الرئيسية / صوت الثقافة / المسرحيون يعلنون القطيعة: عصيان مفتوح في وجه دولة خانت ثقافتها وخريجيها
المسرحيون يعلنون القطيعة: عصيان مفتوح في وجه دولة خانت ثقافتها وخريجيها

المسرحيون يعلنون القطيعة: عصيان مفتوح في وجه دولة خانت ثقافتها وخريجيها

بقلم محمد بلخيرية

تعيش الساحة الجامعية الثقافية في تونس على وقع أزمة مركّبة تكشف حجم الاختلالات التي تراكمت داخل الدولة في علاقة بتكوين المسرحيين وإدماجهم المهني. فمنذ سنوات، يتخرّج ما يقارب 60 طالبًا سنويًا من المعاهد العليا للفن المسرحي، أي حوالي 480 خريجًا منذ 2017، ورغم محدودية هذا العدد ورغم المستوى العالي للتكوين الأكاديمي الذي يتلقونه، يجد هؤلاء أنفسهم خارج كل مسارات التشغيل، في مفارقة صادمة يواجهون من خلالها بطالة مزمنة مقابل شغورات واضحة داخل وزارتي التربية والشؤون الثقافية. هذا التناقض يكشف غياب رؤية حكومية واضحة، وغياب الإرادة السياسية في تحويل المسرح من مجال يُنظر إليه على أنه ترف ثقافي إلى اختصاص ذي وظيفة تربوية وثقافية وطنية.

لقد تحولت أروقة المعهد العالي للفن المسرحي منذ 17 نوفمبر 2025 إلى فضاء احتجاجي نابض بالحياة، بعد دخول طلبة وخريجي الاختصاص في إضراب حضوري مفتوح، رافعين شعارات تدين التهميش الممنهج الذي طالهم لسنوات، ومؤكدين أن الحق في العمل ليس منّة من الدولة بل استحقاق تاريخي يرتبط بكرامة الخريج وبقيمة المعرفة التي تنتجها الجامعة العمومية. ويبدو أنّ جوهر الأزمة يتمثل في غياب صفة مهنية رسمية تُدرج خريجي الفنون الدرامية ضمن منظومة الانتداب العمومي، وهو غياب خلق فراغًا قانونيًا ومهنيا جعلهم خارج المناظرات وخارج آليات التشغيل، رغم أن المؤسسات التربوية والثقافية تعاني من نقص كبير في الموارد البشرية يمكن أن يستوعب عمليًا كامل هؤلاء الخريجين.

وتتعمّق المعضلة بسبب غياب التنسيق بين وزارات التعليم العالي، التربية، والشؤون الثقافية، حيث يعمل كل جهاز حكومي بمنطق الجزر المنعزلة، دون أي محاولة لبناء رؤية مشتركة قادرة على خلق جسور بين التكوين والوظيفة العمومية. ورغم المراسلات والاجتماعات السابقة مع مختلف الهياكل، لم تُفعّل أي إصلاحات جوهرية، ما دفع بالحراك اليوم إلى التوجه مباشرة نحو وزارة التربية ووزارة التعليم العالي بمطالب محددة تتمثل أساسًا في بعث صفة مهنية واضحة، فتح مناظرات سنوية قارة، وتعميم مادة التربية المسرحية كمادة إجبارية في المدارس الإعدادية، لما لها من دور تربوي في بناء شخصية المتعلم وتطوير قدرته على التفكير والتعبير والإبداع.

كما يطالب المحتجون بإرساء لجنة وطنية قارة لمتابعة الانتدابات في اختصاص المسرح، وتفعيل مسارات تشغيل داخل المؤسسات الثقافية والجامعية مثل ديوان الخدمات الجامعية والمراكز الثقافية، بما يضمن استثمار خبراتهم في تنشيط الحياة الطلابية والفنية داخل الجامعات. وفي السياق ذاته، دعا الحراك رئاسة الجمهورية إلى التدخل العاجل باعتبار أن الأزمة تجاوزت بعدها القطاعي لتصبح قضية وطنية تمسّ المنظومة الثقافية والتربوية برمّتها، وتؤثر على مستقبل مئات الشباب الذين استثمرت الدولة في تكوينهم ثم تركتهم خارج دائرة الفعل والإنتاج.

إنّ استمرار هذا الوضع يطرح سؤال الدولة قبل سؤال المسرح: كيف يمكن لمنظومة تعليم عالٍ أن تنتج كفاءات تخصصية دون أن توفّر لها مسارات اندماج حقيقية؟ وكيف تستمر وزارات بأكملها في إدارة الشغورات بأساليب ترقيعية بينما يقف

مئات الخريجين في طابور البطالة؟ وهل يمكن فعلًا الحديث عن “إصلاح تربوي وثقافي” في ظل تجاهل قطاع المسرح الذي يمثل رافعة أساسية لبناء الوعي النقدي والذائقة الفنية لدى الناشئة؟

إنّ ما يعيشه خريجو المسرح اليوم ليس مجرد أزمة مهنية، بل هو أزمة ثقة بين المواطن والدولة، بين الجامعة وسوق الشغل، وبين الثقافة والسياسة. فإمّا أن تتدخل الدولة لتصحيح هذا المسار، وإمّا أن يتحوّل المشهد إلى جرح مفتوح يذكّر كل خريج بأن المعرفة التي ينتجها ليست كافية في بلاد لا تزال تتعامل مع الثقافة كترف. ومع ذلك يواصل الحراك تمسكه بالنضال السلمي وبالحوار الجاد، مؤكدًا أن معركته ليست معركة فئة، بل معركة تثبيت مكانة المسرح ضمن مشروع تربوي وثقافي وطني يعيد الاعتبار للكفاءة ويمنح الأمل لجيل كامل من المبدعين.

إلى الأعلى
×