الرئيسية / صوت العالم / الأوكلوقراطية الرقمية: حين تتحول الفوضى الإلكترونية إلى أداة جديدة لإنتاج الهيمنة
الأوكلوقراطية الرقمية: حين تتحول الفوضى الإلكترونية إلى أداة جديدة لإنتاج الهيمنة

الأوكلوقراطية الرقمية: حين تتحول الفوضى الإلكترونية إلى أداة جديدة لإنتاج الهيمنة

بقلم أسماء فركوس

لم يعد الفضاء الرقمي اليوم مجرد مساحة للتعبير الحر أو لتبادل الآراء، بل تحوّل تدريجيًا إلى ساحة صراع طبقي من نوع جديد. ما يسمّيه بعض المنظّرين بـ “الأوكلوقراطية الرقمية” – أي حكم الجماهير المنفلتة على الإنترنت -. لم يعد عنوانًا على فوضى عابرة، بل واجهة براقــة تخفي وراءها آليات حديثة لإعادة إنتاج الهيمنة وترسيخ السيطرة الطبقية بطرق أكثر نعومة وذكاء.

فالمنصات التي تُقَدّم لنا كفضاءات “ديمقراطية”، حيث يستطيع الجميع نشر أفكارهم، ليست سوى مصانع ضخمة لتوجيه الوعي. الآراء الأكثر انتشارًا ليست بالضرورة الأكثر عقلانية، بل غالبًا ما تكون الأكثر إثارة وانفعالًا، والأكثر توافقًا مع مصالح رأس المال. دراسات عديدة تثبت أن خوارزميات المنصات تعطي أولوية للمحتوى الذي يثير المشاعر القوية، خاصة الغضب والاستياء؛ فقد أظهرت دراسة لمعهد MIT أن التغريدات الكاذبة تنتشر أسرع بست مرات من الحقائق لأنها تثير دهشة ورفضًا، ما يخلق “حلقة ردود فعل” تعتمد على الانفعال. وهكذا يتشكل “صوت الجماهير” كضوضاء منظمة: تبدو فوضى على السطح، لكنها محكومة ومنسقة في العمق.

إن هذه الظاهرة لا يمكن فصلها عن منطق إعادة إنتاج علاقات الإنتاج. فالشركات الرقمية الكبرى- منصات التواصل، محركات البحث، تطبيقات البث – تلعب اليوم الدور نفسه الذي لعبته الصحف المملوكة للرأسماليين في القرن التاسع عشر، لكن بقدرة تأثير مضاعفة وآليات أدقّ. فهي لا تتحكم فقط في ماذا نقرأ، بل في كيف نفكر، وكم نقضي من الوقت، وأي المشاعر تُستدعى، وإلى أي سلوك يتم دفعنا. هكذا يتحول المستخدم إلى “منتج” لبياناته واهتمامه، حسب تصريحات أحد مهندسي فايسبوك السابقين، فيما تُعيد خوارزميات الإعلان والتوصية إنتاج التفاوتات الطبقية، إذ يلاحظ الباحث دالتون كونلي أن الأغنياء والفقراء يتلقون فرصًا ومنتجات مختلفة حسب الخوارزمية.

الأخطر أن هذه “الديمقراطية الرقمية” المزعومة تصنع جماهير غاضبة دائمًا، متحمسة دائمًا، لكنها غالبًا بلا هدف سياسي واضح. جماهير تتحرك وراء أي قضية لحظية يظهرها “التراند”، ثم تتخلى عنها بمجرد أن تُوجّه الخوارزمية نحو موضوع جديد. وهنا تتداخل الفقاعات الترشيحية أو “غرف الصدى” كما وصفها إيلي باريسير، حيث تُعزل الجماهير عن الواقع المتفق عليه وتقسم إلى قبائل معرفية منفصلة.

والنتيجة؟ تتحول السياسة إلى معارك سبّ وشتم، يُستبدل التنظيم الحقيقي بجروبات عابرة، ويصبح الوعي الجماعي هشًا وسريع الانطفاء. وبينما تتقاتل الجماهير في التعليقات، تواصل الشركات الرقمية جمع البيانات والأرباح، وتعمّق السلطة نفوذها من وراء الستار. قد يبدو المشهد حرية مطلقة، لكنه في الحقيقة شكل جديد من الهيمنة: لا يُفرض بالقانون، بل بالخوارزمية، لا يُسكت المعارضة بل تُغرقها في الضجيج.

تونس… صورة مصغّرة لعالم مضطرب

في تونس، تتجلى هذه الهيمنة الرقمية بوضوح: تراندات سياسية تُصنع في ساعات، حملات تشويه منظمة، جيوش إلكترونية مجهولة التمويل، وصفحات تتحكم في المزاج العام أكثر من أي حزب أو مؤسسة. رأينا كيف يمكن لصفحة فايسبوك بلا عنوان واضح أن تؤثر في انتخابات محلية أكثر مما يفعل برنامج سياسي، وكيف تحوّلت القضايا الاجتماعية العميقة – الغلاء، البطالة، الحقوق النقابية- إلى نقاشات سريعة الغليان، تنطفئ في اليوم التالي دون أثر على الواقع.

والعالم ليس أفضل حالًا: من فضيحة كامبريدج أناليتيكا التي تلاعبت في انتخابات أمريكا وبريطانيا، إلى الحملات الرقمية التي ساهمت في صعود اليمين المتطرف في أوروبا، إلى التراندات السياسية المصنوعة في الشرق الأوسط، حيث تتحكم الجيوش الإلكترونية في الرأي العام كما يتحكم صاحب المصنع في خط الإنتاج.

لكن ليس كل شيء سلبيًا. يمكن للمنصات أن تكون أدوات للتغيير الاجتماعي: فقد ساعدت حركات مثل #MeToo والربيع العربي في تنظيم الاحتجاجات، وتوفّر منبرًا للأصوات الهامشية، مثل نشطاء البيئة والمجتمع الميم والخبراء المستقلين، لنشر أفكارهم دون وسيط مؤسسي. كما تقدم محتوى تعليميًا هائلًا عبر مجموعات المعرفة وقنوات يوتيوب، ما يتيح فرص تعلم ذاتي لم تكن متاحة سابقًا.

بين وهم الحرية وحقيقة الهيمنة

ما نراه اليوم ليس مجرد فوضى افتراضية، بل نظام عالمي لإنتاج الهيمنة، يعمل خلف الشاشة لإعادة تشكيل الوعي الجماعي. ومواجهة هذا النظام لا تعني الانسحاب من العالم الرقمي، بل تتطلب وعيًا سياسيًا قادرًا على قراءة الخوارزميات وكسر وهم الحشود وربط النضال الرقمي بالنضال الاجتماعي الحقيقي.

فالفضاء الافتراضي يمكن أن يكون أداة تحرّر، لكنه يمكن أيضًا أن يتحوّل إلى آلة عملاقة لإعادة إنتاج نفس النظام الذي نحاول تغييره. ويبقى السؤال الأهم: ليس “ماذا تقول الشبكات؟”، بل: من يملكها؟ من يبرمجها؟ ومن يستفيد من حركة الجماهير داخلها؟

إلى الأعلى
×