الرئيسية / صوت الثقافة / زياد رحباني، الكائن الذي خُلق ليبدع ويلتزم
زياد رحباني، الكائن الذي خُلق ليبدع ويلتزم

زياد رحباني، الكائن الذي خُلق ليبدع ويلتزم

غادرنا يوم 26 جويلية الفنان زياد الرحباني المولود في 1 فيفري 1956 لأبوين فنانين، عاصي الرحباني ونهاد حداد “فيروز” اللذين أسّسا قارة موسيقية لوحدهما نشأ وترعرع فيها زياد وظهر نبوغه الموسيقي مبكرا ممّا حدا بوالده إلى استشارته منذ نعومة أظافره في عديد الألحان التي كان يعدّها للسيدة فيروز وانتزع الاعتراف بعبقريته الموسيقية في سنّ الــ 17 عندما اضطرّ والده لدخول المستشفى إثر وعكة صحية أجبرته على مواصلة العمل في المسرحية الغنائية “المحطة” التي كان يعدّها رفقة شقيقه منصور لفيروز ممّا اضطر منصور للاستنجاد بزياد لإتمام تأليف وتلحين أغاني المسرحية وفي مقدمتها أغنية “سألوني الناس عنك يا حبيبي” التي أصبحت إحدى جواهر العقد الفيروزي. ولئن حافظ زياد في مسرحيتي “المحطة” و”ميس الريم” على الطابع الموسيقي الرحباني فإنه لم ينتظر كثيرا ليشقّ طريقه الخاص ويتحرر من ثقل الإرث الأبوي والأمومي الذي يخيّم ليس على العائلة فقط بل الذي استظل به اللبنانيون والشعوب العربية بأسرها ولكن زياد كان له رأي آخر.

ينتمي زياد رحباني إلى طينة من المبدعين المهددين بالانقراض وهم المبدعون الموسوعيون رغم شهرته كملحن فهو شاعر غنائي كتب قصائد تحولت إلى أغاني خالدة في تاريخ الموسيقى العربية بصوت فيروز وبألحانه على غرار: أغنية الوداع – يا ليل كيفك إنت – في شي عم بيصير – عا هدير البوسطة – عندي ثقة فيك – عودك رنان – تلفن عياش…

وإضافة إلى ألحانه لفيروز، قدّم ألبومات غنائية بصوته تضمنت أغاني مثل: عودك رنان – أنا مش كافر – إي في أمل – بما إنو – مارغريتا.

ضاقت القارة الرحبانية برؤية زياد للعالم بداية من السبعينات ليشق طريقه المسرحي الغنائي الخاص متمردا على مثالية مسرح الرحابنة ليحوّل الشارع اللبناني إلى عرض مسرحي أو حوّل المسرح إلى شارع لبناني. وتتشكل شخصية زياد الرحباني الفنان العضوي والملتزم بقضايا شعبه ووطنه في إطار رؤية شيوعية ثورية لم تتوقف عن الاشتباك اليومي مع الواقع اللبناني والعربي لم يتردد زياد الرحباني في إعلان الحرب على تحالف السلطة والمال والدين في لبنان الذي كرس الطائفية وفجر المجتمع اللبناني منحرفا به عن صراعه الحقيقي ضد الصهيونية والامبريالية والرجعية.

زياد هو سارق الناي الرحباني الذي غنّى للقمر وللجيران ولغابات الأرز ليغني “للشعب المسكين” وللطبقات الكادحة وللمقاومة منغمسا حدّ النخاع في هموم اللبنانيين واللبنانيات معبّرا عن أوجاعهم وتطلعاتهم بلغتهم اليومية التي أعاد اللبنانيون اكتشافها مع أغاني زياد الرحباني أو مع أغاني فيروز التي ألّفها ولحّنها منبهرين بسحرها وغنائيتها، لقد أصبح زياد أحد مهندسي الوعي اللبناني ولم يكتف بذلك، بل أعاد اختراع اللغة المعبّرة عن هذا الوعي.

لم يدّخر زياد رحباني فرصة أو ظهورا إعلاميا ليهوي بسياط نقده اللاذع على النظام الرسمي العربي وعلى الدولة الطبقية وكافة مظاهر الطائفية والرجعية مفتخرا بانتمائه وعيا وتنظما للشيوعية وهو الذي كرّس فنه لتأسيس إذاعة صوت الشعب الناطقة باسم الحزب الشيوعي اللبناني وكان أحد أهمّ أعمدتها والمساهمين في إشعاعها في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية وما بعدها بالإضافة إلى تسخيره لقلمه الصحفي في الدفاع عن نفس القضايا العادلة في أهم الصحف اللبنانية والعربية. فلئن كان زياد الرحباني عابرا للطوائف بفنه فإنه لم يكن عابرا للطبقات بانحيازه الواضح واللامشروط للطبقة العاملة ولقضايا العدالة الاجتماعية والاشتراكية معلنا ذلك في أغانيه ومقالاته الصحفية وتصريحاته الإعلامية.

لقد كانت مسيرة زياد الرحباني الفنية والسياسية نضالا مستمرا ضدّ استغلال الإنسان وتشيئته وضدّ ابتذال الفن وسلعنته لقد شقّ طريقه ضدّ المنظومة الرأسمالية السائدة. ولئن تمكن من تحقيق انتصارات واختراقات فإنه منّي أيضا بانكسارات وهزائم ولكنه لم يستسلم وحافظ على الراية الحمراء خفاقة مستنجدا بلسانه “السليط” اللاذع لجلد كافة مظاهر الظلامية والانحطاط والرجعية في الفن كما في السياسة دون أن يأبه لردة فعل الرأي العام أو خصومه، بل إنه لا يتردد في صدم محبيه ومريديه أحيانا بتعرية الواقع والعلاقات الاجتماعية السائدة متبنّيا الشعار الشيوعي الثوري “الحقيقة وحدها ثورية” حتى لو كانت صادمة وجارحة.

رحل زياد الرحباني ليتحوّل إلى نموذج للفنان والمفكر والمناضل الملتزم والملتحم بهموم شعبه صاحب المشروع الثوري والفني الذي صمد في وجه السوق والابتذال والانحطاط مقدما درسا عابرا للأجيال أنّ الالتزام والتنظم السياسي ليس عائقا أمام الإبداع كما يروّج دعاة الفن الليبيرالي مبرّرين انحطاطهم وابتذالهم ومواقفهم الرخوة بمراعاة “ذوق الجمهور”، بل العكس هو الصحيح لقد كان زياد الرحباني الفنان الشيوعي صانعا للذوق العام وللوعي.

وداعا زياد سنلتقي عند أول ثورة على المفرق.

إلى الأعلى
×