ35 مليون دينار لخط تمويل الشركات الأهلية. - وكذلك الأمر لإحداث خط تمويل بـ 10 مليون دينار على موارد الصندوق الوطني للتشغيل وعلى مدى سنتي 2026 و2027 لفائدة المؤسسات الصغرى والمتوسطة (الفصل 26).
- إحداث خط تمويل بـ 23 مليون دينار لإسناد قروض من دون فوائد ودون اشتراط ضمانات لبعث مشاريع صغرى طيلة سنة 2026. وإذ يبدو هذا الإجراء في ظاهره مهمّا باعتبار إلغاء الفوائد وضمانات التمويل الذاتي فهو في الحقيقة إجراء محدود الأثر وشكلي إذ بعملية حسابية بسيطة لن ينتفع منه في أحسن الحالات سوى حوالي ألف شخص على أساس قيمة القرض لا تتجاوز 20 ألف دينار وهو مبلغ لا يفي بالحاجة لبعث مشروع قابل للنجاح (projet viable).
- إحداث خط تمويل بمبلغ 10 مليون دينار لإسناد قروض موسمية لفائدة صغار الفلاحين لموسم 2025/2026 (الفصل 28).
- إعفاء عقود القروض الممنوحة لصغار الفلاحين والبحارة من معلوم التسجيل (الفصل 31).
- إحداث صندوق للنهوض بالأشخاص ذوي الإعاقة يتولى تمويل التدخلات المتعلقة بمجالات التكوين والتشغيل وبعث المشاريع. يمول هذا الصندوق عبر الهبات وعبر اقتطاع 1% من التعويضات الناجمة عن حوادث المرور وحوادث الشغل بما يصح عليه العبارة الشعبية المعروفة “منو فيه زيتو يقليه” (الفصل 33).
- إحداث خط تمويل بمبلغ 20 مليون دينار لإسناد قروض دون فائدة لا يتجاوز مبلغ القرض الواحد 10 آلاف دينار لفائدة الفئات الضعيفة ومحدودة الدخل (ما بين 2000 و5000 آلاف منتفع على الأكثر بمبالغ قروض زهيدة في ظل ارتفاع جنوني للأسعار) (الفصل 38).
إجراءات للدعاية
- تكفل الدولة بمساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي بنسب متناقصة على مدى خمس سنوات ابتداء من شهر جانفي 2026 وذلك لتشجيع الخواص على الانتداب. هذا الإجراء كان يستعمله نظام بن علي ولكنه لم يحقق نتيجة تذكر للقضاء على البطالة أو حتى التقليص منها لأن طاقة المؤسسات الخاصة لاستيعاب طلبات الشغل لا تتوقف على مبلغ المساهمة في صندوق الضمان الاجتماعي إنما الأمر يتعلق بمسائل أخرى كثيرة ذات طابع اقتصادي هيكلي ليس هذا مجال الخوض فيها الآن (الفصل 13).
- إجراء آخر شكلي ودعائي لا غير يتعلق بتوسيع صلاحيات الصندوق الوطني للتشغيل باتجاه “تمويل البرامج والآليات الرامية إلى الرفع من مؤهلات طالبي الشغل…” كما جاء في الفصل 14 من مشروع القانون.
- الترفيع في الأجور والمرتبات في القطاعين العام والخاص للثلاث سنوات القادمة وسحب الزيادة على جرايات التقاعد. هذا الإجراء الذي مازال غامضا بحكم أنه سيكون موضوع أمر لاحق يستحق أن نتوقف عنده بالتحليل بشكل مستفيض وهو ما سنخصص له الحلقة القادمة من هذا المقال.
إجراء يدعم الاقتصاد الموازي ويشجع على الفساد
إلغاء الفصل 45 من قانون المالية لسنة 2018 والذي ينص على أنّ كل عملية دفع تفوق 5000 آلاف دينار ينبغي أن تتمّ بواسطة صك أو تحويل بنكي. هذا الإلغاء سيفتح الباب مجددا للمعاملات المالية خارج المنظومة وبصورة موازية وبما يسمح بتبييض الأموال والتهرب الجبائي علما وأنّ الاقتصاد التونسي يعاني من ظاهرة جديدة وهي ارتفاع حجم السيولة المالية في سوق المعاملات.
هذه بعض الإجراءات وليس كلها التي جاء بها مشروع قانون المالية للسنة القادمة والتي تندرج ضمن منهج التسيير القديم الذي أدّى إلى الأزمة التي تعيش على وقعها بلادنا وتعكس بالتالي فشل منظومة الحكم الحالية عكس ما تدعيه في إنقاذ
البلاد.
ولنا عودة للموضوع.
صوت الشعب صوت الحقيقة
