بقلم جيهان اللواتي (*)
في اليوم الثالث من ماي يستيقظ العالم على صوت الحرية يتردد في أرجاء المعمورة، معلنًا اليوم العالمي لحرية الصحافة، هذه المناسبة التي أرستها اليونسكو لتكون منارة تنير دروب الكلمة الحرة وتكشف الحقيقة عارية. وفي تونس، مهد الانتفاضات/الثورات العربيّة، حيث انفجرت شرارة ثورة عام 2010-2011 لتطيح بنظام القمع وتفتح أبواب الأمل، يحمل هذا اليوم دلالات عميقة.
إنه يوم للاحتفاء بتضحيات الصحفيين، نساء ورجالا، ولكنه أيضًا يوم للتأمل في واقع الصحافة التونسية التي تقاوم، بكل ما أوتيت من قوة، محاولات الخنق والتكميم وتصفية المكاسب المحقّقة والمعمّدة بدم الشهداء.
في هذه المقال نغوص في أعماق هذا الواقع المرير، ننبش جروحه، ونرفع راية الأمل عاليًا، متمسكين بإرث ثورة كانت ولا تزال صوت الشعب.
من زمن القمع إلى فجر الحرية: رحلة الصحافة التونسية
قبل أن يهبّ الشعب التونسي في 17 ديسمبر 2010 ليقتحم أسوار الصمت، كانت الصحافة في تونس أسيرة أغلال الرقابة. كانت الصحف أبواقًا للنظام، تتغنى بإنجازات وهمية، وتتجنب تسريب أيّ نقد ولو بالإيحاء. الصحفيون، أولئك الحالمون بالحقيقة، كانوا يعيشون تحت وطأة التهديد والاعتقال والتجويع والتّهميش، وكثير منهم اختار طريق المنفى أو الصمت القسري. لكن الثورة، ذلك الزّلزال الذي هزّ أركان الاستبداد، فتحت الأبواب مشرّعة أمام الكلمة الحرّة.
تدفّقت الصّحف والمجلّات كالسّيل، وتجاوز عددها 260 منبرًا إعلاميًا، في مشهد عكس ظمأ الشعب للحرّية. لقد كانت تلك السنوات الأولى للثورة بمثابة ربيع الصحافة، إذ ازدهرت منصّات جديدة، وتجرّأ الصحفيون على كشف الحقائق وفضح الفساد ومحاسبة السّلطة. لكن، كما كلّ ربيع، جاءت رياح الخريف لتعصف بالأحلام. لقد تمكّنت قوى الردّة، لأسباب عدّة ليس المجال للخوض فيها، من الالتفاف على الثّورة والهجوم على مكاسبها.
اليوم، وبعد أكثر من عقد على الثّورة، تقف الصّحافة التّونسيّة في مفترق طرق. إنّها تواجه تحدّيّات جسيمة تهدّد وجودها، لكنّها، رغم الانكسارات، ترفض الاستسلام، متشبّثة بإرادة شعب قال كلمته ولا يزال يصرخ: “شغل – حرّيّة – كرامة وطنيّة”.
واقع مرير: الصحافة تحت الحصار في اليوم الثّالث من ماي 2025
تطلّ علينا الصّحافة التّونسيّة، في هذا اليوم، وهي تئنّ تحت وطأة قمع ممنهج وتحدّيّات متعدّدة الأوجه. إنّها ليست مجرّد أزمة عابرة، بل محنة تهدّد أسس الدّيمقراطية التي ناضل من أجلها الشّعب.
دعونا نستعرض هذه التّحدّيّات بصراحة وجرأة وفي مقدّمتها القمع السّياسي ومطاردة الأقلام الحرّة. فمنذ تاريخ 25 جويلية 2021، تحوّلت تونس إلى ساحة لتصفية الحساب مع الصحفيّين. فالمرسوم 54 لسنة 2022، الذي يُفترض أن يحمي الفضاء الرّقميّ، أصبح سيفًا مسلطًا على رقاب الأقلام الحرة. ولا ننسى في هذا السّياق كلّ من شذى الحاج مبارك ومراد الزغيدي والمعلّق برهان بسيس والمحامية سنية الدهماني الذين مازالوا يقبعون وراء القضبان ومحمّد بوغلاب الذي دخل السّجن وغادره بعد مدّة.
منظّمات حقوقيّة، مثل مراسلون بلا حدود ومنظمة العفو الدولية، وصفت هذه الاعتداءات بأنها “هجوم ممنهج” على حرية الصحافة، محذّرة من عودة تونس إلى مربّع الاستبداد. يضاف إلى ذلك تراجع حرّيّة الصّحافة في السّاحة العالميّة ففي تصنيف “مراسلون بلا حدود” لعام 2024، تراجعت تونس بشكل مقلق في مؤشّر حرية الصحافة، إذ أنّها المرتبة 118 عالميًا من بين 180 دولة، بعد أن كانت رائدة إقليميًا في السّنوات الأولى للثّورة.
هذا التراجع ليس مجرد أرقام، بل انعكاس للواقع الميداني، فالصحفيون يتعرّضون للاعتداءات أثناء تغطية الاحتجاجات ويواجهون مضايقات قانونية وإدارية تهدف إلى إسكاتهم. وهذا الواقع يناقض الفصل 31 من دستور 2022 نفسه، الذي يكفل نظريّا حريّّة التّعبير والصّحافة، ممّا يطرح تساؤلات حول التزام السلطة بقوانينها.
هذا من جهة ومن جهة أخرى ثمّة الجانب الاقتصادي وخنق الإعلام بالمال. إنّ الصحافة التّونسيّة ليست فقط ضحيّة القمع السّياسيّ، بل أيضًا أسيرة أزمة ماليّة خانقة. فالمؤسّسات الإعلاميّة الخاصّة تشكو تراجع الإعلانات وارتفاع تكاليف الطباعة وغياب التّمويل المستدام وهي عوامل جعلت العديد من الصّحف والمواقع الإلكترونيّة في وضع مالي هشّ.
هذه الأزمة ليست مجرّد تحدّ ماليّ، بل تهديدا وجوديّا يجعل وسائل الإعلام عرضة للتأثيرات السياسيّة والاقتصاديّة.
بعض المؤسسات، تحت ضغط الحاجة، قد تضطرّ إلى تقديم تنازلات تمسّ استقلاليّتها التّحريريّة، ممّا يقوّض ثقة الجمهور في الإعلام. وفي الوقت نفسه، تُستخدم وسائل الإعلام العمومية كأدوات دعاية، إذ تُعيَّن قياداتها بناءً على الولاء السّياسي ورغم ذلك لا يزال نَفَسُ المقاومة في صفوف الصحفيّات والصّحفيّين العاملين في قطاع الإعلام العمومي قائما.
إلى جانب ذلك لا ينبغي أن يخفى عنّا التشرذم والاستقطاب الإعلامي. فالمشهد الإعلامي التونسي يعاني من انقسامات حادّة تعكس الاستقطاب السياسي في البلاد. فقد تحوّلت بعض المنصات إلى أبواق للمنظومة السياسيّة الحاليّة، مما يفقدها المصداقية ويغذّي انعدام الثّقة لدى الجمهور. وما من شكّ في أنّ هذا التشرذم يعيق قدرة الصّحافة على لعب دورها كرقيب على السلطة وصوت للمهمّشين. ففي زمن تشتدّ فيه الحاجة إلى إعلام موحّد ينقل الحقيقة ويعزّز الحوار، يبدو المشهد الإعلامي التّونسي مشتّتًا، يغرق في صراعات جانبية بدلاً من مواجهة التحدّيّات الكبرى.
هذا الواقع يذكّرنا بأنّ الحرّيّة لا تُمنح، بل تُنتزع، وأنّ الصّحافة الحرّة تتطلّب يقظة دائمة ودعمًا ماديًا ومعنويًا من المجتمع ومن أحراره وحرائره.
الصحفيون يقاومون
رغم هذا الواقع القاتم فإن روح الثورة لا تزال حية في قلوب الصحفيين التونسيين، نساء ورجالا. فالنقابة الوطنية للصحفيّين التّونسيّين تقف في الخطوط الأماميّة، وتدافع عن حقوق العاملين في القطاع وترصد الانتهاكات. وقد كشف التّقرير السّنوي لهذا العام أنّ الأجهزة الأمنيّة هي المسؤول الأول عن الاعتداءات على الصحفيين. وكان بمثابة صرخة في وجه القمع وتذكيرًا بأن الشعب التونسي لن يتخلى عن مكتسبات ثورته. وفي نفس الوقت تواصل منصّات إعلاميّة مستقلّة تقديم تقارير استقصائيّة وتحليلات معمّقة، تتحدّى الرّوايات الرّسميّة وتفضح الفساد. ويستخدم الصحفيّون الشّبان المسلّحون بالتكنولوجيا والشّغف وسائل التواصل الاجتماعي لنقل الحقيقة مباشرة إلى الجمهور، متجاوزين الحواجز التّقليديّة.
هؤلاء هم أبطال اليوم، الذين يواجهون التهديدات والاعتقالات بقلوب مفعمة بالأمل، مؤمنين بأن الكلمة الحرة هي سلاحهم الأقوى.
نحو صحافة حرّة ومنتصرة
في هذا الثالث من ماي، ونحن نحيي ذكرى اليوم العالمي لحرية الصحافة، يجب أن ندرك إنّ معركة الصحافة التونسية ليست معركة الصحفيين/الصحفيّات وحدهم، بل معركة شعب بأكمله. إنّ الصّحافة الحرّة هي صوت المهمّشين، مرآة الحقيقة، وسلاح الدّيمقراطيّة والخاسر الأوّل من فقدانها هو الشّعب. لذلك فإن حماية حرّيّة الصّحافة تتطلّب نضالاً متواصلاً وتضامنًا لا يلين.
ولذلك نجدّد المطالبة بالآتي:
- إطلاق سراح كل الصحفيّين المعتقلين ووقف التتبّعات ضدّهم
- إلغاء القوانين القمعيّة: يجب إلغاء المرسوم 54 وكل التشريعات التي تكبل حرية التعبير، واستبدالها بقوانين تحمي الصحفيين وتضمن حقّهم في العمل دون خوف.
- دعم مالي مستدام: حان الوقت لإيجاد آليات تمويل شفافة للمؤسسات الإعلامية المستقلة، بعيدًا عن هيمنة الحسابات السياسة ورأس المال.
- توحيد الصّفوف: يجب أن تتجاوز الصحافة التونسية الانقسامات السياسيّة، وأن تعمل كجبهة موحدة لمواجهة القمع وتعزيز الثقة مع الجمهور.
- تطوير المهنية: تعزيز التكوين المهني للصحفيين، وتطوير مهاراتهم في الصّحافة الاستقصائيّة والرقميّة، لضمان تقديم محتوى موثوق ومؤثّر.
- تضامن شعبي: على المجتمع المدني، من منظمات حقوقية ونشطاء ومواطنين، أن يقفوا إلى جانب الصحفيين، لأن حريتهم هي حرية الجميع.
إنّ الكلمة الحرّة ستنتصر في ذكرى الثالث من ماي، ونحن نقف وقفة عز وفخر أمام الصحفيين التونسيين، أولئك الأبطال الذين يحملون مشاعل الحقيقة في ظلام القمع. إن الصحافة التونسية اليوم ليست مجرد مهنة، بل مقاومة ديمقراطيّة تحمل إرث شعب قال “ارحل” ولا يزال يكافح من أجل الكرامة.
رغم الاعتقالات، رغم الأزمات، ورغم التهديدات، تبقى الكلمة الحرة سلاحًا لا يُقهر.
فلنرفع أصواتنا عاليًا: “الشعب يريد صحافة حرة!”، ولنجدّد العهد على دعم هؤلاء المقاتلين الذين يسهمون في صنع تاريخ وطنهم بأقلامهم.
إن النصر قادم، لأن الحقيقة لا تُسجن، والحرية لا تُهزم.
عاشت الصحافة التونسية، وعاش نضال الشعب!
(*) صحفية ونقابية
صوت الشعب صوت الحقيقة
