الرئيسية / صوت الوطن / زيتون تونس من نعمة إلى نقمة (2)
زيتون تونس من نعمة إلى نقمة (2)

زيتون تونس من نعمة إلى نقمة (2)

بقلم علي البعزاوي

تعرّضنا في الجزء الأول من هذا النص إلى مختلف الإشكاليات التي يعيشها قطاع الزيت ودور الدولة فيما أطلقنا عليه أزمة الزيت/ الزيتون والفئات الأكثر تضررا ونعني صغار وفقراء الفلاحين والخسارة المتأتية من سوء إدارة القطاع… وسنتطرق في الجزء الثاني والأخير إلى الإجراءات المطلوبة والواجب اتخاذها للاستفادة من هذا القطاع الاستراتيجي الذي يمكن أن يشكل طوق النجاة لبلادنا واقتصادنا خاصة في ظل شحّ الموارد الطبيعية من بترول وغاز وغيرها من الثروات الطبيعية. وسنركز على الإجراءات العاجلة الواجب اتخاذها قبل أن نتناول بالدرس الحلول الاستراتيجية.

لكن قبل هذا وذاك لا بدّ من تدارس الظروف العامة التي تحفّ بصابة هذا الموسم التي تعتبر قياسية حيث يتوقع أهل الذكر صابة بنحو 500 ألف طن. والسؤال الذي يطرح نفسه ويطرحه أساسا المعنيون مباشرة بالقطاع وفي مقدمتهم المنتجون: هل ستشهد أسعار الصابة تطورا يستجيب لآمال وتطلعات الفلاحين أم أن التاريخ سيعيد نفسه وسيقع مرة أخرى التفريط في الصابة بأسعار لا تلبي انتظاراتهم؟

هل يعيد التاريخ نفسه؟

المؤشرات الأولية تدعو إلى شيء من التفاؤل. فالتقديرات هذا الموسم حسب المجلس الدولي للزيتون تؤكد أن الطلب يفوق العرض بنسبة 10 % رغم أن هناك زيادة منتظرة في الصابة هذا الموسم. وسيكون سعر الكيلوغرام من الزيت عند الإنتاج في حدود الـ 14د.

من جهة أخرى هناك مساع من طرف المسؤولين في قطاع الزيتون لتجنب ما وقع في الموسم الفارط. وعلى الورق اتخذ المجلس الوطني للزيتون المنعقد بإشراف وزير الفلاحة بعض الإجراءات/القرارات لتحسين البنية التحتية كصيانة وتجهيز مخازن زيت الزيتون، واستكمال تجهيز مخبر تحاليل الزيت بالمعدات الضرورية، ووضع مخطط لإضافة طاقة استيعاب تخزينية جديدة في المراكز القائمة وتثمين المرجين الخ… لكنها تبقى مجرد إجراءات على مستوى الخطاب في انتظار أن يقع الالتزام بتنفيذها. أمّا المسألة الأهمّ في الموضوع لتجنب كارثة الموسم الفارط فتتمثل في توفير التمويلات الضرورية للفلاح أولا حتى لا يضطر كالعادة للبيع السريع وبأيّ ثمن لخلاص الديون ومستلزمات الجني، ولأصحاب المعاصر حتى يقع اقتناء كل الصابة دون توقف عن العمل، وللمصدرين كي يتحلوا بالمزيد من مرونة التسويق. عمليا النقاشات مع بنك التضامن حول كيفية التمويل بدأت متأخرة وليست هناك إجراءات ملموسة واضحة ومطمئنة فيما يتعلق بموضوع التمويلات، ما يجعل الفلاح خاصة يعيش حالة من التوجس والحيرة بعد أن خسر الموسم الفارط موارد هامة بسبب ضعف سعر البيع عند الإنتاج.

وللتأكيد على ضبابية المشهد وعلى الخوف والقلق السائدين وفي ظل غياب الدولة يلجأ حاليا بعض الخواص التونسيين للمغرب ومصر لمواجهة الإجراءات الجمركية الأمريكية لشراء الزيت التونسي وتصديره للخارج. وهذا من شأنه تكريس مزيد التبعية لقطاع الزيت ومؤشر سلبي للمنتج التونسي الذي ربما يضطر للبيع بأبخس الأثمان.

التمويلات تبدو إذن صعبة المنال وعصية خاصة على الحلقة الأضعف في سلسلة الإنتاج ونعني الفلاحين الصغار بسبب شحّ السيولة المالية لدى البنوك التي يتوجه الجزء الأكبر منها لتمويل ميزانية الدولة (حوالي 11 مليار دينار مخصصة للميزانية الحالية 2026 بعنوان الاقتراض الداخلي) وبسبب بطء تدخل الدولة لحل الإشكال.

الإجراءات العاجلة المطلوبة

إنّ أولى الإجراءات الواجب اتخاذها لتحرير الفلاح من الضغوط هي توفير التمويلات الضرورية لمدة ستة أشهر على الأقل وبدون فوائض حتى يصبح قادرا على التخزين ولا يضطر لبيع زيته قبل ارتفاع الأسعار.هذا إلى جانب تمكين أصحاب المعاصر والمصدرين من قروض ميسرة تساعدهم على العمل بأريحية.

ثانيا تسهيل إجراءات التخزين وشراء صابة صغار الفلاحين بأسعار مناسبة لمنع انهيار الأسعار.

ثالثا تنفيذ ما اتخذ من قرارات خاصة ما يتعلق منها بدعم القدرة على التخزين (توفير براميل من الفولاذ خاصة بالخزن، التسريع في عمليات الصيانة للمخازن المهترئة…).
رابعا تفعيل دور الديوان الوطني للزيت بدءا بتحديد الأسعار وانتهاء بالتخزين والتصدير وتمكينه لوجستيا وإداريا من مستلزمات ذلك (انتداب موظفين جدد، اقتناء شاحنات لنقل الزيت…).

خامسا تنشيط الدبلوماسية الاقتصادية للبحث عن أسواق جديدة وخاصة الأسواق ذات القدرة الاستيعابية العالية مثل الهند والصين والأرجنتين والبرازيل وغيرها، وضبط استراتيجيا تسويقية متطورة تبدأ بتثمين الزيت التونسي وتنتهي بالتخلص من التبعية للأسواق الأوروبية التي تنهب الزيت التونسي بأسعار بخسة وتبيعه تحت علاماتها التجارية مستفيدة من جودته العالية.

سادسا مراجعة منح الدعم المرصودة للزيت النباتي وتوجيهها لزيت الزيتون حتى يقبل ضعاف الحال على استهلاكه بديلا عن زيت الصوجا كثير المخاطر الصحية. وهذا يمثل فرصة للمواطن التونسي كي ينتفع بخيرات بلاده. إن الحلول في هذا السياق لا يجب أن تتم على حساب المنتج الذي هو ذاته بحاجة إلى الدعم والتشجيع حتى يواصل في النشاط الإنتاجي.

سابعا التشجيع على تصدير الزيت المعلب لما فيه من قيمة مضافة وقدرات تشغيلية إضافية مع العمل على الحدّ من تصدير الزيت السائب ولو على مراحل.

إن هذه الإجراءات وغيرها تساعد على الاستفادة القصوى من هذا المنتوج الفلاحي عالي الجودة الذي يعتبر إلى جانب التمور والقوارص فخر الفلاحة التونسية: استفادة الفلاح الذي بحصوله على أرباح ذات قيمة يستمرّ في الإنتاج ويعمل على توسيعه مساهما بذلك في إنتاج الثروة وفي توسيع التشغيل. واستفادة الدولة من خلال تحقيق مداخيل إضافية من العملة الصعبة تساعد أيضا على تعديل الميزان التجاري.

وأخيرا استفادة أصحاب المعاصر والمصدرين بتحقيق أرباح إضافية تمكنهم من تعصير عملهم وتوفير مواطن شغل جديدة.

لكن الاستفادة الحقيقية من الزيت التونسي لها بعد طبقي وترتبط بالخيارات الجديدة الواجب انتهاجها وهو موضوع النقطة الأخيرة التي سنتطرق لها في هذا النص.

الحلول الجذرية

إن الإصلاح الزراعي الجذري الذي يناضل من أجله حزب العمال لا يهدف إلى تجسيم الشعار المتداول “كسب رهان التصدير” مثلما سوّقت وتسوّق لذلك الرجعيات العميلة التي حكمت وتحكم تونس، بل يعتمد أولا وأساسا على توجيه الإنتاج لتلبية الحاجيات الداخلية للمجتمع التونسي. فالأولوية هي لتوفير مستلزمات الاقتصاد الوطني المستقل وتلبية حاجات المستهلك التونسي الذي يجب أن يستفيد منطقيا من خيرات بلاده وهي خيرات عالية الجودة وبيولوجية (زيت الزيتون، التمور، القوارص، الخضروات المختلفة…). ويمكن للدولة تصدير ما زاد عن الحاجة مع احتكارها لهذه العملية وسدّ الباب أمام الخواص حتى لا تتشكل مركزة جديدة لرأس المال وتطفو على السطح بورجوازية ناشئة جديدة.

هذا الخيار السياسي/الاقتصادي غير ممكن بدون تحقيق الاستقلال الكامل والفعلي لتونس والتحرر من كل أشكال التبعية الاقتصادية والمالية والثقافية والسياسية للدول الامبريالية ومن إملاءات مؤسساتها النهابة التي تخدم مصالحها على حساب الشعب التونسي.

إنّ القطع مع اقتصاد الريع الخاضع للتقسيم الرأسمالي العالمي للعمل المتمثل في دول رأسمالية كبرى تصنّع وتصدّر منتوجاتها واستثماراتها نحو الدول التابعة وتحقق بذلك أرباحا طائلة مستفيدة من اليد العاملة الرخيصة، ودول تابعة تمثل سوقا لبضائع دول المركز الرأسمالي وتكتفي في إطار الدور المرسوم لها بتصدير المواد الأولية والمنتوجات الفلاحية. إنّ القطع مع هذا الدور لما فيه من حيف وضرب للسيادة الوطنية يقتضي منظومة سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة. منظومة ديمقراطية شعبية متحررة من كل أشكال التبعية تنتهج نظاما اقتصاديا جديدا مستقلا يعتمد على التمويل الذاتي الداخلي ويركز استثماراته في القطاعات الاستراتيجية من صناعة وفلاحة وبنية تحتية، اقتصاد منتج للثروة وذو قدرة تشغيلية عالية، اقتصاد مندمج ترتبط فيه الفلاحة بالصناعة: صناعة تنتج مستلزمات النشاط الفلاحي من جرارات وآلات مختلفة وأسمدة عضوية وأدوية… وتحوّل المنتوجات الفلاحية لتلبية حاجيات السوق المحلية (تحويل الخضر والغلال وصناعة الحلفاء والألبان…) وفلاحة تنتج الثروات المختلفة التي تستهلك مباشرة أو بعد عملية التحويل/التصنيع.

إنّ هذا الاندماج يساعد على التحقيق السريع للاكتفاء الذاتي ويدعم الاستقلال الاقتصادي والغذائي.

إنّ الأرباح الهائلة التي يحققها هذا الاقتصاد المستقل إضافة إلى خلاص أجور العمال والموظفين والخدمات التي ينتفعون بها يوجّه جزء منها لتوسيع الإنتاج القائم وتطويره أو بعث مشاريع جديدة. أمّا الجزء الآخر من الأرباح فيقع توجيهه للمساهمة في تطوير الخدمات التربوية والصحية والثقافية والبيئية التي تقدّم مجانا أو على الأقل بأسعار رمزية كمرحلة أولى في انتظار توفر الشروط الضرورية للانتقال إلى المنظومة الاشتراكية التي يمكن أن توفر خدمات اجتماعية مجانية.

في هذا الإطار تعيد الديمقراطية الشعبية تنظيم إنتاج الزيتون على أسس جديدة حيث تقع مصادرة غابات الزيتون التي على ملك البورجوازية الكبيرة الفلاحية العميلة لتصبح ملكا عاما للدولة يدير إنتاجه مجلس عمالي منتخب من عمال وعاملات الفلاحة بدلا عن الإدارات البيروقراطية على أن تقع متابعة أعماله ومراقبته ومحاسبته من طرف العمال أنفسهم تحت إشراف الدولة الجديدة. أمّا صغار الفلاحين الطرف الأكثر تضررا في المنظومة السابقة فيقع تنظيمهم في تعاونيات إنتاج مع مساعدتهم بالقروض (قروض بدون فوائض) وبالآلات ومرافقتهم عبر الإرشاد الفلاحي لتطوير إنتاجهم وتوسيعه. وتقتني الدولة محاصيلهم بأسعار تراعي تكاليف الإنتاج مع توفير هامش ربح هام يشجعهم على مواصلة وتطوير نشاطهم. ويقع بيع زيت الزيتون بسعر مخفض وفي المتناول بعد دعمه من طرف الدولة الديمقراطية الشعبية حتى يستفيد منه المواطن. أمّا التصدير فيقتصر على ما زاد عن الحاجة الداخلية. ويمكن للدولة بعث صناعات تحويلية مرتبطة بالزيتون مثل صناعة الصابون وتثمين الفيتورة والمرجين سواء لاستخراج زيوت صناعية (من الفيتورة) أو للاستفادة منها في أعمال الري (المرجين) وهذا من شأنه أن يوفر بديلا عن الريّ بالماء الذي بات مكلفا ويستنزف المائدة المائية.

بهذا المعنى تكسب الدولة رهان الإنتاج والتشغيل وتقديم الخدمات الاجتماعية الراقية والمجانية بعيدا عن الرهانات الوهمية السائدة في السابق. إنه الدور الجديد للمنظومة الجديدة الديمقراطية الشعبية التي تعتبر المواطن التونسي أثمن رأسمال.

إلى الأعلى
×