الرئيسية / صوت الوطن / هل تعالج الإبر الصينية عاهات النظام الشعبوي في تونس؟
هل تعالج الإبر الصينية عاهات النظام الشعبوي في تونس؟

هل تعالج الإبر الصينية عاهات النظام الشعبوي في تونس؟

بقلم حبيب الزموري

دأب رموز الشعبوية في تونس بمختلف مواقعهم من رئاسة الدولة إلى الحكومة وصولا إلى الأبواق الدعائية على التبشير بالرخاء الذي ينتظر البلاد عند المنعطف الأول من برنامج “الطريق والحزام” الذي دشنته الصين منذ سنوات والذي تروج الدعاية الشعبوية أن تونس أصبحت تحتل موقعا استراتيجيا فيه دون وجود دلائل ملموسة على ذلك على أرض الواقع. فكلما ضاق الخناق على قيس سعيد وأعوانه وانكشف عجزهم والأوهام التي يروّجونها إلا وتمّ استدعاء “المنقذ الصيني” سواء تعلق الأمر بالمدينة الطبية بالقيروان أو بأشغال ترميم وتهيئة الملعب الأولمبي بالمنزه وأخيرا بالأزمة البيئية في قابس.

إنّ المتابع لتطور العلاقات الاقتصادية الصينية التونسية بعيدا عن الشقشقات الخطابية والأوهام التي يروّج لها الشعبويون لا يلاحظ أيّ نقلة نوعية لهذه العلاقات باستثناء بعض اللقاءات والزيارات المتبادلة التي تتمّ تغطيتها بلغة ديبلوماسية خشبية حيث لا يتجاوز عدد المؤسسات الصينية المنتصبة في تونس 19 مؤسسة من جملة 3700 مؤسسة أجنبية لم يتجاوز حجم استثماراتها 50 مليون دينار سنة 2024 أي 0.5 % من إجمالي الاستثمارات الأجنبية ببلادنا و0.05% من إجمالي الاستثمارات الصينية بالبلدان الإفريقية. فبنية الاستثمارات والمبادلات التجارية السائدة في تونس منذ منتصف القرن الماضي لم تشهد أيّ تغيّر جذري وبقيت تابعة تبعية شبه مطلقة للبلدان الأوروبية وخاصة فرنسا التي وصلت قيمة استثماراتها الجملية في تونس إلى 2644 مليون دينار وبلغ عدد المؤسسات الفرنسية المنتصبة في تونس 1600 مؤسسة. كما أنّ الصادرات التونسية إلى الصين لم تتجاوز 133 مليون دينار في حين بلغت قيمة الواردات 8.5 مليار دينار بعجز في ميزان المبادلات الثنائية تجاوز 7.3 مليار دينار، أي إنّ الصادرات التونسية نحو الصين لا تمثل سوى 0.35% من إجمالي الصادرات التونسية. أمّا الواردات من الصين فتمثل 17% من إجمالي الواردات التونسية.

أمّا في القطاع السياحي الذي تراهن عليه الدولة التونسية بمختلف المتناوبين على حكمها فلم يتجاوز عدد السياح الصينيين الوافدين على تونس 30 ألف سائح مقابل 60 ألف سائح قصدوا المغرب و250 ألف سائح قصدوا مصر علما وأنّ الصين كانت سنة 2023 أكبر نقطة انطلاق للسياح في العالم بــ87 مليون سائح أنفقوا قرابة 200 مليار دولار.

إنّ السوق التونسية لا تغري المنتوجات الصينية نظرا لمحدوديتها وضعف قدرتها الاستهلاكية، ولكن ما يستقطب اهتمام الصينيين فعليا هو الموقع الاستراتيجي لبلادنا وانفتاحها على مجال النفوذ الحقيقي للصين في عمق القارة الإفريقية. وما تركيز الصين على مشاريع البنية التحتية في بلادنا إلا محاولة لتحسين إمكانيات نفاذها إلى عمق القارة وحتى المشاريع والندوات التي يقوم الطرف الصيني بتنفيذها في بلادنا تبدو أقرب إلى حملة العلاقات العامة منها إلى الشراكة الاستراتيجية التي يروّج لها أنصار الانقلاب الشعبوي في تونس حيث تستغل الصين المزاج العام المثقل بالماضي الاستعماري لأوروبا وبعقود الهيمنة والاستغلال التي مارستها بعد نهاية عصر الاستعمار المباشر لدعم مواقعها في الوجدان التونسي والعربي عموما رغم إن السياسة الخارجية الصينية لا تختلف في الحقيقة عن أيّ سياسة خارجية لقوة إمبريالية تسعى إلى التوسع والهيمنة مهما كانت نعومة هذا التوسع والهيمنة، حيث بلغ حجم الاستثمارات الصينية المباشرة في العالم 130 مليار دولار سنة 2023 (منها 40 مليارا في القارة الإفريقية) لا سيما إذا ما اقترن هذا التوسع المالي بالتوسع العسكري حيث أفاد تقرير “إفريقيا للدراسات الإستراتيجية” بأن بكين أجرت منذ بداية الألفية الثانية حوالي 19 تمرينًا عسكريًا و44 زيارة بحرية للموانئ و276 زيارة عسكرية في إفريقيا، كما أرسلت 24 فريقًا طبيًا عسكريًا ومدنيًا للعمل في أكثر من 48 دولة إفريقية، مشيرًا إلى توسع المشاركة الصينية في التدريبات العسكرية مع القوات الإفريقية ابتداءً من العام 2014 لتشمل عددًا من الدول، من ضمنها نيجيريا وناميبيا والكاميرون وجيبوتي، وخلص التقرير إلى أنّ “الإستراتيجية العسكرية الصينية في إفريقيا تروم تحقيق هدف الصين المتمثل في «النهضة الكبرى للأمة الصينية بحلول عام 2049»، التي تتطلب من الجيش الصيني أن يصبح قوة عالمية من خلال تعزيز قدراته القتالية وقدرته على بسط النفوذ اللازم للدفاع عن المصالح العالمية المتزايدة للصين، والانتصار في الحروب المستقبلية بالقرب من مياهها الإقليمية”.

تكشف هذه المعطيات وغيرها من المعطيات التي سبق وأن تطرقنا لها في “صوت الشعب”(1) تعطش القوة الصينية الصاعدة للهيمنة والتوسع وتكشف بالمقابل تهافت الخطاب الشعبوي الذي يحاول توظيف هذا الانتشار الصيني في العالم ومروره ببلادنا كثورة في العلاقات الخارجية وفك للارتباط مع مراكز الامبريالية الغربية. وقد وجدت السفارة الصينية نفسها مضطرة لكشف زيف ما تروجه السلطة الشعبوية مؤخرا حول التدخل الصيني الوشيك في المجمع الكيميائي بقابس وفق ما جاء على لسان وزير التجهيز والإسكان صلاح الزواري خلال الجلسة العامة المنعقدة يوم الاثنين 20 أكتوبر 2025 مؤكدا أنّ فريقا من الخبراء الصينيين سيتوجه يوم الثلاثاء 21 أكتوبر إلى المجمع الكيميائي بقابس، دون أن تعود وسائل الإعلام الرسمية أو الخاصة ولا الحكومة نفسها لهذه الزيارة الموعودة لينكشف حجم التهافت والتخبط الشعبوي بالمقارنة بين التصريح الإعلامي لوزارة التجهيز جول لقاء الوزير بتكليف من رئيس الجمهورية بالسفير الصيني يوم 18 أكتوبر ومفاده “قابلنا سفير الصين للتّباحث بخصوص مسألة تأهيل وحدات إنتاج المجمّع الكيميائي بشاطئ السّلام بقابس ومعالجة الانبعاثات والتّسرّبات الغازيّة منه والقضاء على أسبابها ووضع حدّ للتّلوث البيئي بالجهة” وبين التعقيب المقتضب جدا من سفارة جمهورية الصين الشعبية بتونس في نفس اليوم حول نفس اللقاء حيث “تبادل الجانبان وجهات النظر حول التعاون في المجالات ذات الصلة” يكشف هذا التصريح الصيني المقتضب والمغلف بلغة ديبلوماسية لم تنجح في تغطية الاستياء الصيني من التوظيف الشعبوي لهذا اللقاء دون وعي بالعواقب الوخيمة لمثل هذه الممارسات الملتوية التي لا تستقيم حتى بين شخصين فما بلك بالعلاقات بين دولتين.

إن إمعان النظام الشعبوي بقيادة قيس سعيد في إنكار عجزه وفشله ورمي مسؤولية هذا العجز والفشل على “الآخر” الذي لا يشبه “الأنا الأعلى” المتجسدة في الزعيم الأوحد وهذا الآخر المتهم دوما حتى تثبت براءته مهما كان جنسه أو لونه أو معتقده فهو المهاجر الإفريقي الفار من الحروب الأهلية والمجاعات والأوبئة الذي حط رحاله ببلادنا في انتظار استكمال رحلته نحو الشمال، وهو المتآمرون والخونة الذين يهددون أمن الدولة واستقرارها برأي أو كلمة أو فكرة أو حتى تدوينة وهي المؤسسات المالية الدولية التي جعلها القائد الأوحد منصة لتهكمه وسخريته صباحا ويرسل إليها وزراءه للتفاوض مساء حول تيسير شروط الاقتراض.

هذه هي الشعبوية التي حطت بكلكلها على بلادنا منذ ست سنوات تقتات من ترويج الوهم والخطب والشعارات الرنانة في انفصال تام عن الواقع فحتى ما أجمع عليه الشعب التونسي حول ما يتعرض له سكان قابس من إبادة بيئية منذ عقود تحولت في نظر ذهن الشعبويين وقائدهم إلى مؤامرة وقد وصل الهذيان الشعبوي إلى حدّ مواجهة إجماع الأحياء حول حقهم في الحياة في بيئة سليمة باستدعاء الأموات وتحميلهم من المواقف والأقوال ما يثير الاستهجان والشفقة في الآن نفسه.

هوامش:
(1) حمة الهمامي “هل الصين دولة امبريالية؟”
جريدة صوت الشعب (من الأعداد 75 إلى 85)

إلى الأعلى
×