الرئيسية / الافتتاحية / دولة القهر تصعّد الحرب على الحقوق والحريّات
دولة القهر تصعّد الحرب على الحقوق والحريّات

دولة القهر تصعّد الحرب على الحقوق والحريّات

يتابع الرأي العام في بلادنا تصاعد موجة القمع في الآونة الاخيرة من خلال ضرب العمل الجمعياتي وانتصاب المحاكمات الصورية التي تستهدف السياسيين والحقوقيين والمشاركين في التحركات الاجتماعية. فمنذ نهاية الأسبوع المنقضي خرج خبر تجميد نشاط جمعيّة النّساء الديمقراطيّات لمدّة شهر حتى “يتمّ التثبت في وضعها المالي”، وفي بداية الأسبوع الحالي شمل نفس القرار المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وجمعية “منامتي” وماهي إلّا أيّام قلائل حتى طال القرار موقع نواة الإعلامي في انتظار إعلان اسم الضحية القادمة. وفي نفس الفترة وتحديدا عشية الجمعة 24 أكتوبر 2025 باغتت سلطة الانقلاب الرأي العام بتحديد يوم الاثنين 27 أكتوبر 2024 تاريخا لعقد جلسة الاستئناف لما أصبح يعرف بقضية “التآمر” دون أن تترك للمحامين حتّى فرصة إعلام منوّبيهم بذلك. كما قرّرت المحكمة إجراء المحاكمة دون إحضار “المتهمين” ودون حضور الإعلام والمواطنين وهو ما رفضه الجميع متهمين ومحامين فأجّلت الجلسة إلى يوم الـ 17 من هذا الشهر. وفي يوم الجمعة 31 أكتوبر انتصبت إحدى الدوائر الجنائية بالعاصمة لمحاكمة الأستاذ أحمد صواب بتهم “إرهابيّة” ملفّقة بالطبع ولم تدم المحاكمة أكثر من سبع دقائق “بالمنقالة” ليصدر إثرها حكم ابتدائي بخمس سنوت سجنا مع ثلاث أخرى مراقبة إدارية. وللتذكير فقد أصدرت محكمة قابس قبل مدّة أحكاما تقضي بتخطئة العشرات من من المشاركين في حراك قابس من أجل تفكيك “وحدات الموت” بالمركب الكيمياوي.

تمّ مجمل هذه الأحداث في ظرف أيّام، وكل المؤشرات تتجه نحو مزيد التصعيد وهو ما تدلل عليه حملات جوقة الحشود الفاشية التي تنفث سمومها ضد كل “الأجسام الوسيطة” جمعيات وأحزابا ومنابر إعلامية داعية إلى حلّها ليبقى “فرعون” يرتع في الساحة وحده دون رقيب ولا حسيب ناهيك أنّه استبعد في ميزانيّته الجديدة الطرف النقابي ممثلا في الاتحاد العام التونسي للشغل عن المفاوضات حول الأجور ليتولى تقريرها بنفسه، علما وأن المفاوضات لا تشمل فقط الجانب المالي بل تشمل أيضا الجوانب الترتيبية. وفي نفس الوقت يبذل برلمان الدمى أقصى جهده لمزيد الضحك على ذقون المعطلين الذين تجمعوا للاحتجاج أمام مقره رافعين نفس شعارات الثورة التي التفت عليها كل منظومات حكم ما بعد 14 جانفي، تاركا لنفسه موعد تحديد النظر في مطلبهم بعد انتهاء النقاشات حول الميزانية التي لن ترصد بالتالي أيّ مبلغ مالي لحلّ مشكلتهم.

لقد اتجه بعض المحلّلين إلى أنّ الغرض من حملة قيس سعيد القمعية هو محاولة يائسة لحرف الأنظار عن انفجار ملف اجتماعي حارق هو ملف البيئة والتلوث في قابس، والتغطية على عجزه عن حلّه وتلهية الرأي العام العام بمواضيع أخرى. ولئن كان هذا التفسير واردا إذ يمثل التحايل على الرأي العام ومغالطته وخداعه جزءا لا يتجزّأ من أساليب الفاشية الشعبوية، فإنّه لا يكفي الوقوف عند حدّه بل ينبغي النظر إلى ما يجري بشكل أعمق. إنّ سلطة الانقلاب العاجزة عن حل مشاكل الشعب الاقتصادية والاجتماعية والمتفاقمة وأمام الافتضاح المتزايد لخطابها الشعبوي الخاوي تسعى بشكل محموم إلى التسريع بإلغاء كافة مصادر النقد والتشهير والاحتجاج لتؤمّن سيطرتها المطلقة على المجتمع ومن ثمة تنفرد بالشعب الذي نزعت منه كافة أسلحة الدفاع عن حقوقه ومنها حرية التعبير والتنظيم والاحتجاح لتفعل به ما يعنّ لها.

إنّ القمع بجانبيه السياسي والاجتماعي هو خاصية جوهرية للنظام الفاشي الشعبوي القائم الذي لم يخف مخططه الرامي إلى القضاء على “الأجسام الوسيطة”. فبعد إعادة تنظيم أجهزة الدولة ومؤسساتها على أسس فاشيّة تمكن سعيّد من احتكار كافة السلطات وبعد تفكيك كافة الهياكل الرقابية والتعديلية ووضع اليد بالكامل على الإعلام والتقدم شوطا كبيرا في تحييد العديد من النشطاء السياسيين والإعلاميين والمدنيين عبر الزج بهم في السجن وإصدار أحكام قاسية ضدهم نرى اليوم سلطة الانقلاب تتجه، تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وما تنبئ به من انفجارات قادمة، تستعجل ضرب عدد من منظمات المجتمع المدني المؤثرة في انتظار أن يحين أوان ضرب المنظمة الشغيلة الذي بدأ التحضير له عبر الأبواق المأجورة وكذلك ضرب ما تبقى من تنظيمات سياسيّة ليفرض الصمت المطبق على المجتمع.

لكن إذا كان هذا هدف سلطة الانقلاب فلا يعني ذلك أنّ الطريق مفتوح أمامها. إن سعيّد مثله مثل كل المستبدين، الفاشيين لا يدرك ككل أنظمة الاستبداد أنه بسياساته القهرية إنّما يسرّع من ساعة حتفه. وهو يوسّع قاعدة المتضررين والغاضبين ثمّ المتمردين على خياراته التي تصادر أبسط الحقوق والحريات التي عمّدها الشعب وقواه التقدمية والديمقراطية بالتضحيات الجسام.

إنّ قاعدة الغضب هي اليوم بصدد التنامي، كما أنّ حركة النضال بصدد التوسع ولن تكون قابس قريبا سوى قادحة بعد التحاق جهات وفئات أخرى بخارطة الاحتجاج، وما المحاكمات المهزلة سوى إسفينا سيُدقّ في نعش الاستبداد الشعبوي الذي لن تزيد ميزانية الضرائب التفقيرية إلا قربا لساعة الخلاص منه. إنّ تصاعد حركة النضال الاجتماعي في العالم وحولنا في قارتنا ستعطي دفعا لشباب تونس ومفقريها ومعطليها، ولتقدمياتها وتقدمييها اندفاعة جديدة على درب استعادة جذوة النضال الواعي والمنظم والواسع دفاعا عن حقوق الشعب التونسي وحرياته.

إلى الأعلى
×