فجر الجمعة 28 نوفمبر الجاري أصدرت محكمة الاستئناف بالعاصمة أحكامها في قضيّة ما بات يعرف بـ”التّآمر على أمن الدولة” التي شملت وجوها سياسيّة معروفة في حقل المعارضة إلى جانب مسؤولين سابقين في السلطة، سواء في عهدة قيس سعيّد أو قبله، وبعض رجال الأعمال. وإذا استثنينا عددا من السياسيّين الذين لهم بعض الروابط الشخصيّة التي لا تتجاوز، حسبما هو معلوم، النقاش حول أوضاع البلاد بعد انقلاب 25 جويلية 2021 وسبل تغييرها، فإنّ البقيّة الباقية لا رابط بينهم عدا كونهم من منتقدي أو معارضي قيس سعيّد الذي جمّعهم “شليلة ومليلة” في نفس القضيّة مدّعيا أنّهم “يتآمرون” عليه.
وقد جاءت الأحكام الثقيلة والانتقاميّة الصادرة نتيجة لمحاكمة جائرة في مختلف أطوارها، لا تتوفّر فيها أدنى شروط المحاكمة العادلة. فقد انعقدت الجلسة الاستئنافيّة، على نفس شاكلة الجلسة الابتدائيّة، دون حضور المعتقلين الذين رفضوا المحاكمة عن بعد ودون مرافعات المحامين الذين طالبوا بدورهم بمحاكمة حضورية لضمان حقوق منوّبيهم ودون حضور العموم، بل إن أعوان البوليس ضربوا قيودا حتّى على العائلات تنفيذا لأوامر المحكمة حيث اشترطوا حضور فرد واحد عن عائلة كلّ معتقل. وبالإضافة إلى ذلك كلّه انعقدت الجلسة رغم تجريح المعتقلين في رئيس الدائرة. وقد وزعت المحكمة بسخاء سنوات السجن على جميع المحاكمين سواء كانوا في حالة اعتقال أو في حالة سراح، ناهيك أنّها تراوحت بين 5 سنوات و45 سنة سجنا. وبهذه الصورة أصبح عدد من المحاكمين في حالة سراح مهدّدين بالاعتقال في كلّ لحظة.
لم تكن ظروف المحاكمة والأحكام الصادرة إثرها مفاجئة لأيّ كان. فقد أدان قيس سعيّد كافة المشمولين بالقضية قبل حتى أن يقع استنطاقهم لدى حاكم البداية أو بحثهم لدى حاكم التحقيق أو مقاضاتهم أمام محكمة الجنايات. فقد صرّح من وزارة الداخلية وعلى إثر الاعتقالات الأولى بأنّ المعنيين بهذه القضية “أدانهم التاريخ قبل أن يدينهم القضاء” وأضاف “أنّ كلّ من يبرّئهم فهو شريك لهم”. وما كان لأحد أن يتوقّع معارضة القضاء لرغبات قيس سعيّد ولا لتعليمات وزيرته للعدل، بعد أن تحوّل القضاء إلى “وظيفة” متحكّم فيها طولا وعرضا والقضاة مجرّد “أعوان تنفيذ” بشهادة جمعيّتهم نفسها. وهكذا فإنّ الأحكام الاستئنافيّة الصّادرة يوم الجمعة ليست أحكاما قضائيّة وإنّما هي أحكام سياسيّة مقرّرة مسبقا إن دلّت على شيء فعلى حالة التّدهور التي بلغها الوضع السّياسي في بلادنا منذ انقلاب 25 جويلية 2021. إنّ الفاشيّة تزحف بقوّة وتحاول التهام الأخضر واليابس وما الاعتقالات والمحاكمات الجائرة التي تشمل السياسيين والإعلاميين ونشطاء المجتمع المدني وروّاد الفضاء الافتراضي والمحتجّين إلّا دليل على سعيها المحموم من أجل فرض الصمت المطبق على المجتمع حتى تفرض سياساتها التّفقيريّة والتّجويعيّة على الغالبيّة العظمى من هذا المجتمع المكونة من كادحين وفقراء.
ولكنّ سلطة الانقلاب الاستبدادية والفاشية ما انفكّت توسّع دائرة معارضتها لتشمل في كل مرّة فئات جديدة من المجتمع. والأهم من كلّ شيء هو أنّ الحركة الاجتماعيّة والشعبيّة تنشط من جديد حتى وإن كانت لا تزال ضعيفة ومشتّتة وتفتقد إلى رؤية وبرنامج عاميّة. فالخطاب الشعبوي تفتضح حدوده يوما بعد يوم كما يفتضح طابعه المغالط والديماغوجي والزائف. إنّ الواقع، واقع الشعب، في واد وذلك الخطاب في واد آخر. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ عزلة سلطة الانقلاب تتفاقم في الخارج أيضا ناهيك أنّ حلفاءها “الطبيعيين” و”التقليديين” في أوروبا والولايات المتحدة أصبحوا لا يخفون انتقاداتهم لقيس سعيّد لا حبّا أو تضامنا مع الشعب التونسي ولا دفاعا عن الحرية والديمقراطيّة، وإنّما خوفا على مصالحهم في تونس سواء من هبّة شعبية جديدة أو من تدخّل أطراف خارجيّة منافسة لهم. وما من شكّ أنّ وضعا كهذا يفرض علينا في تونس كقوى ثورية وديمقراطية تقدّمية الانتباه كل الانتباه لما يجري في بلادنا حتى يكون غد الشعب التونسي أفضل من حاضره، بل حتّى لا يبقى ضحية أبدية لمخططات القوى الرجعية في الداخل والخارج. إن نضالنا من أجل المطالب المباشرة لشعبنا سواء ما تعلق منها بالحريات والحقوق، وفي مقدمتها إطلاق سراح سجناء الرّأي ووقف المحاكمات الجائرة، أو بالمعيشة ينبغي أن تخضع دائما لرؤية استراتيجية أو بالأحرى لبرنامج عام يخلّص شعبنا ومجتمعنا من التبعية والاستبداد والاستغلال والفقر.
صوت الشعب صوت الحقيقة
