بقلم الناصر بن رمضان
تقديم
يدخل يوم الثلاثاء 18 /11/2025 عمال وعاملات 68 مؤسسة من القطاع الخاص في صفاقس في إضراب عام جهوي في مناخ اجتماعي وسياسي عالي التوتر. ويفهم إضراب بهذا الحجم كتحول من شكل احتجاجي محدود قطاعيا إلى تحرك مركّز ومكثف للضغط الطبقي المنظم الذي تمارسه الطبقة العاملة من خلال منظمتها النقابية الاتحاد العام التونسي للشغل ضد أرباب العمل والدولة الراعية لمصالح رأس المال، خصوصا وأن داوفع الإضراب هي الزيادة في الأجور بعنوان سنة 2025 وفتح باب التفاوض والدفاع عن الحق النقابي. إن هذه المطالب ليست من فراغ أو جاءت من تصعيد مفاجئ، بل هي تراكمات لمطالب لم يقع تحقيقها. ومعلوم أن السلطة الشعبوية الاستبدادية – في إطار سياستها الرامية إلى تهميش ونفي الأجسام الوسيطة ومنظمات المجتمع المدني وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل – قد قطعت خطوات جدية وفعلية في تجميد مفاوضات الأجور والحوار الاجتماعي فتوقفت تبعا لذلك مفاوضات القطاع الخاص بعد أن انطلقت في ماي 2025. وجاء هذا التوقف بقرار سياسي من وزير الشؤون الاجتماعية، وبالتالي يكون قرار وقف التفاوض ليس ناتجا عن فشل تفاوضي بل جزءا من سياسات التقشف و ” خفض الكلفة ” ومرونة التشغيل في القطاع الخاص الذي أملته الدوائر المالية العالمية. وينص مشروع قانون المالية لسنة 2026 على أن الزيادات في أجور القطاع العام والخاص لسنوات 2026 – 2028 ستكون بأمر حكومي في اعتداء سافر على مبدأ التفاوض الاجتماعي الذي أقرته مجلة الشغل والمواثيق الدولية، وهو بطبيعة الحال يعد تهديدا للشرط الموضوعي للنضال النقابي الحر: إذ يصبح القرار مرتبطا بالقوة السياسية والاقتصادية للدولة ورأس المال وبرغبة الحاكم بأمره مباشرة وليس بالتفاوض بين الأطراف الاجتماعية، وقد سرع هذا الإجراء الأحادي الجانب باتخاذ قرار الإضراب من قبل الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس.
موقف اتحاد الصناعة والتجارة
اعتبر اتحاد الأعراف الدعوة للإضراب العام الجهوي ” غير قانونية ” وحمل – كالعادة – الاتحاد الجهوي مسؤولية ” الإضرار بالسلم الاجتماعية والاقتصاد الوطني ” كما اعترض على صلاحية الجهة في التفاوض وفي إقرار الإضرابات العامة مدعيا أن التفاوض الوطني هو الوحيد المعترف به ومن هنا يأتي سؤال الأعراف الإنكاري : لماذا صفاقس بالذات ؟ ولماذا اختيار هذا التوقيت؟ إن هذا الموقف يكشف من جهة الوجه الحقيقي لرأس المال الذي يعتبر كل تحرك للطبقة العاملة هو تهديد مباشر لرأس المال المحلي والأجنبي ولقانون الربح وسلاسل التصدير، ومن جهة أخرى يكشف الموقف المنحاز تماهى الدولة البرجوازية الكمبرادورية مع طلبات رأس المال في تخفيض الأجور وهشاشة التشغيل وشيطنة العمل النقابي وتجريم الإضرابات وإخضاع الشعب وحرمانه من وسائل الدفاع عن حقوقه الاجتماعية والاقتصادية. ويتعلل الأعراف بأن المؤسسات المصدرة تواجه خطر تأخير الطلبيات، مما يؤدي إلى خسارة ثقة الحرفاء الأجانب خاصة في قطاع النسيج والأسلاك الكهربائية ومن هنا يطالبون بالتتبعات القضائية ضد النقابات ودفع السلطة للمرور للخصم المالي، علاوة على الخصم على الأجور وإعادة النظر في قوانين التوظيف وهي إجراءات زجرية تصب الزيت على النار وترفع من منسوب التوتر والاحتقان غير معلوم العواقب.
إضراب ليس ككل الإضرابات
إن عودة لسجل الإضرابات في صفاقس تظهر أن للقطاع الخاص تاريخا نضاليا قويا: ففي 19/11/2015 تم تنفيذ إضراب عام “ تاريخي” لعمال القطاع الخاص شاركت فيه 164 مؤسسة خاصة، طالبت بتحسين الأجور ورفض المماطلة في المفاوضات مع الأعراف وقدرت نسبة نجاحه ب95 في المائة . وفي 28/10/ 2021 نفذ القطاع الخاص إضرابا احتجاجا على إعادة فتح مطرح نفايات ” القنة ” بعد وفاة محتج خلال الاحتجاجات آنذاك. وفي جويلية 2022 شاركت عدة مؤسسات من القطاع الخاص في إضراب عام ” يوم الغضب” للمطالبة بالزيادة في الأجور. كل هذه الإضرابات في القطاع الخاص – وإن لم تكن كثيرة – ظلت كبيرة التعبئة مما يدل على وجود نقابات قوية ومتمرسة في المواجهات الاجتماعية، كما تثبت أن النقابيين في صفاقس لا يناضلون من أجل الأجور فقط بل أيضا من أجل قضايا مجتمعية أوسع ، ويظهر التاريخ القريب والبعيد أن جهة صفاقس – ولعدة اعتبارات – ظلت على الدوام منظمة نقابيا وقابلة للتعبئة خاصة داخل المؤسسات الصناعية المصدرة، مما يجعل إضراب 18 /11/2025 إضرابا ليس ككل الإضرابات للاعتبارات التالية
– المناخ الاجتماعي شديد الاحتقان في علاقة بالسلطة الاستبدادية التي تستهدف العمل النقابي والمنظمة الشغيلة تحديدا والحال أن ميليشيات السلطة استهدفت الاتحاد الجهوي بصفاقس في الفترة الأخيرة في حركة تجاسر واستعداء جماهيري أمام مقره وهي سابقة خطيرة في حد ذاتها .
– المناخ السياسي الاستبدادي وتواتر المحاكمات والإيقافات وضرب المنظمات المدنية الحقوقية والإعلامية والنسوية وقد نالت جهة صفاقس نصيبها من القمع والمحاكمات والتهميش العام فيما لم تنل نصيبها من التنمية وتحسين المقدرة الشرائية.
– صفاقس هي ثاني أكبر ولاية اقتصاديا وسكانيا وهي الولاية التي حددت ولا زالت تحدد بدرجة من الدرجات ميزان القوى الاجتماعي والسياسي إذ تمثل قلب القطاع الخاص والصناعة وأي إضراب أو تعطيل فيها يقرأ فورا على أنه إشارة على حالة الاحتقان الاجتماعي. كيف لا وهي الجهة ذات التقاليد النقابية العريقة القوية والمتمرسة وهي عادة أكثر الجهات جرأة في التصعيد بمقارنة بولايات أخرى وبالتالي فإن هذه المدينة تقلق السلطة أكثر من غيرها عندما تتحرك لأنها ليست هامشية احتجاجيا بل هي مركز الإنتاج والاقتصاد.
– إن نجاح الإضراب في صفاقس سيضرب مقولة ” الاتحاد لم يعد يمثل العمال وبالتالي يمكن الإجهاز عليه” التي تروجها منظومة قيس سعيد والذباب الإلكتروني الذي يعزف كثيرا على هذا الوتر وبالتالي إذا توقفت المؤسسات الصناعية الكبرى والتزم العمال بنسبة عالية من الإضراب فسيقرأه ساكن قرطاج كعودة القوة الاجتماعية للاتحاد وتنجر عن ذلك موجة اجتماعية متصاعدة والسلطة مهما تغطرست تخشى ” تأثير الدومينو“( أنظر لائحة مجمع القطاع الخاص ) ، وعلاوة على مناخ الحريات عالي منسوب التشنج ستتحول الأزمة الاجتماعية إلى أزمة سياسية كيف لا وكل تحرك اجتماعي في هكذا مناخ يتحول تلقائيا إلى حدث سياسي.
الصراع النقابي الداخلي لا يلغي النضالات
إن الصراعات الداخلية التي تعيش على وقعها المنظمة منذ ما يقارب سنتين والتي بلغت ذروتها في أكثر من مرة لا تعني أن المركزية النقابية غير قادرة على إنجاح النضالات والإضرابات القوية ، بل بالعكس أثبتت تجربة التجمعات النقابية الحاشدة في ذروة حرارة الصيف الفارط ووقفات قطاعي الأساسي والثانوي المشتركة وإضرابات النقل والأساسي والبنوك نجاح التحركات والإضرابات، وبالتالي قدرة ” الماكينة “النقابية على التحشيد وإدارة المعارك الاجتماعية ، كما أثبتت أن الأزمات النقابية تولد الطاقة النضالية خصوصا إذا ارتبطت بالمطالب الطبقية الحقيقية ( الأجور والقدرة الشرائية واستقلالية المنظمة ) وهو ما يسفّه رهانات السلطة وأحلام المراهنين على اندثار العمل النقابي وفشل النقابات. إن نجاح الإضراب الجهوي بصفاقس سوف يكون ” بروفة ” استباقية لمدى نجاح الإضراب العام الذي أقره المجلس الوطني والذي تعد البيروقراطية النقابية له من خلال الندوات والهيئات الإدارية والجولات المكوكية لأعضاء المكتب التنفيذي بغاية لا جس النبض فقط بل السعي لتنفيذه والتعجيل بتحديد تاريخه، لذلك فإن البيروقراطية النقابية هي بدورها تسعي لتأكيد شرعيتها و إعادة إنتاج نفسها واستمرار سلالتها في مؤتمر مارس 2026، هذا المؤتمر الذي لن يعقد في مناخ سكوني بل يراد له أن يلتئم في مناخ نضالي وحرارة اجتماعية. كما أن السلطة الاستبدادية من جهتها تواصل في المزج بين القمع المفتوح والمراهنة الوهمية على اختراق ما داخل التكتلات والشقوق المتصارعة ، إذ هي سلطة عنيدة ، مكابرة ، طائشة ومعادية على طول الخط وبصورة مفضوحة للعمل النقابي، وما تقوم به من تصفية فجة لكل منظمات المجتمع المدني لن يغري من يراهن عليها من الشقوق المتصارعة ، بل سيزيد من عزلتها ونفور النقابيين منها أكثر فأكثر. وحتى في ظل الانقسام البيروقراطي المستهجن نقابيا هناك طيف واسع جدا من النقابيين لن يفرط في المنظمة بتعلة الانقسام، وبقدر امتعاضه من التخريب البيروقراطي بقدر تشبثه القوي بتاريخ المنظمة وبالعمل النقابي ويترسخ إيمانه – يوما بعد يوم في ظل الأزمة العامة – بالتغيير النقابي والسياسي على حد السواء .
خاتمة
إن إضراب القطاع الخاص بصفاقس هو محط أنظار جميع المتابعين الاجتماعيين والسياسيين: من حكم استبدادي غاشم سلطته الجرافة ( bulldozer ) في الميزان، لكن قدرته على المناورة محدودة ومحكومة بعديد الإكراهات، إلى قوة سلطة أصحاب رؤوس الأموال المراهنين على شق صفوف العمال والتهديد بالدعاوي القضائية والإدارية، إلى بيروقراطية نقابية تسير فوق الرمال المتحركة وتتجه نحو التسخين أكثر منه إلى التبريد في الدفاع عن عرشها المهتز واستحقاقاتها القادمة، مرورا بالطبقة العاملة ذات التقاليد النقابية العريقة تدافع بقوة عن حقوقها النقابية المادية والمعنوية في مواجهة السياسات الجديدة لرأس المال النيوليبرالي المتوحش، وصولا إلى عموم النقابيين والديمقراطيين في الحركة العمالية والشعبية المشرئبة أعناقهم مراهنة على إعادة رد الاعتبار للاتحاد العام التونسي للشغل وتلازم النضال الاجتماعي والسياسي الضامن الوحيد لمقاومة منظومة الاستغلال الطبقي والاضطهاد الاجتماعي وتحقيق الانتصارات التي ترفع المعنويات . أين ستسير الأمور وماذا يخفي العد التنازلي ليوم الإضراب؟
صوت الشعب صوت الحقيقة
