الرئيسية / صوت الوطن / الفساد: من يحرّكه؟ وكيف يعيد تشكيل الدولة من الداخل؟
الفساد: من يحرّكه؟ وكيف يعيد تشكيل الدولة من الداخل؟

الفساد: من يحرّكه؟ وكيف يعيد تشكيل الدولة من الداخل؟

بقلم رشيد السويح

تبدو ظاهرة الفساد، في العديد من البلدان، كأنّها مجرد سلسلة من الرشاوى أو التجاوزات الفردية. لكنّ قراءة أعمق تكشف أنّ الأمر يتجاوز بكثير أخطاء أشخاص أو انحراف موظفين؛ فهناك منظومة قائمة بذاتها تُعيد تشكيل الدولة من الداخل وتحدّد وجهتها الاقتصادية والسياسية. هذه المنظومة لها أطراف متشابكة، مصالح مستمرة، وقواعد غير مكتوبة تنظّم عملها.

أولًا: شبكة الأطراف… كيف تعمل؟

-1- داخل الإدارة: سلطة بلا رقابة

تكشف تقارير رقابية -عادة لا تُنشر بالكامل- أن بعض الإدارات العمومية تحوّلت إلى نقاط عبور رئيسية لشبكات النفوذ. هناك موظفون ومسؤولون يملكون القدرة على تعطيل الملفات أو تسريعها، على منح التراخيص أو منعها، وعلى التحكم في الصفقات العمومية. هذه الصلاحيات تصبح -في غياب الرقابة- مصدرًا ثابتًا للمساومة.

-2- القطاع الخاص: تمويل مقابل النفوذ

التحقيقات المالية في عدة دول تُظهر أنّ رجال أعمال وشركات خاصة ليست مجرد “طرف مستفيد”، بل عنصر أساسي في تغذية الفساد. ففي الصفقات العمومية، يظهر دور الكوميشنات، والاتفاقات الموازية، والعقود المُفصّلة على مقاس شركات بعينها. هنا لا يعود المال مجرد وسيلة، بل يتحول إلى أداة لكتابة السياسات على مقاس مصالح محددة.

-3- الوسطاء: الحلقة الخفية

في كل منظومة فساد، هناك أشخاص لا يظهرون في الواجهة: وسطاء، معقّبون، سماسرة نفوذ. يعملون خارج النصوص القانونية، لكنهم يتحكمون بتفاصيل حساسة: ترتيب لقاءات، تمرير حقائب مالية، إنشاء شركات وهمية، طمس آثار التحويلات.

هؤلاء هم العمود الفقري للمنظومة لأنهم يربطون بين السلطة والمال دون ترك أثر مباشر.

-4- الواجهة السياسية: نفوذ يشتري الدولة

ترتفع مؤشرات الفساد عادة في السياقات التي يختلط فيها المال بالسياسة. فبعض الأحزاب واللوبيات تعتمد تمويلًا غير شفاف لبناء مواقع نفوذ داخل البرلمان أو الحكومة أو الهياكل المؤثرة. ويحدث أن تتحول التعيينات في المناصب العليا إلى امتداد لصراعات المصالح بدل أن تكون جزءًا من رؤية وطنية.

-5- الأطراف الخارجية: عندما يصبح الضغط الدولي جزءًا من اللعبة

في حالات عديدة، تكشف ملفات قضائية عن تورط شركات أجنبية في شراء النفوذ مقابل عقود ضخمة. وفي بيئات مؤسساتية هشة، قد تمارس بعض الحكومات الأجنبية ضغطًا مباشرًا أو غير مباشر لضمان مصالح اقتصادية أو جيوسياسية.

ثانيًا: التأثيرات… كيف يعيد الفساد تشكيل الدولة؟

-1- المؤسسات تُفرغ من مضمونها

الفساد لا يعيق فقط تطبيق القانون، بل يُغيّر وظيفة المؤسسات نفسها. يصبح الهدف من المناصب العليا ليس خدمة المصلحة العامة، بل خدمة شبكات النفوذ. وهكذا تتحول أجهزة الدولة إلى واجهات شكلية، بينما القرارات الحقيقية تُتخذ خلف الكواليس.

-2- المال العام خارج الرقابة

عندما تفقد المؤسسات استقلاليتها، يصبح المال العام عرضة للتلاعب:

  •  ميزانيات توجّه إلى مشاريع غير مجدية
  •  صفقات تمنح بالمراكنة، دون منافسة حقيقية
  •  تضخّم في فواتير المشاريع الكبرى

تتحول المالية العمومية إلى مساحة مفتوحة للنهب المقنّع.

-3- الأزمة الاقتصادية نتيجة وليست سببًا

من الشائع الاعتقاد بأن أزمة الاقتصاد تُنتج الفساد، لكن التجارب تُظهر أنّ العكس صحيح أيضًا: الفساد هو الذي يخلق بيئة طاردة للاستثمار، ويقلّص الإنتاجية، ويدفع الكفاءات إلى الهجرة.

عندما يتحكم الفساد في الدورة الاقتصادية، يصبح النمو مرهونًا بمدى قدرة شبكات النفوذ على الاستفادة وليس بمدى حاجة المجتمع.

-4- حقوق الإنسان في مهبّ المصالح

الفساد يقوّض الحقوق الأساسية بشكل مباشر:

  • قضاء قد لا يتحرّك إلاّ لمن يمتلك النفوذ
  •  أجهزة أمنية قد تمارس الابتزاز بدل الحماية
  • فئات اجتماعية تقصى من الخدمات لأنها لا تمتلك القدرة على “الدفع” أو “التدخّل”.

-5- تفكك الثقة الاجتماعية

حين يشعر المواطن أن القانون لا يحميه، وأن الحظوة أهم من الكفاءة، تتآكل الثقة في الدولة وفي المجتمع. ويظهر نوع جديد من السلوك: اللامبالاة، الانسحاب، أو البحث عن امتيازات خارج الإطار القانوني.

خاتمة: الفساد ليس عرضًا… بل بنية يجب تفكيكها

ما تكشفه المعطيات والتحقيقات هو أن الفساد ليس مجرد سلوك فردي بل بنية سياسية واقتصادية تعمل وفق قواعد ثابتة. تفكيكها لا يكون بحملات ظرفية أو شعارات، بل بإصلاحات عميقة تشمل:

  • استقلال القضاء بوصفه سلطة
  •  شفافية الصفقات العمومية باعتماد الرّقمنة
  • تدقيق التدفّقات المالية الداخلية والخارجية للأحزاب السياسية
  • تمكين الصحافة والرّقابة المجتمعية المدنية من الوصول إلى المعلومة
  • حماية بالقانون للمبلّغين عن الفساد

دون ذلك، يظل الفساد يعيد تشكيل الدولة على مقاسه… ويعيد إنتاج نفس الأزمات التي تدفع ثمنها الطبقات الهشّة قبل غيرها.

إلى الأعلى
×