الرئيسية / الافتتاحية / في الذكرى 15 لاندلاع الثورة: ما أشبه اليوم بالبارحة
في الذكرى 15 لاندلاع الثورة: ما أشبه اليوم بالبارحة

في الذكرى 15 لاندلاع الثورة: ما أشبه اليوم بالبارحة

مرّت الذكرى الخامسة عشرة لاندلاع الثورة التونسية في أجواء شديدة الثقل والاختناق الذي فاقم على نطاق واسع مشاعر القلق وحتى الخوف من المستقبل نتيجة التردي الخطير الذي وصلت إليه الأوضاع الأمر الذي عزّز القناعة بأن بلادنا تعيش واحدة من أخطر لحظاتها السياسية على الأقل منذ سقوط النظام النوفمبري.

فالديكتاتورية الشعبوية ممعنة في التسويق للقمع باعتباره “إرادة شعبية”والانفراد بالقرار في كل تفاصيل إدارة الشأن العام كفضيلة وطنية جعلت من أنصار الطاغية لا يخجلون من رفع يافطة في مسيرة 17 ديسمبر هذا العام كتب عليها “الشعب يفوّض الأمر للرئيس”!!!

في هذه الذكرى وجد الشعب التونسي نفسه من جديد في مواجهة نظام حكم شعبوي شمولي أكثر صلفا ووقاحة من سابقيه في مساعيه لإحكام قبضته الغليظة على الفضاء العام والدّوس على أبسط الحقوق الفردية والجماعية، الأمر الذي أعاد القمع على نطاق واسع ضد جميع أطياف المعارضة السياسية والنقابية والحقوقية تقريبا زيادة عن الحركات الاحتجاجية المطلبية والأفراد الناقدة للسياسات العمومية.

فالكلّ تحت هذه المنظومة مستهدف والجميع في حالة سراح مؤقت، وقد أضحت مثل هذه الآراء شائعة ليس فقط في أوساط النخبة المسيّسة بل في أوساط الشباب خصوصا بعد إقرار المرسوم 54 سيّء الصيت وصدور أحكام قضائية جائرة ضدّ عدد كبير من وجوه المعارضة.

تمعن الديكتاتورية في حربها الإجرامية ضدّ الحرية والديمقراطية تحت غطاء خطاب معادي للنّخب والوسائط الاجتماعية، كما يعاد تركيز كافة السّلطات تحت يد شخص وحيد فوق كل محاسبة أو حتى مساءلة لا أمام القانون ولا أمام المؤسسات، فهو الحاكم المطلق مصدر جميع السلطات التي نزع عنها تلك الصّفة ووضعها في مرتبة الوظائف التي يديرها وفق رغباته ونزواته التي كثيرا ما حكمتها عقلية التنكيل والتشفّي بخصومه السياسيين ومنتقدي منظومته.

في هذه الذكرى تَكشَّفَتْ بجلاء أمام الدّاخل والخارج ملامح المشروع الشّعبوي الذي بشّر به “قيس سعيد” تحت توظيف كاذب لشعار “الشّعب يريد” الذي يقوم من الزاوية الدعائية على خطاب تبسيطي أخلاقوي يُقسّمُ الشّعب إلى “شعب صالح” و”نخب فاسدة” وفق منظوره ينبغي تجريدها من جميع أدوات التنظّم الحزبي والنقابي والجمعياتي حتى يسهل الاستفراد بالشعب، أولا لمواصلة السياسات النيوليبرالية المتوحشة وثانيا لإعادة هندسة مؤسسات الدولة وفق رؤية شعبوية موغلة في تخاريف البناء القاعدي القائم على شطب كل الهيئات الدستورية المستقلة وتحطيم جميع الأطر التّعديلية وثالثا تعبيد الطريق أمام عهدة رئاسية جديدة ولما لا رئاسة مدى الحياة مثلما أضحى حشد “قيس سعيد” يجاهر به على شبكات التّواصل الاجتماعي أو في بعض فعالياتهم بالسّاحات العامّة!!!

في هذه الذّكرى تأكّد بما لا يدعُ مجالا للشّك أنّ إصرار “سعيد” وجوقته على ترديد شعار “الشعب يريد” ليس سوى تمويها على المعاني الحقيقية لما يريده الطاغية الذي لا يستحضر الإرادة الشعبية إلا ضعيفة ومنهكة قابلة للخضوع والاستسلام للأمر الواقع. فالشّعب في المنظور الشعبوي لا يتجاوز حدود المجموعات البشرية المنزوعة الإرادة والعاجزة عن الفعل ضمن وعي سياسي منسجم مع مقتضيات الانقسام الطبقي واختلاف المصالح، فالشعب ليس سوى مجرّد جمهور بلا روح ولا عقل، فهو مجتمع الرّعايا القابل دوما بالصمت والخنوع الذليل الذي لا يحتمل بالمطلق الاختلاف والتعدّد وبطبيعة الحال النقد المحمول عادة على مجموعات الوعي أو النخبة التي يمقتها وجعلها، بمناسبة وبغيرها، محلّ كيل أفظع السّباب والشتائم بالإضافة إلى التّنكيل ببعض رموزها والزّجّ بهم في غياهب السجون بتهم كيدية ملفقة يجمع كثيرون على تجاوزها ما كان يحصل زمن الديكتاتوريات التي تعاقبت على بلادنا. فالأخيرة تدحرجت نحو قاع لا نهاية له فهي لدى البعض سجن كبير ولدى البعض الآخر فضاء خانق تحكمه الأجهزة الصلبة والقضاء المدّجن الذي انقلب إلى السّلاح الأمضى للفتك بالأبرياء تحت شعارات مقاومة الفساد والتآمر الخ… من السرديات الممجوجة في الخطاب الرسمي منذ انقلاب 25 جويلية.

في هذه الذكرى 15 استكمل المسار الانقلابي بناء نظامه السياسي الهجين عبر آليات شكلية (استشارة، استفتاء، انتخابات رئاسية وبرلمانية ومجالس محلية…) بعيدة عن أدنى شروط التعددية والتشاركية كانت نهايتها الأخيرة إخراج تونس نهائيا من خانة نمط الجمهوريات حتى الليبرالية منها ووضعها خارج سياقات المألوف والمعتاد وإعادتها إلى الوراء الذي كافحت أجيال كثيرة من التونسيات والتونسيين للخروج من دوائره الخانقة والمؤذية.

لقد استنفذت المنظومة القائمة جميع مفاعيل شعارات خطابها الدعائي والسياسي ولم يبق أمامها بالأساس تقريبا سوى تنشيط أدواتها القمعية لبسط هيمنتها على الفضاء العام والمجتمع عموما بهدف فرض ليس فقط الهدوء وإنما صمت القبور الكفيل وحده بغلق الطريق أمام بدايات نهوض اجتماعي وشعبي بدأت بعض نذره سائرة وإن بنسق بطيء ومتدرج نحو التصاعد في أكثر من قطاع ومكان، في قابس وبوزيد والقيروان وفي قطاعات النقل والبنوك وفي أوساط المعطلين عن العمل الخ…

تسابق المنظومة الوقت مستعملة جميع وسائلها الظّاهرة والخفية لوأد الحراك المجتمعي المتزايد وتطويق بؤر التوتّر السياسي والنقابي والاجتماعي، غير أنّ مساعيها تصطدم بعوائق كثيرة فيها ما هو مرتبط بجملة أسباب هيكلية منبثقة من المنظومة نفسها التي بدت عاجزة عن تقديم الحلول لمعضلات مجتمعنا وانغماسها في تحويل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية إلى وقود خطاب شعبوي متجدّد يقتات من أسطوانة اللوبيات والمتآمرين والدّفاع عن السيادة الوطنية الخ… فأوضاع اليوم على جميع الأصعدة تتشابه إلى حدود كبيرة مع تلك التي كانت سائدة قبل اندلاع شرارة الثورة ومن الممكن ذكر بعض العناصر الأساسية لذاك التشابه:

  • شمولية وعمق الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد.
  • التداعيات الخطيرة لتلك الأوضاع على أوسع الطبقات والفئات الشعبية وتزايد معاناتهم في جميع جوانب حياتهم.
  • تزايد مشاعر القلق وحتى الغضب من استمرار هذه المصاعب وسيرها المتواصل نحو التفاقم مع بداية خروج البعض عن السلبية وملامسة خطوط الاحتجاج الميداني.
  • الفشل الذريع للحكم الفردي في التخفيف من وطأة الأزمات وإعادة الأمل لضحايا سياساته.
  • ضعف الحزام السياسي والاجتماعي حول المنظومة القائمة وشيوع أخبار كثيرة حول صراعات شقوقها الممتدّة إلى أوساط مقرّبة من الرئيس.
  • لجوء السلطة المفرط للقوّة الغاشمة في التعاطي مع بؤر الاحتجاج الفردية والجماعية وتغوّل الأجهزة البوليسية على الأفراد والجماعات وبقاؤها تقريبا على الدوام خارج كل مساءلة وعقاب.
  • تزايد الجدل في الأوساط السياسية حول مرحلة ما بعد “قيس سعيد” وهو جدل مرتبط بتكاثر المبادرات السياسية المنادية بمرحلة انتقالية دون الرئيس الحالي.
إلى الأعلى
×