الرئيسية / صوت الاقتصاد / ردّا على الدعاية الرسمية: النموّ الوهمي (الجزء الأول)
ردّا على الدعاية الرسمية: النموّ الوهمي (الجزء الأول)

ردّا على الدعاية الرسمية: النموّ الوهمي (الجزء الأول)

بقلم جيلاني الهمامي

صدرت في المدة الأخيرة جملة من الإحصائيات والأرقام في مواقع مؤسسات رسمية (البنك المركزي ومعهد الإحصاء الخ…) حول الوضع الاقتصادي والمالي في تونس يؤكد بعضها على تعافي الاقتصاد التونسي والمالية العمومية. غير أنه وبالتمعن في هذه الأرقام وقراءتها بصورة مقارنة ومدققة يتضح أنّ الكثير من الاستنتاجات التي يجري ترويجها والدعاية لما فيها من “إنجازات” و”نجاحات” ليس سوى مواصلة لنشر الوهم والمغالطات التي لا تصمد أمام معطيات الواقع وحتى أمام بعض الأرقام الرسمية نفسها.

النمو الوهمي

جاء في تقرير معهد الإحصاء بتاريخ 18 أوت الماضي أنه حسب “التقديرات الأوّلية للحسابات القوميّة الثلاثيّة أنّ النشاط الاقتصادي قد سجّل نموّا بنسبة 3,2 بالمائة في حجم الناتج المحلي الإجمالي المعالج من تأثير التغيرات الموسميّة خلال الثلاثي الثاني من سنة 2025، وذلك مقارنة بالثلاثي المماثل من سنة 2024، أي بحساب الانزلاق السّنوي”(1)

وقد أثارت هذه النسب استغراب الكثير من المختصين وأساتذة علم الاقتصاد. ذلك أنها جاءت مخالفة لتوقعات أغلب المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية وصندوق النقد العربي (توقعات بنسبة لا تزيد عن 1.9%). علاوة على ذلك فإنّ نسبة النمو المعلنة (3.2%) والتي تبدو في ظاهرها إيجابية هي في الحقيقة نسبة نمو اسمية (taux de croissance nominal) لا تأخذ بعين الاعتبار نسبة التضخم وانخفاض قيمة الدينار (5.3%) حتى نتعرف على نمو النمو الحقيقي (taux de croissance réel). إنّ حاصل النمو طيلة السداسي الأول من السنة الجارية هو في الحقيقة انكماش بنسبة 2.1% أو بعبارة بسيطة نسبة نمو سلبية (-2.1%). هذا علما وأنّ العديد من القطاعات الاقتصادية الأساسية سجلت نسب نمو سلبية (القطاع البنكي والمالي – 7.7%، قطاع النفط والغاز 12.1 % …) ونسب سلبية جدا مثلما سجل قطاع البترول وتكريره 62.3 %.

حتى القطاعات التي عرفت نسب نمو إيجابية مثل قطاع الفسفاط (39.5%) والفلاحة (9.8%) الصناعات الكيميائية (10%) والصناعات الميكانيكية وقطاع البناء (9.6%) فذلك ناتج عن التضخم وعن انخفاض قيمة العملة ولم يفض إلى تحسن فعلي في الإنتاجية أو توسع في الاستثمار أو خلق مواطن شغل جديدة. علما وأنّ جانب مهمّ من هذه القطاعات الاستخراجية (الفسفاط) أو الطبيعية المرتبطة بالمناخ (الفلاحة) والسياحة (7%) مرتبط بأوضاع ظرفية ولم يكن التحسن في معدلات نموها متأتّ عن تطور نسق الاستثمار الخاص الذي لم يسجل تطورا يذكر مثله مثل الاستثمار العمومي الذي سجل تحسنا في مستوى نسق إنجاز المشاريع المعطلة حسب الدعاية الرسمية في انتظار أن يقع التدليل على صحتها. ويجدر التذكير هنا أنّ التحسن المسجل في قطاعات الصناعات الميكانيكية والبناء مرتبط بالتحسن الذي طرأ على مؤشرات التجارة الخارجية التي عرفت تطورا في واردات المواد الأولية ونصف المصنعة ومواد التجهيز الأمر الذي ساعد على الزيادة في الإنتاج في هذه القطاعات..

لكن مثل هذه الإيجابيات لم تمرّ دون أن تؤدي إلى مشاكل جانبية تتمثل أساسا في ارتفاع نسبة العجز التجاري للأشهر السبعة الأولى من هذا العام إلى 11.9 مليار دينار أي بزيادة قدرها 23% مقارنة بنفس المدة من العام الماضي (9.6 مليار دينار). هذا التدهور مردّه زيادة في الواردات من الخارج (حوالي 5%) مقابل جمود الصادرات ما أدّى إلى تراجع نسبة التغطية من 79% إلى 75%.

هذه الأرقام تقيم الدليل على أنّ تحسن نسبة النمو في بعض القطاعات لم يحصل نتيجة تعافي هيكلي وإنتاجي وإنما حصل على أساس معطيات ظرفية (فصل الصيف وعودة التونسيين بالخارج وارتفاع نسبي للاستهلاك الداخلي) أو بسبب إجراءات اضطرارية (مثل رفع القيود على التوريد) إذا ساعدت على حل مشكل فقد تسببت في مشاكل موازية (عجز الميزان التجاري). بعبارة أخرى وتماما كما تم تفسيره رسميا تعزّى نسبة النمو المذكورة إلى الطلب الداخلي بما في ذلك الاستهلاك والاستثمار. وسنحاول في ما يلي التوقف عند هذا التفسير بتسليط الضوء على ما يتصل بهذا العنصر الذي دفع بنسبة النمو المشار إليها.

لمزيد التوضيح

ولمزيد توضيح الاختلالات الهيكلية للاقتصاد التونسي التي لا تسمح بتصديق المغالطات وأرقام الزينة المنشورة مؤخرا، نعرّج على ظاهرة تنامي الكتلة النقدية في السوق منذ مدة وخاصة منذ شهر مارس الفائت. فقد بلغ حجم الأوراق النقدية المتداولة في السوق، حسب أرقام البنك المركزي بتاريخ 15 أوت الماضي ولأول مرة 26 مليار دينار بينما كانت سنة 2020 في حدود 20 مليار فقط أي بزيادة 6 مليارات في بحر خمس سنوات. هذه الزيادة لها مدلولاتها. فهي ناجمة عن جملة من العوامل الظرفية والهيكلية منها ارتفاع نسبة الاستهلاك بارتباط بعطلة الصيف و”الصولد الصيفي” والاستعدادات للعودة المدرسية والجامعية وهي كلها عوامل ضغط على الطلب العام على السيولة المالية لمواجهة هذه الاستحقاقات بالنسبة إلى المستهلكين والأسر. وهنالك عوامل أخرى أيضا هيكلية منها قانون الشيكات الجديد الذي دخل حيّز العمل منذ فيفري 2025 وسرعان ما غيّر المشهد فيما يتعلق بطرق الخلاص. فقد تراجعت المعاملات بالشيك بنسبة 62% وأخلي المكان للمعاملات نقدا. إلى جانب ذلك تم منذ أكتوبر 2024 تخفيف الرقابة على حيازة مبالغ مالية كبيرة. وكان لمثل هذه الإجراءات أن دفعت الطلب على السيولة المالية وزادت في حجم المعاملات نقدا أو ما يسمى “الكاش” cash.

لكن تبعات هذه السياسات كانت أعمق فمن آثارها أن تفاقم حجم قطاع الاقتصاد الموازي على حساب القطاع المنظم ومعلوم أنّ القطاع غير المنظم ينشط أساسا في المجالات والأعمال التجارية والتسويق ولا يساهم في النشاط الإنتاجي إلا بشكل ضعيف جدا. وبتفاقم حجمه يزداد الطلب على الأوراق النقدية في المعاملات خارج المنظومة البنكية مقابل ركود الإنتاج الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع نسبة التضخم. ومعلوم أنّ الخطر كل الخطر في ازدياد حجم السيولة بنسق أسرع وأقوى من نسق ارتفاع نسبة الإنتاج. كما يخشى دائما أن يزداد تداول النقد خارج المنظومة البنكية بشكل تفقد الدولة السيطرة على هذه الظاهرة المالية فتزداد الحاجة لإعادة ضخ كميات جديدة لتمويل المنظومة المالية والسوق وذلك ما سيضطر البنك المركزي إلى التدخل لتوفير الكميات المطلوبة وربما طباعة كميات من الأوراق النقدية الجديدة.

النتائج الطبيعية لهذا المنزلق إلى جانب ارتفاع نسبة التضخم هو تراجع الاستثمار وبالتالي تراجع الإنتاج المادي وتعمّق الهوة بين نسق زيادة حجم السيولة النقدية ونسق نمو الإنتاج. وبالنتيجة تنخرم الموازنات النقدية في البلاد رغم تشدد البنك المركزي في الحفاظ على نسب الفائدة عالية نسبيا (7.5%). وهو في حد ذاته، التشدد، عامل من عوامل الأزمة وليس معالجة كما يُعْتَقَدُ.

الحقيقة حول آفة التضخّم

من الأمور التي أثارت استغراب الكثير ما جاء في الإحصائيات المنشورة مؤخرا سواء من قبل معهد الإحصاء أو البنك المركزي بخصوص نسبة التضخم 5.2% في شهر أوت 2025 بعد أن كان 5.3 في شهر جويلية. وجه الاستغراب هنا هو الادعاء بأن هذا الانخفاض الطفيف ناجم فيما هو ناجم عن تراجع أسعار الملابس والأحذية (4.6%) مقابل استقرار أسعار بقية فروع مؤشر أسعار الاستهلاك. والغريب في الأمر أنّ الإحصائيات تدّعي أنّ مؤشر الزيادة في أسعار المواد الغذائية 1.5% وأسعار مجموعة خدمات التعليم بنسبة 1%، في حين أنّ الفروع المكونة لهذه النسبة (الخضر واللحوم والحوت والملابس والغلال والفواكه الجافة الخ…) سجلت كلها نسب زيادة تتراوح بين 10 و18.3%. إنّ النسبة العامة المعلن عنها لا تعكس بالمرة الجوانب التي تتصل بحياة الغالبية العظمى من التونسيات والتونسيين الذين تمثل هذه الفروع الأساسي من استهلاكهم ومن مصاريفهم.

إنّ تعطل منظومات الإنتاج في جميع القطاعات تقريبا والنقص الفادح في المنتوجات التي يحتاجها النشاط الاقتصادي التونسي والمواطن على حد السواء هو السبب الرئيسي لارتفاع الأسعار. فعدم تناسب العرض مع الطلب في السوق ينعكس آليا على الأسعار وهو بالتالي السبب الأصلي للتضخم. ومعلوم أنّ تحسن الإنتاج مرتبط بنسق تحسن الاستثمار العمومي والخاص. تؤكد المعطيات الرسمية أنّ ميزانية الدولة لا تخصص للاستثمار العمومي إلى حوالي 10 مليار دينار (بينما تخصص أكثر من 24 مليار لكتلة الأجور و11 مليار للدعم و25 مليار لخدمة الدين) وهي نسبة ما انفكت تتضاءل من ميزانية إلى أخرى والتي تفي بالحد الأدنى المطلوب لبعث مشاريع وخلق الثروة ومواطن شغل وتنشيط الدورة الاقتصادية. وفي ظل شح الموارد نظرا لتراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتقلص إمكانيات التداين الخارجي فإنّ ما تتحصل عليه الدولة من قروض داخلية (14 مليار دينار) يذهب حصريا لمصاريفها الأخرى عدا الاستثمار. أما الاستثمار الخاص فكما سبق قوله فإنّ مساهمته ظلت ضعيفة وغير ذات بال في توسيع نطاق القدرة الإنتاجية للاقتصاد التونسي.

ولكن عوامل أخرى كثيرة تساهم أيضا بشكل مباشر أو غير مباشر في التضخم. فتجميد الأجور وعدم مواكبتها للزيادات في الأسعار يؤدي إلى تدهور المقدرة الشرائية وبالتالي على تراجع قدرة المواطنين على الاستهلاك بالقدر الكافي الأمر الذي يؤدي أيضا إلى اختلالات أخرى في الدورة الاقتصادية وتعطيل نسق النمو بالنسبة إلى الاقتصاد الكلي macroéconomie.

عوامل كثيرة أخرى كنا جئنا على البعض منها (تزايد حجم السيولة في السوق مثلا) وسنأتي على البعض الآخر في العدد القادم تساهم هي أيضا في تصاعد نسق التضخم والانخرام العام في الدورة الاقتصادية التي يدفع المواطن فاتورتها.

ردّا على الدعاية الرسمية: النموّ الوهمي (الجزء الثاني)

الهوامش
1 – أنظر موقع معهد الإحصاء على الرابط التالي:  النمو الإقتصادي للثلاثي الثاني لسنة 2025 | INS

إلى الأعلى
×