الرئيسية / صوت الشباب / التنظم فعل مقاومة
التنظم فعل مقاومة

التنظم فعل مقاومة

بقلم حنان بعزاوي

“تعالوا إلى الحزب.. نحن لا نعدكم بمنافع من هذا الأمر، نحن ندعوكم إلى القيام بعمل صعب” لينين.

في تونس اليوم، في ظل نظام شعبوي يسعى لتقديم نفسه بوصفه السلطة المباشرة للشعب، تتجلى بوضوح ممارسات تهدف إلى ضرب كل أشكال التنظيم المستقل، خصوصا تلك التي تحمل بذور التغيير الجذري. هذا السلوك ليس عشوائيا أو عرضيا، بل يعكس وعي السلطة بخطورة أن يتحول الشباب، خاصة أبناء الطبقة العاملة والفئات الشعبية، إلى قوة منظمة تمتلك برنامجا واضحا وأدوات نضال فعّالة. فالشعبوية، شأنها شأن كل أنظمة الرأسمالية في العالم، ليست ظاهرة عابرة أو محايدة، بل جزء من البنية الطبقية التي تكرّس الجوع والتفقير والتهميش، وتعيد إنتاج علاقات الاستغلال بأشكال جديدة. ومن هنا، يصبح إبعاد الشباب والطبقة العاملة عن أيّ تنظيم جماعي واع مهمة ممنهجة تخدم بقاء السلطة الطبقية في مأمن من قوة الجماهير المنظمة.

إنّ استهداف السلطة للأجسام الوسيطة، من أحزاب ونقابات عمالية وطلابية، آخرها استهداف الاتحاد العام التونسي للشغل، يعكس إدراكها لطبيعة الصراع الطبقي. فالطبقة العاملة تمثل القوة الحقيقية المحركة للتاريخ بمعنى أنها القادرة على التغيير والمنتفعة منه، ولكن قوتها لا تكمن فقط في عدد أفرادها أو في ظروفهم المعيشية، بل في وعيهم وتنظيمهم. حيث أنّ التنظيم هو السلاح الحاسم الذي يحوّل السخط العفوي إلى قوة ثورية واعية، وبدون أداة تنظيمية واعية لا يمكن للحركة أن تتجاوز حدود الاحتجاجات العشوائية إلى الفعل التغييري الجذري. ومن هذا المنطلق، يصبح تنظيم الشباب، كفئة ناشطة وحركية تنتصر للثورة والحرية والعدالة الاجتماعية، شرطا أساسيا لتحويل الطاقات الفردية إلى قوة جماعية مؤثرة.

التاريخ التونسي غنيّ بالأمثلة على قدرة الشباب على لعب دور طليعي حين يتسلّح بالوعي والتنظيم. فقد شهدت العقود الماضية نشاطا مكثفا للشباب داخل أسوار الجامعة أو حتى في الشوارع وأماكن العمل، سواء في الاتحاد العام لطلبة تونس أو في التنظيمات الشبابية الحزبية أو اتحاد المعطلين عن العمل… هذه التجارب لم تكن سهلة؛ فقد دفع كثير من المناضلين ثمن مواقفهم قمعا وسجنا وتعذيبا، لكن الثمن الذي دفعوه لم يذهب هدرا. فقد رسخت هذه التجارب مفهوم أنّ الفعل الجماعي المنظم يمكن أن يفتح أفقا أوسع من الغضب الفردي أو الانفجار العفوي. ومن الأمثلة التاريخية ذلك النشاط الطلابي في الجامعات، حيث شكّل تنظم الطلبة في فترات سابقة مدرسة لتكوين كوادر مناضلة، ساهمت في رفع وعي أجيال كاملة حول أسس التنظيم والصراع الطبقي وربط المطالب اليومية بالبرنامج السياسي الشامل.

إنّ الشباب يمثل “جيش الاحتياط الثوري” الذي يمكن أن يضخّ دماء جديدة في الحركة العمالية، شرط أن يوضع في الإطار الصحيح للتنظيم السياسي. هذا التوجيه لا يتحقق عبر الشعارات أو الحملات الموسمية، بل عبر إدماج الشباب في بنية نضالية متماسكة، حيث يتعلمون الممارسة السياسية ويكتسبون خبرة صنع القرار ويتحملون المسؤوليات. وهو بذلك يربط التعليم النظري بالعمل الميداني ويؤكد أن التوعية لا تقل أهمية عن العمل الفعلي في التنظيم.

في السياق التونسي، حيث تستفحل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ويواجه الشباب حواجز متعددة تمنعهم من الاندماج في سوق العمل أو الحياة الأكاديمية، يصبح الانخراط في التنظيم الجماعي بمثابة فعل مقاومة. كل شاب يختار الانخراط في نشاط جماعي واع، يعلن رفضه للواقع المفروض عليه، ويضع نفسه في موقع الفعل بدل أن يكون مجرد متفرج أو ضحية. السلطة، مهما كانت واجهتها تخشى الشباب المنظم لأنه يعطل مشروعها في إعادة إنتاج الخضوع الاجتماعي، ويجعلها مضطرة لمواجهة مطالب مضبوطة وواضحة.

والتنظيم الشبابي هنا لا يقتصر على الجانب السياسي المباشر، بل يشمل إنتاج فضاءات ثقافية وفكرية قادرة على تحدي الهيمنة، وخلق وعي جماعي يمكن أن يتحول إلى قوة تغيير. فالهيمنة لا تُفرض بالقوة العسكرية فقط، بل عبر السيطرة على الفكر والإعلام والتعليم، وما لم يقم الشباب بتحدي هذا المجال من خلال التنظيم والوعي، ستظل قوى الاستغلال قادرة على الاستمرار في فرض شروطها.

الوعي التنظيمي لدى الشباب يجب أن يكون مترابطا مع وعيهم الطبقي، بحيث تصبح المطالب اليومية – من حق في التعليم والعمل والكرامة الإنسانية – جزءا من مشروع نضالي أوسع يسعى لتفكيك آليات الاستغلال وإعادة توزيع القوة الاجتماعية. هذه العملية تحتاج إلى أدوات تنظيمية متعددة: شبكات تضامن، أنشطة ميدانية، حملات ثقافية، وتواصل رقمي واعٍ يربط النقاشات الفكرية بالممارسة اليومية. التنظيم هنا ليس شكليا، بل هو استراتيجية لتجميع الطاقات، وتوجيهها نحو أهداف واضحة، ولضمان استمرارية النضال في مواجهة القمع والتشتت.

في نهاية المطاف، الدفاع عن التنظيم الشبابي ليس مجرد شعار نظري أو ممارسة رمزية، بل ضرورة استراتيجية لضمان حضور القوى الشعبية في صراعها ضدّ الاستغلال. التحدي يكمن في توعية الشباب، وضمّهم للتنظيم، بحيث يصبح كل فضاء (جامعة، حي شعبي، فضاء رقمي…) نقطة ارتكاز لبناء القوة الجماهيرية القادرة على تغيير الواقع. التنظيم هو الجسر بين الطاقات الفردية والبرنامج السياسي الشامل، وهو ما يحوّل الطاقات المبعثرة إلى حركة واعية، قادرة على المواجهة والتخطيط وإحداث التغيير الجذري الذي لا يمكن أن تحققه المبادرات الفردية العشوائية.

إلى الأعلى
×