الرئيسية / صوت الوطن / تونس بين المحاكمات السياسية وصعود الاحتجاجات: حين يستعيد الشارع دوره في مواجهة منظومة الحكم
تونس بين المحاكمات السياسية وصعود الاحتجاجات: حين يستعيد الشارع دوره في مواجهة منظومة الحكم

تونس بين المحاكمات السياسية وصعود الاحتجاجات: حين يستعيد الشارع دوره في مواجهة منظومة الحكم

بقلم فتحي المرايحي

منذ 25 جويلية 2021، دخلت تونس مرحلة سياسية اتسمت بتركيز غير مسبوق للسلطة التنفيذية، وبإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة أمنية–قضائية. ما قُدّم بوصفه مسار “إنقاذ” تحوّل تدريجيًا إلى منظومة حكم تُضيّق المجال العام، وتُعيد إنتاج أدوات القمع، وتُخضع القضاء لمنطق السلطة، في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة.

اليوم، لم يعد السؤال مطروحًا حول وجود تجاوزات معزولة، بل حول طبيعة النظام السياسي الذي يتشكّل: هل ما زالت تونس دولة حقوق وحريات، أم أنها تنزلق نحو نموذج سلطوي مغلق؟

محاكمات سياسية وعدالة على المقاس

أبرز مظاهر هذا التحول يتمثّل في تصاعد المحاكمات ذات الطابع السياسي، وعلى رأسها ما عُرف إعلاميا بـ”قضية التآمر على أمن الدولة”. في هذه القضية، صدرت أحكام بالسجن الثقيل في حق عدد من قيادات المعارضة السياسية، على خلفية تهم خطيرة وفضفاضة من قبيل “التخابر” و”المساس بالأمن القومي” و”محاولة قلب نظام الحكم”.

غير أن مسار هذه المحاكمات أثار جدلًا واسعًا، إذ شابته إخلالات جوهرية تمسّ جوهر المحاكمة العادلة: جلسات عن بُعد، تضييق على حق الدفاع، اعتماد كبير على تقارير أمنية، وغياب أدلة مادية دامغة. وهو ما جعل هذه الأحكام تُقرأ سياسيًا باعتبارها رسالة ردع جماعية لكل معارضة منظّمة، أكثر منها تطبيقًا محايدًا للقانون.

في السياق نفسه، تندرج قضية عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر، التي صدرت في حقها أحكام بالسجن على خلفية شكاوى تتعلق بتصريحات ومواقف سياسية وتحركات احتجاجية داخل مؤسسات الدولة. ورغم التناقض الجذري بين موسي وبقية أطراف المعارضة، فإن محاكمتها أكّدت أن منطق الإقصاء لا يميّز بين الخصوم، وأن القضاء يُستعمل لضبط المجال السياسي برمّته، لا لتصفية تيار بعينه.

الأحكام الصادرة في هذين الملفين كرّست قناعة متزايدة بأن العدالة لم تعد تقوم على مبدأ المساواة أمام القانون، بل على منطق انتقائي، يُجرَّم فيه الفعل السياسي حين يصدر عن معارض، ويُؤوَّل القانون بما يخدم ميزان القوى القائم. وهكذا تحوّلت المحاكمات من وسيلة لتحقيق العدالة إلى أداة لإعادة رسم الخريطة السياسية بالقوة.

قمع حرية التعبير: من الصحافة إلى الفضاء الرقمي

لم يقتصر القمع على السياسيين فحسب، بل طال الصحافيين والمدونين والمحامين، وأصبح الإعلام نفسه تحت ضغط شديد. فقد استُخدم المرسوم 54، المتعلق بما يُسمّى مكافحة الأخبار الزائفة، لتجريم الرأي والنقد، وتحويل التدوينات والتصريحات الإعلامية إلى ملفات قضائية، ما أوجد مناخًا من الخوف والرقابة الذاتية.

إضافة إلى ذلك، شهدت وسائل الإعلام التقليدية – سواء القنوات التلفزيونية الحكومية أو الخاصة – عملية تدجين واضحة، حيث صار معظمها يردد مقولات السلطة أو يبث برامج لا تتناسب مع تطلعات الشعب التونسي إلى إعلام حر وعادل. بدلاً من نقل الرأي والرأي المخالف ونشر الوعي المجتمعي، أصبحت البرامج تركّز على الترويج لخطاب موحّد، بعيدا عن النقد والمساءلة، وهو ما يعمّق شعور المواطنين بعزلة الفضاء العام ويحدّ من قدراتهم على تشكيل رأي مستقل.

بهذا الشكل، لم يعد الاستهداف مقتصرًا على مضمون ما يُقال، بل شمل الحق نفسه في النقد والمساءلة، وهو ما يضع الإعلام أمام اختبار حقيقي لمصداقيته ودوره في نشر الوعي وحرية التعبير.

الشارع يستعيد دوره: احتجاجات تكسر جدار الصمت

في مواجهة هذا الانغلاق السياسي والاجتماعي، لم يبق الشارع التونسي صامتًا. فقد شهدت الفترة الأخيرة عودة تدريجية للاحتجاجات، عبّرت عن رفض المحاكمات السياسية، وعن الغضب من التدهور المعيشي، وعن القلق من مصير الحريات العامة. في العاصمة، خرجت مظاهرات تندد بالحكم الفردي وتطالب بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، رافعة شعارات ترفض تحويل القضاء إلى أداة قمع، وتندد بتجفيف المجال العام.

وفي الجهات، اتخذ الاحتجاج طابعًا اجتماعيًا صارخًا. في المزونة من ولاية سيدي بوزيد، فجّر انهيار سور مدرسة أودى بحياة تلاميذ موجة غضب شعبية ضد الإهمال والتهميش، تحوّلت سريعًا إلى مساءلة للسياسات العمومية وفشل الدولة في حماية أبسط الحقوق. وفي قابس، تواصلت التحركات الشعبية والنقابية ضد التلوث الصناعي، في معركة طويلة ضد نموذج تنموي يقوم على التضحية بالإنسان والبيئة.

وفي هذا السياق، مثّل موقف الاتحاد العام التونسي للشغل عنصرًا مفصليًا في إعادة الاعتبار للفعل الجماعي المنظم. فقد أقرّ الاتحاد إضرابًا عامًا يوم 21 جانفي، في خطوة ذات دلالة سياسية واجتماعية واضحة، عبّرت عن رفضه للخيارات الاقتصادية والاجتماعية القائمة، وعن احتجاجه على ضرب الحقوق النقابية وتهميش الحوار الاجتماعي، فضلًا عن اعتراضه على المسار العام الذي تسير فيه البلاد.

إقرار الإضراب العام لم يكن مجرّد تحرك مهني ظرفي، بل رسالة سياسية تؤكد أن الأزمة لم تعد تهمّ النخب أو المعارضين فقط، بل تمسّ مباشرة الطبقة العاملة والشرائح الشعبية، وتعيد النقاش حول دور المنظمات الوطنية في حماية التوازنات الاجتماعية والدفاع عن الحقوق والحريات في مواجهة سلطة تميل إلى الانفراد بالقرار.

تحذيرات هيئات سياسية من انزلاق سلطوي…

رأت العديد من الأحزاب المعارضة – على تباينها – في تصاعد تركيز السلطة وتضييق المجال العام تهديدًا حقيقيًا للديمقراطية. فقد نبهت على غرار حزب العمال، إلى خطورة تحوّل القضاء إلى أداة للضغط السياسي، وإلى محاولات تكميم الأفواه، مؤكدين أن استمرار هذا المسار يهدد الأسس الديمقراطية والحقوق السياسية للمواطنين.

وأكدت هذه الأحزاب على ضرورة حماية الفضاء العام وحرية التعبير، وعلى أهمية التحرك الشعبي والنقابي كآلية لمواجهة الانفراد بالقرار وإعادة الاعتبار لمؤسسات الدولة المستقلة. وقد حذّرت من أن أي تجاهل لهذه التحذيرات قد يؤدي إلى تفكك مؤسسات الدولة وزيادة الاحتقان الاجتماعي والسياسي والسير بالدولة التونسية نحو المجهول.

وكذلك من مؤسسات حقوقية ومهنية…

وفي هذا السياق أيضا، نبّهت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، في أكثر من بيان، إلى عودة محاكمات الرأي، وتراجع ضمانات المحاكمة العادلة، وضرب استقلال القضاء، معتبرة أن البلاد تشهد تفكيكًا ممنهجًا لمكتسبات الحقوق والحريات.

كما عبّرت الهيئة الوطنية للمحامين عن قلقها العميق من المسّ بحقوق الدفاع وباستقلال القضاء، وأدانت تتبّع المحامين بسبب مرافعاتهم أو مواقفهم، ورفضت إحالة المدنيين على القضاء العسكري. كما حذّرت من توظيف القوانين الزجرية، وعلى رأسها المرسوم 54، لتكميم الأفواه وتجريم العمل الحقوقي والسياسي.

أمّا نقابة الصحافيين فموقفها واضح تجاه التضييق على الإعلاميين وحرية الصحافة، معتبرة أن ملاحقة الصحافيين على خلفية عملهم المهني أو آرائهم السياسية يُعدّ انتهاكًا صارخًا للقانون وللمبادئ الدستورية، وحذّرت من محاولات إسكات الإعلام المستقل، مؤكدة أن أي استهداف للصحافيين هو استهداف مباشر لحق المواطن في المعلومة والرقابة على السلطة. تلاقي مواقف الأحزاب المعارضة والرابطة وهيئة المحامين ونقابة الصحافيين يعكس إجماعًا متزايدًا داخل الساحة السياسية والمهنية على أن تونس تشهد انزلاقًا سلطويًا حقيقيًا، وأن الخطر لم يعد يهدد المعارضين وحدهم، بل يهدّد أسس العدالة والدولة القانونية وحرية التعبير نفسها.

أزمة حكم لا أزمة معارضة وإمكانات التجاوز

ما تعيشه تونس اليوم ليس مجرد صراع بين سلطة ومعارضيها، بل أزمة حكم شاملة تعكس فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية وتضييق المجال السياسي، مع إمعان في مركزية القرار الفردي. سلطة بلا مشروع واضح، تواجه تدهورًا معيشيًا واحتقانًا شعبيًا متصاعدًا، فتلوذ بالأدوات الزجرية لضمان الاستمرار.

لكن التجربة التاريخية والسياسية تشير إلى أن هذه الأزمة يمكن تجاوزها إذا ما توحدت القوى الثورية والتقدمية، لتقدّم طريقا ثالثًا يقطع مع الرجعية والشعبوية، ويعيد التوازن للمجتمع والسياسة، مع استرجاع روح المسار الثوري الذي انطلقت منه تونس قبل 15 سنة.

هذا التوجه الثوري والتقدمي يختلف جوهريًا عن بعض التيارات السياسية الأخرى، التي تدعو إلى استرجاع “تجربة الديمقراطية التمثيلية” كما كانت قبل 25 جويلية 2021، أي إعادة الاعتبار لنموذج الحكم السابق الذي لم ينهِ أزمة الاستفراد بالسلطة ولا الارتباط بالمصالح الطبقية والبيروقراطية الفاسدة. في المقابل، يركز التوجه الثوري على الديمقراطية الشعبية الحقيقية، القائمة على مشاركة المواطنين في صنع القرار، وتعزيز مؤسسات الدولة المستقلة، وضمان الحقوق والحريات العامة، بما يعيد للشعب ثقته في قدرته على إدارة شؤونه دون هيمنة قوى الفرد الواحد أو النخبة الواحدة بما يخدم الطبقة المالكة للثروة و يخلّ بمصالح الطبقات المفقرة والمسحوقة… توحيد القوى الثورية والتقدمية وتبني رؤية مشتركة يُمثل مفتاح الخروج من الأزمة، ويعيد دفع المجتمع نحو مسار تقدم اجتماعي وسياسي مستدام، ويكسر منطق الصراع على السلطة الذي يقوده الاستفراد بالقانون والقضاء والإعلام.

خاتمة

رغم القمع والمحاكمات والأحكام الثقيلة، تُظهر التحركات الاحتجاجية أنّ المجتمع التونسي لم يفقد قدرته على الرفض. قد يكون الشارع مُنهكًا، لكن جذوة المقاومة لم تنطفئ. تونس اليوم أمام مفترق طرق خطير فإمّا توحيد القوى الثورية والتقدمية لإقامة دولة القانون والحقوق والعدالة الاجتماعية على أرضية الحكم الشعبي الديمقراطي الحقيقي، أو المضيّ قدمًا نحو حكم يقوم على الخوف وتكميم الأفواه. وفي هذا المفترق الحاسم، يبقى الشارع – بما يحمله من وعي اجتماعي وسياسي – الضمانة الأخيرة لعدم تحوّل تونس إلى مقبرة للحريات والعبث السياسي.

إلى الأعلى
×