بقلم ألفة بعزاوي
كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن مخطط التنمية 2026 – 2030 وتصاعدت وتيرة الدعاية الرسمية لهذا المخطط من صفحة رئاسة الحكومة وصفحات مختلف الوزارات ذات الصلة كوزارة التشغيل والتكوين المهني وصفحة رئاسة الجمهورية التي ما انفكت تغطي لقاءات سعيد برئيسة حكومته حول الموضوع، هذا بالإضافة إلى العديد من وسائل الإعلام التي بدأت تسوّق لهذا “المخطط الأعجوبة” بعناوين طنانة من قبيل “المخطط الذي سيلبّي تطلعات الجهات ويدفع عجلة الاستثمار” أو “المخطط الذي سيحقق نهضة اقتصادية واجتماعية متوازنة” أو “إعادة رسم ملامح الاقتصاد في مخطط 2026 – 2030” وغيرها من الشعارات في معجم يذكرنا بدعاية الديكتاتور المخلوع عن “المعجزة الاقتصادية التونسية” إلى غاية اندلاع ثورة الحرية والكرامة كنتيجة حتمية لتعفن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالبلاد ما يؤكد فشل المنوال التنموي المعتمد في جميع جوانبه وأبعاده.
هروب من التقييم لتغطية حصيلة الفشل
تتعاطى المنظومة الشعبوية كأنها بصدد أول تجربة فيما يهمّ التخطيط التنموي غاضة الطرف عن حصيلة 4 سنوات من حكمها منذ انقلاب 25 جويلية 2021، وهي فترة عرفت أثناءها البلاد 4 ميزانيات وكذلك 4 حكومات، في تملص واضح من التقييم بهدف طمس حصيلة الفشل في المجالين الاقتصادي والاجتماعي بالإضافة إلى تعفن الوضع السياسي وفشستة الحياة العامة.
فبعيد الانقلاب تعطل إعداد المخطط الخماسي 2021 – 2025 لما يقارب السنتين انكبّ فيها قيس سعيد على استكمال إرساء مؤسسات حكمه الديكتاتوري مديرا الظهر للمطالب الاجتماعية الملحة للطبقات والفئات الكادحة والشعبية وحالة الاحتقان التي ركب عليها سعيد ووظفها لتبرير انقلابه. من ذلك، على سبيل الذكر لا الحصر، تنكره للقانون عدد 38 المتعلق بالانتدابات بعد أن قابل وفود المعطلين ووقع القانون في أوت 2020 وأمر بنشره في الرائد الرسمي وتعهد بتفعيله لينكث بتعهداته مباشرة بعد الانقلاب. بعد ذلك تمّ الانطلاق في وضع مخطط ثلاثي يغطي بقية الفترة أي 2023- 2025. وتناغما مع السمة المميزة للمنظومة الشعبوية التي تتفنن في إطلاق الشعارات الفضفاضة والمغالطة، فقد ارتكز بناء هذا المخطط على شعار “مشروع رؤية تونس 2035” الذي قدمه رئيس الحكومة أحمد الحشاني في جلسة أمام مجلس النواب بتاريخ 17 نوفمبر 2023 والتي كانت مخصصة لنقاش الميزانية على اعتبار أنه يندرج ضمن المسار الإصلاحي السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي وضعه رئيس الدولة والذي يؤسس لمنوال تنموي جديد يرتكز على الإدماج والاستدامة منطلقا من 6 محاور رئيسية تصبّ جميعها في تحقيق “الإقلاع الاقتصادي لتونس وتحقيق التنمية المستدامة والشاملة بحلول 2035”. من
ثمة تعطلت المصادقة على المخطط الثلاثي ولم تتمّ إلا بتاريخ 9 مارس 2024 من طرف حكومة الحشاني. فما هي حصيلة 4 سنوات من حكم قيس سعيد القائمة على “رؤيته الجديدة” للتنمية؟
لقد رصد المخطط المذكور أعلاه كهدف تحقيق نسبة نمو تقدر بـ 3.2% مع موفى 2025 وهو ما عبّر عنه رئيس الحكومة بأنه “هدف واقعي”. في المقابل اعتبر عدد من خبراء الاقتصاد أن الاقتصاد التونسي غير قادر في ظروفه الحالية على بلوغ هذه النسبة. من جهة أخرى توقعت وكالة التصنيف الأمريكية “ستاندرد آند بورز” نموّا متواضعا لتونس بنسبة 1.6% مع مخاوف كبيرة حول الأداء الاقتصادي. أمّا البنك الدولي فقد توقع في تقرير له أن تؤثر العوامل المناخية وأساسا تحسن هطول الأمطار في لعب دور إيجابي في علاقة بالنمو الزراعي وهو ما قد يمكن تونس من تحقيق نسبة نموّ تصل إلى 1.9%.
وقد أفاد تقرير المعهد الوطني للإحصاء أن الاقتصاد التونسي سجل نموّا بنسبة 1.6% خلال الربع الأول من سنة 2025 مدعوما بشكل أساسي بنموّ القطاع الزراعي. بينما بلغ معدل النموّ السنوي لسنة 2024 نسبة 1.4%. وهي من جهة نسب نموّ ضعيفة جدا تكشف هشاشة الاقتصاد التونسي وتعكس ضعف المؤشرات في جميع القطاعات. ومن جهة ثانية فهذه النسب بعيدة كل البعد عن الهدف الذي رسمته المنظومة الشعبوية وادّعت واقعيته…
مؤشر ثاني سنتناوله في هذا المقال وهو الميزان التجاري الذي يشهد عجزا متزايدا وقد ارتفع خلال الخمس أشهر الأولى من السنة الحالية حسب تقرير المعهد الوطني للإحصاء بنسبة 30.5% مقارنة بنفس الفترة من السنة الفارطة ويمثل العجز الطاقي الجزء الأكبر منه لكن، حتى دون احتساب العجز الطاقي فإن عجز الميزان التجاري يظل مرتفعا نتيجة ارتفاع الواردات من مواد تجهيز، مواد أولية ونصف مصنعة ومواد استهلاكية… مقابل تراجع صادرات المواد الفلاحية والغذائية وخاصة تراجع مبيعات زيت الزيتون… هذه الأرقام تعكس أن تونس لا تشكو فقط من عدم الاستقلالية الطاقية بل إنها تشكو تبعية حتى في علاقة بالمواد الغذائية. ما يجعل شعار السيادة الوطنية الذي طالما تشدّق به قيس سعيد في إطار مزايداته السياسية المتكررة شعارا مجانبا للواقع حتى في أبسط جزئياته ونقصد هنا السيادة الغذائية، كما أننا لم نتوصّل – خلافا للشعارات – بأية استراتيجيا وطنية لتحقيق سيادة حقيقية وإن على مراحل ومع تبويب للأولويات ممّا يعني غياب الإرادة الحقيقية خلف الشعارات المطلقة هنا وهناك. وهذا قد يحيلنا إلى موضوع هام ألا وهو الاتفاقيات الاقتصادية غير المتكافئة التي أمضتها تونس والتي تكرس التبعية الاقتصادية والتي لم تقع مراجعتها إلى غاية اليوم.
كذلك تركز الدعاية الرسمية على تراجع نسبة البطالة إلى 15.7% خلال الثلاثي الأول من سنة 2025 مقارنة بـ 16.2% في نفس الفترة من السنة الفارطة معتبرين ذلك إنجازا غير مسبوق.
سنعود فيما يلي على تطور نسبة البطالة خلال السنوات الخمس الأخيرة: إذ بلغت 16.2% خلال الثلاثي الرابع من سنة 2021، وانخفضت إلى 15.2% خلال الثلاثي الرابع من سنة 2022، لتعاود الارتفاع إلى 16.4% خلال الثلاثي الرابع من سنة 2023 وتستقر تقريبا في 16% سنة 2024 وتعاود الانخفاض إلى 15.7% خلال الثلاثي الأول من سنة 2025. بمعنى آخر فان تراجع نسبة البطالة طيلة هذه الفترة ليس مستقرا ولا يعبّر عن خطة تمّ وضعها في علاقة بملف التشغيل للحدّ من هذه الظاهرة الاجتماعية المدمرة بل هو نتيجة عدة عوامل لعل أهمها ارتفاع الهجرة الشرعية وغير الشرعية وكذلك العمل الموسمي في قطاع الفلاحة كلما شهد هذا الأخير ازدهارا بسبب تحسن الظروف المناخية واضطرار الشباب حتى من حاملي الشهادات العليا إلى العمل العرضي (في قطاع السياحة أو في القطاع الصناعي بعقود محدودة زمنيا…) خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هذه النسب تستثني هؤلاء، أي من تحصلوا على عمل عرضي من نسبة السكان النشيطين المعطلين عن العمل.
وعلى العموم تعتبر نسبة البطالة في تونس مرتفعة جدا وللتذكير فقد كانت هذه قبيل الثورة مباشرة في حدود 13% (كل الأرقام المستعملة مأخوذة من تقارير المعهد الوطني للإحصاء) وهي نسبة كانت كفيلة باندلاع شرارة ثورة الحرية والكرامة تحت شعار “شغل – حرية – كرامة وطنية”. في المقابل جابهت المنظومة الشعبوية هذه الآفة الاجتماعية بالتنكر للقانون عدد 38 ومواصلة سياسة غلق الانتدابات في الوظيفة العمومية إذعانا لشروط المؤسسات المالية العالمية في علاقة بالضغط على كتلة الأجور…
أردت في هذا المقال أيضا الإضاءة على تطور نسبة الفقر للفترة الممتدة من 2021 إلى 2025 باعتباره من أهم المؤشرات دلالة على نجاح منظومة الحكم أو فشلها اقتصاديا (إنتاج الثروة) من جهة وعن المصالح الطبقية التي تدافع عنها المنظومة (توزيع الثروة) ومدى تبنيها لمقاربة اجتماعية للنهوض بأوضاع المفقرين والكادحين كما تدّعي. إن آخر مسح وطني حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر قام به المعهد الوطني للإحصاء يعود إلى سنة 2021، وقد انطلق المعهد في إجراء مسح جديد ستصدر نتائجه سنة 2026 حسب ما صرّح به المدير الفني للتعداد العام للسكان. لذلك فإن آخر الأرقام المتوفرة هي لدراسة أعدتها منظمة “اليونيسيف” بين سنتي 2023 و2024 والتي تفيد أنه في ظرف 3 سنوات ارتفعت نسبة الفقر من 16.6% إلى 18.4%، أي أن أكثر من مليوني تونسي يعيشون تحت خط الفقر. كما أفادت الدراسة أن 26% من إجمالي 3.4 مليون طفل يعيشون تحت خط الفقر وأن 5.1% منهم يعيشون الفقر المدقع. بالإضافة إلى ذلك فإن 21% ممن يعيشون تحت خط الفقر و26% ممّن يعيشون فقرا مدقعا غير مشمولين بأي نظام حماية اجتماعية!
كما يجدر الإشارة أن هذه النسب تتغير حسب المناطق، إذ نجدها مرتفعة في المناطق الريفية مقارنة بالمناطق الحضرية وتسجل أعلى الأرقام في منطقة الوسط الغربي حيث يعيش 50% من الأطفال في هذه المنطقة في أسر فقيرة. وهذا التفاوت ينطبق أيضا على نسب البطالة وغيرها وهو ما يدل على استمرار التفاوت في التنمية بين الجهات الذي كان أيضا من أسباب انطلاق شرارة الثورة من المناطق الداخلية والجهات المهمشة لتصل إلى أحزمة الفقر حول المدن الكبرى وخاصة العاصمة التي يعد أغلب متساكنيها من النازحين من المناطق الداخلية والمناطق الريفية بحثا عن فرص عمل وهربا من الفقر والتهميش.
مسار تشاركي كاذب للتغطية على مركزة القرار في شخص قيس سعيد وشعارات واهية تغطي استمرارية خيارات التفقير والتهميش
انطلق الإعداد للمخطط التنموي 2026 – 2030 مع إصدار منشور رئاسة الحكومة عدد 10 بتاريخ 22 أفريل 2025 الذي ضبط الإطار العام الذي يتمّ أثناءه إعداد هذا المخطط وجملة التحديات الوطنية والعالمية كما ضبط منهجية الإعداد والرزنامة والرهانات والأهداف وقد جاءت هذه الأخيرة فضفاضة جدا بدون تفاصيل قابلة للقياس ودون تحديد للمصادر المالية أو للمعايير الموضوعية ممّا يجعلها أقرب إلى الشعارات والتسويق السياسي منها إلى الأهداف.
وأكد كل من رئيسة الحكومة ووزير الاقتصاد والتخطيط في أكثر من مناسبة على أهمية هذا المخطط باعتباره تجربة جديدة تعتمد لأول مرة في تونس وتقطع مع السياسات السابقة إذ تعتمد – وفقا لرؤية رئيس الجمهورية – على مسار تصاعدي يقوم على بناء قاعدي يضمن إرساء تنمية حقيقية شاملة وعادلة تنطلق من المحلي إلى الجهوي فالوطني.
فإلى أيّ مدى يمكن اعتبار هذا المخطط بالفعل تأسيسا لمنوال تنموي جديد؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن هناك تغيير في الهيكلة التي ستتولى عملية التخطيط. فالدولة التونسية اعتمدت منذ “الاستقلال” هذه الآلية من خلال مخططات خماسية أو ثلاثية وبنت على امتداد عقود الإطار الهيكلي المشرف على هذه العملية من دواوين تنمية ومندوبيات جهوية للتنمية ولجان قطاعية إضافة إلى مشاريع الوزارات… وقد كانت هذه البنية البيروقراطية التي تعمل في ظل نظام ديكتاتوري عميل وتابع مسؤولة عن تكريس خيارات المنظومة التي كانت تخدم حفنة من الكمبرادور مقابل تفقير السواد الأعظم من الشعب وتعميق ارتهان البلاد للقوى الامبريالية…
إن هذا المسار التصاعدي المعتمد في إعداد مخطط 2026 – 2030 ليس بدعة للمنظومة الشعبوية بل هو في حقيقة الأمر تيار تنموي ظهر في ثمانينات القرن الماضي في مواجهة مركزة الدولة للفعل التنموي ممّا يجعله يتأثر بالعوامل السياسية على حساب الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية خاصة في البلدان النامية حيث تفرض المؤسسات الدولية خياراتها مسنودة بالقوى الاستعمارية ممّا يحول دون تطوير فعلي لاقتصادات هذه الدول ويحول دون إنتاجها للثروة ويعزز ظاهرة التفاوت الجهوي بتركيز الاستثمارات في المناطق الساحلية لسهولة التنقل ونقل البضائع… ويهدف تيار التنمية المحلية إلى تحويل التنمية إلى سيرورة داخلية تنطلق من الجماعات المحلية المدركة لخصوصيات المناطق وميزاتها وطبيعة الثروات وبالتالي الأنشطة التي يمكن أن يقع تركيزها هناك بغاية تحقيق تنمية شاملة تقضي على التفاوت الجهوي وتأخذ بعين الاعتبار الجوانب الاجتماعية. بيد أن هذه المقاربة تقوم على شرطين أساسيين.
الأول هو إرساء مبدأ التشارك لجميع الفئات والمكونات المجتمعية في المسار التنموي إعدادا وتنفيذا وتقييما من سلطات وجماعات محلية ودمج المجتمع المدني انطلاقا من الجهات وصولا للمركز مع توفير درجة عالية من اللامركزية والاستقلالية الجهوية. لكن في ظل “البناء القاعدي” لقيس سعيد نجد تغييبا كليا لمنظمات المجتمع المدني لا فقط في مراحل التنفيذ والتقييم (الغائب أصلا كما تمّ توضيحه أعلاه) بل حتى في مرحلة الإعداد والتخطيط. كما أن المجالس المحلية ومجالس الجهات والأقاليم لا تتمتع بالاستقلالية المطلوبة في إطار هذا النموذج التنموي والحال وقد ركز سعيد كل السلطات في يده. بل هي مجالس دون صلاحيات حقيقية، يعتبر دورها استشاريا ولا تمتلك حتى الآليات التي تخوّل لها مراقبة تفعيل التوصيات التي وضعتها. وبمعنى آخر فإنه لا قيمة لماراطون الجلسات التي عقدت في الفترة الفارطة: 3317 جلسة عمل لـ 279 مجلس محلي و154 جلسة عمل لـ 24 مجلس جهوي و12 جلسة عمل لـ 5 مجالس أقاليم والتي أفرزت جميعها 35435 مشروعا مقترحا! ففي النهاية ستضع وزارة الاقتصاد والتخطيط المشروع وفق “رؤية سيادته” ويمرّ للنقاش في مجلس وزاري ولن يكون هذا المخطط ساري المفعول دون مصادقة “سيادته”.
الثاني هو تشجيع المبادرة الخاصة والذاتية، وفي هذا الصدد يعوّل سعيد على الشركات الأهلية كآلية أساسية للاستثمار الخاص وتمّ الترويج لها بوصفها الحل السحري لمعضلة التنمية في الجهات الداخلية. غير أن نموذج الاقتصاد الاجتماعي التضامني يهدف في الأساس إلى إرساء وحدات لخلق الثروة خارج الدورة الاقتصادية الكلاسيكية يكون الطرف الفاعل فيها الفئات المهمشة التي بقيت على هامش الدورة العادية للإنتاج، وهو ما يتطلب إطارا تشريعيا خاصا ومسالك تمويل واضحة. ورغم صدور القانون عدد 15 لسنة 2022 المتعلق بالشركات الأهلية، فإن النص حسب عديد الخبراء يعاني من غموض وخلط كبير، إذ يعتمد صيغ مبهمة لا توضّح بدقة علاقة هذه الشركات بالجهات الإدارية أو الجبائية مع نقص في التراتيب التطبيقية. أمّا بالنسبة للتمويل فلا تدخل هذه الشركات ضمن برامج القروض البنكية التقليدية ولا ضمن تمويلات البنك التونسي للتضامن كما لم يتمّ إنشاء صندوق دعم خاص بها… ما تركها دون تمويلات واضحة ومستقرة. هذا بالإضافة إلى غياب برنامج لتكوين الفئات المعنية سواء في المجالات القانونية أو في دراسة جدوى مشاريعهم. وعلى أرض الواقع، فقد نشر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية دراسة تفيد أن 70% من الشركات الأهلية المحدثة لم تنجح في الانطلاق الفعلي لنقص التمويل والتكوين القانوني والمؤسساتي. بل إن عشرات الشركات الأهلية تأسست “رمزيا” في عدد من الجهات كحملة دعائية دون قدرة على الإنتاج أو على التشغيل. أي أن الشركات الأهلية ليست في النهاية سوى شعارا آخر يُتداول في خطابات الرئيس دون أثر ملموس في التشغيل أو في إنتاج الثروة.
نأتي الآن إلى مضمون المخطط الذي يرتكز على “مشروع رؤية تونس 2035” والتي سبق وبيّنا في الجزء الأول من المقال التناقض بين الشعارات المصرح بها والنتائج الملموسة من توسع لدائرة الفقر وغياب التغطية الاجتماعية واستمرار التفاوت التنموي بين الجهات واستمرار ارتفاع نسب البطالة… وعلى العموم فإن قيس سعيد مستمرّ في الخيارات النيوليبرالية، من ذلك توسيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP) بما في ذلك المجالات الحيوية كالتعليم والصحة. كما راج الحديث مؤخرا عن مضاعفة إنتاج الفسفاط واستعادة مكانة تونس في سوق الفسفاط العالمي أمّا المسكوت عنه فهو أن مشروع توسيع استغلال الفسفاط سيكون عبر الشراكة مع مستثمرين خواص. كل هذه التوجهات تعزز الربح الخاص على حساب المرفق العام وتخدم مصالح حفنة من الشركات المرتبطة بالرأس مال الأجنبي والعائلات البورجوازية النافذة بالبلاد. خاصة مع غياب تصور واضح لتوزيع عادل للثروات.
إضافة إلى خلوّ المخطط من أيّ توجه نحو إصلاح المنظومة الضريبية لتستمر بذلك الضغوطات على أصحاب الدخل الثابت أي الأجراء مقابل استمرار الامتيازات الجبائية لفائدة الأثرياء.
نخلص إذن إلى أن الملامح العامة للمخطط التنموي 2026 – 2030 لن تخرج عن نفس المسارات والخيارات التي رسّخت عبر عقود هيمنة أقلية بورجوازية مترابطة المصالح مع الإدارة ومع الرأس مال الأجنبي، أي أن هذا المخطط هو في الحقيقة لا يمثل قطيعة مع الخيارات الاقتصادية المعتمدة قبل الثورة والتي تواصلت بعد الثورة (مخطط الياسمين للباجي قائد السبسي – خيارات المهدي جمعة ويوسف الشاهد وإلياس الفخفاخ) والتي فجرت الانتفاضات والاحتجاجات الاجتماعية طيلة العقدين الأخيرين بل هو استمرار لها.
لقد توقفت الثورة التونسية عند تغيير شكل السلطة وافتكاك بعض المكاسب السياسية، ما هو بصدد الانحدار في ظل حكم قيس سعيد. ولم تمتد الثورة لتشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية إذ حالت التنازلات التي قدمتها البورجوازية في المجال السياسي دون المساس بمصالحها الاقتصادية. وهذا الوضع لن يتغير سوى بثورة جديدة تبني على أنقاض المنظومة الشعبوية – التي تمثل الواجهة السياسية الحالية للبورجوازية النافدة الحاكمة فعليا في البلاد – ديمقراطية شعبية كبديل مدافع عن مصالح الطبقات والفئات الشعبية والمفقرة في إطار مقاربة تنموية مكرسة للسيادة الوطنية خالقة للثروة وضامنة للعدالة في توزيعها.
صوت الشعب صوت الحقيقة
