بقلم كمال عمروسية
يعتبر الجنوب اللبناني الأكثر حساسية اليوم، لهذا فهو يتصدر واجهة الأحداث مؤخرا ويتبوأ مكانة مهمة ارتباطا بالصراعات الإقليمية. رغم أن الجنوب من الزاوية التاريخية ظل يمثل نقطة التماس المباشرة بين لبنان والكيان الصهيوني. إلا أن المؤشرات الجديدة الأخيرة تؤكد بوضوح أنه قد يتحول إلى بوابة لحرب محتملة على لبنان وفقا لدوافع وسياقات وميزان قوى قد يكون مختلفا عمّا شاهدناه في العقود السابقة منذ الاجتياح سنة 1982/1978 وصولا إلى حروب سنوات 1996/1993 إلى غاية حرب تموز/جويلية 2006.
على وقع توترات إقليمية متصاعدة يعود شبح الحرب مخيما فوق السماء اللبنانية ملوّحا بأزمات جديدة لبلد لم يتعافى بعد من جراحه الثقيلة. فيجد اللبنانيون أنفسهم أمام احتمالات وسيناريوهات مفتوحة تتصدّرها إرهاصات وهواجس الانزلاق نحو مواجهة جديدة يفرضها واقع التصعيد على الحدود من ناحية وحسابات القوى الإقليمية والدولية من ناحية ثانية. فماهي الدواعي والمظاهر التي تجعل من الجنوب بوابة ومدخلا لحرب جديدة على لبنان؟
مظاهر التصعيد على الجنوب اللبناني
منذ أشهر يشهد الجنوب اللبناني مسارا تصعيديا وتحرشا عسكريا متزايدا من لدن قوات الاحتلال ولعل أهم الخلفيات المعلنة لهذا التصعيد العسكري هو الالتزام بتنفيذ مضمون القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 11 آب/أوت 2006 وهذا القرار بمثابة وضع إطار لوقف الأعمال القتالية بين الكيان وحزب الله بعد حرب 2006 وتعزيز وجود الدولة اللبنانية في جنوب البلاد. من أهم بنود القرار وأهدافه هو ضمان منطقة خالية من السلاح جنوب الليطاني، وبذلك منع أي سلاح أو عناصر مسلحة باستثناء الجيش اللبناني واليونيفيل مع حظر تهريب السلاح إلى لبنان باستثناء ما تسمح به الحكومة اللبنانية. وبخصوص هذا الموضوع يقول العميد الركن المتقاعد خليل الحلو إن الموفدين الأمريكيين نقلوا موقفا واحدا مفاده تنفيذ القرار 1701 بكل بنوده وإن لم تنفذه الدولة فسيفرض تنفيذه. هذا الموقف الواضح التهديدي يجعل من لبنان في موضع تصادمي مع ثلاثة قوى: الولايات المتحدة الأمريكية، الكيان الصهيوني، والعمق العربي.
هذا واعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس في تصريح حديث له بتاريخ 25 نوفمبر 2025 بأن نزع سلاح حزب الله قبل نهاية العام أمر غير قابل للتحقق محذرا أن بلاده ستلجأ إلى القوة إذا لم ينفذ التعهد الذي التزمت به واشنطن.
هذا وقد كتب المتحدث باسم جيش الكيان افيخاي ادرعي عبر حسابه الخاص على منصة ايكس: “يعمل حزب الله الإرهابي على ترميم منشئاته في قرية بيت ليف” مضيفا “أن قوات الاحتلال رصدت عشرات البنى التحتية الإرهابية داخل القرية، بما في ذلك مقرات ومستودعات، وأسلحة تابعة للمقاومة حيث يقوم حزب الله بوضع هذه المنشآت داخل المدنيين في القرية وبالقرب من مبان ومنشآت مدنية”. بطبيعة الحال هذه المواقف التي تسعى إلى مهاجمة المقاومة والبحث عن إدانتها بات أسلوبا وسردية معهودة من الاحتلال لتشريع هجوماته وعملياته العسكرية المجرمة والهدف منها البحث عن غطاء وخلق ذرائع لتبرير أعماله الإجرامية، وهي نفس الحجج والتكتيكات الممجوجة في مواجهة فصائل المقاومة الفلسطينية. إن هذه السياسة الإعلامية للكيان تأتي أيضا في إطار ممارسة ضغط على الداخل اللبناني من أجل إرباكه وتسعى إلى خنق الحكومة اللبنانية وتضعها أمام خيارات محدودة، إمّا الانصياع لها ولأهدافها، أو الحرب والدمار. وقد أورد الإعلام العبري وصحيفة يدعوت احرنوت أن القوات الإسرائيلية تتأهب لشنّ عمل عسكري في بيروت والجنوب اللبناني والبقاع. تشير المعطيات أيضا أنه انعقد اجتماع للحكومة المصغرة أو مجلس الوزراء المصغر أو ما يسمى بمجلس الحرب موضوعه لبنان، هذا الاجتماع كان مع المعارضة وعلى إثره تمّ إعلام الإدارة الأمريكية بقرارهم القاضي بتصعيد العمليات العسكرية في لبنان. معلوم في الأعراف العسكرية للكيان أنّ استدعاء المعارضة لاجتماع ثنائي وإطلاعها على معطيات ووقائع والحيثيات يمثل في الأصل استعدادا فعليا وجديا لخوض حرب وشيكة بقطع النظر عن عمقها ومداها. فالكيان يعتبر أن وتيرة إعادة البناء التي يقوم بها الحزب تتسارع وقد يجد الجيش الصهيوني نفسه مضطرا لعملية واسعة إذا لم تغيّر الدولة اللبنانية من واقع الحدود على الجنوب طبعا كلها ضغوطات تتنزل في إطار التضييق على المقاومة وحشرها في الزاوية.
من بين الإشارات الجدية أيضا التي تؤشر لإمكانية حرب وشيكة هي الدعوات الملحّة لإلغاء أو تأجيل زيارة يستعد البابا الفاتيكان لأدائها إلى لبنان في مطلع شهر ديسمبر إذ تلقى هذا الأخير عدة تحذيرات من جهات مختلفة بعدم السفر. فهل يعني ذلك أن الكيان يستعد للهجوم العسكري في نفس الفترة للزيارة المرتقبة؟
الكيان الصهيوني وفي إطار حملته التصعيدية لم يقتصر على الجانب الإعلامي فقط وخلق رأي عام داخلي مع الحرب المفترضة، ولم يكتف باستراتيجيا إعلامية جوهرها إدانة المقاومة وتشريع لهجوم محتمل، بل حرّك أيضا آلته الحربية وعتاده العسكري وقام بأعمال تمهيدية إيذانا بقرب موعد الحرب. لقد أقدم الجيش الإسرائيلي على إقامة جدار إسمنتي على الحدود الجنوبية ملتهما حوالي 4 آلاف متر مربع من الأراضي اللبنانية ويمثل ذلك خطوة تصعيدية من ناحية وهو من ناحية أخرى اعتداء سافر على السيادة اللبنانية وتصعيد غير مسبوق. بما أنّ هذا الجدار تجاوز ما يعرف بالخط الأزرق وهو خط الحدود التي اعترفت بها الأمم المتحدة عندما انسحب الكيان من لبنان سنة 2000 وشكل بذلك تقييدا لحركة السكان ويعيق وصولهم إلى أراضي إمّا زراعية أو خاصة.
هذا وقد شنت قوات الاحتلال غارة عصر يوم الأحد الموافق لـ 23 من شهر نوفمبر 2025 في منطقة حارة حريك واستهدفت مبنى من طابقين ويأتي هذا الهجوم في إطار تصعيد عسكري لا غبار عليه كبّد حزب الله خسارة فادحة بتصفية أحد أبرز القادة العسكريين وأحد العناصر المركزية في حزب الله الشهيد هيثم على الطبطبائي خاصة بعد التغييرات القيادية الأخيرة التي شهدها التنظيم. من النتائج المباشرة لاستهداف والاعتداء على حارة حريك وضع الضاحية الجنوبية والعاصمة بيروت ضمن إمكانات واحتمالات قصفها واستهدافها خاصة في ظل انفلاتات العدو الصهيوني وفي غياب أي ضوابط وموانع تحول دون ردعه وثنيه عن مخططاته ونوازعه الاحتلالية. إنّ استهداف الضاحية الجنوبية تطوّر لافت يكتسي ملامح بالغة الخطورة وقد يعيد كامل العاصمة بيروت إلى مرمى النيران العسكرية وآلة الحرب الإسرائيلية وينذر باحتمالات جدية لتوسع وتكثيف التصعيد، إذا ما علمنا طبعا أن القصف الإسرائيلي طال أيضا بلدات عدة منها: شحوردي وكيفا وطير فيلسية وعيناتا. إن التصعيد الإسرائيلي له انعكاسات مباشرة على الواقع اللبناني حيث تنشط موجات لنزوح جماعي من قرى الجنوب. فالقرويون يهربون خوفا من القصف والغارات ومن الدمار وتنتشر حالة من الخوف وعدم الاستقرار في شمال وجنوب لبنان في أوساط المدنيين.
إن الوضع غير المستقر في الجنوب اللبناني يفتح على سيناريو قد يتجسد في الواقع، سيناريو متمحور في الأساس حول إمكانية نشوب حرب إسرائيلية لبنانية واسعة وشاملة. وتبقى في رأينا أهم الضمانات للتصدي لهذه النوايا هي خيار دعم المقاومة كشرط رئيسي لإسقاط وإفشال المخططات الصهيونية.
المقاومة خيار رئيسي لردع أطماع الاحتلال
تبقى دوافع الاحتلال الصهيوني من وراء التصعيد على الجنوب اللبناني أو خيار شنّ الحرب الشاملة على لبنان عديدة فيها الآني والمباشر وطبعا يحكمها هدف استراتيجي. من الأهداف المباشرة للتصعيد هي إحراج الحكومة اللبنانية وتوسيع نطاق التجاذبات والخلافات الداخلية وتوسيع دائرة الخوف والقلق والتوتر. وتظل أهم الأهداف متمحورة حول إضعاف المقاومة في مرحلة أولى ونزع سلاحها في مرحلة ثانية حتى تعبّد الطريق دون أشواك وعقبات أمام تحقيق الهدف الاستراتيجي أو المشروع المعلن عنه والمتمثل في تكريس مشروع الشرق الأوسط الكبير أو ما بات يصطلح عليه حديثا بالشرق الأوسط الجديد، المشروع الذي تتقاطع فيه إرادة ورغبة كل من الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني. يهدف المشروع الاستعماري إلى إعادة تشكيل خارطة المنطقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتقسيم الدول الحالية إلى كيانات أصغر وذلك على أساس عرقي أو ديني أو طائفي ولما لا حتى إنشاء دول جديدة. وهذا المشروع يتبنى نظرية الفوضى الخلاقة وهي فكرة تقوم أساسا على أنّ التغيير قد يتطلب اضطرابات واسعة والشرق الأوسط المستقر حسب أصحاب المشروع يرتكز من منظورهم على تثبيت وتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية بذلك تتحقق الهيمنة على المنطقة وإخضاعها وترتيب الشرق بما يخدم مصالح القوى الكبرى. قد لا نجانب الصواب إذا أكدنا أن الكيان الاستيطاني يحاول باستمرار تكريس هذا المشروع. من هذه الزاوية فإنه لا يتوانى في محاولات الإجهاز على المقاومة الفلسطينية وغيرها في المنطقة. باختصار إن تقسيم سايكس بيكو أضحى لا يستجيب لتطلعات وأهداف الاحتلال، بصورة أخرى باتت أهدافهم تتمحور حول خلق شروط جديدة للصراع أو بعبارة أدق انتفاء للصراع من خلال مزيد تقسيم الدول القائمة حاليا وتفكيكها ونزع أسلحتها حتى تختفي مظاهر المقاومة وتعبد الطريق على مصراعيها من أجل إحكام القبضة على المنطقة وبسط نفوذ الاحتلال دون منغصات وبمنأى عن المواجهات العسكرية. إن أول شروط النجاح للمشروع الشرق أوسطي الذي حلم به بوش عشية سقوط بغداد سنة 2003 وكما أعلنته كونداليزا رايس سنة 2006 هي القضاء على جذور المقاومة واستئصالها. هكذا نفهم رهانات التصعيد الإسرائيلي خاصة بعد الإطاحة بالنظام السوري وإعادة خلط الأوراق هناك وبعد الحرب الواسعة في قطاع غزة وبعد الهجوم السافر على حزب الله واغتيال عدد هام من قياداته العسكرية والسياسية والتنظيمية. إن هذه النوايا الإسرائيلية تستوجب المزيد من وحدة ساحات المقاومة والعمل على دعمها كشرط رئيسي في المواجهة. إن خيار المقاومة يظل الخيار الاستراتيجي. ونعتقد أنه لمن أوكد المسائل وحدة الصف اللبناني وعدم تشتته وتشرذمه وانقسامه إزاء هذه القضية التي تعدّ أحد أبرز عناصر النقاش السياسي والأمني منذ عقود في ظل تهديد دائم ومستمر ناهيك عن تجارب الاحتلال والاجتياحات السابقة. إن غياب قوة دعم رسمية سيما أن الدولة اللبنانية في وضعها الحالي تبقى غير قادرة على تشكيل قوة دفاع فعالة تكافئ قوة الآلة العسكرية والحربية للكيان يفرض أن تبقى المقاومة جزءا من معادلة الدفاع الوطني وضرورة ملحّة أن يقع إدماجها في استراتيجية دفاعية رسمية. بهذا المعنى يكون الاستسلام غير مقبول طالما الكيان يشكل تهديدا وجوديا خاصة وأن الدولة اللبنانية لا تزال ضعيفة وتحتاج إلى إصلاحات عميقة. ولذلك فإن النقاش حول جدوى وراهنية المقاومة ليس مجرد خيار متلازم بثنائية إمّا مع أو ضدّ المقاومة بل هو نقاش حول هوية لبنان الدفاعية ومستقبل الدولة وكيفية حماية الشعب ودحض وكنس الاحتلال. إنّ وضع المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله على خط النار سيكون له انعكاس حتمي على مستقبل الصراع في المنطقة. فكلما تجذرت المقاومة واشتد عودها كلما تكسرت أطماع الاحتلال على بنادقها، وكلما أنهكت وأضعفت قدراتها العسكرية والسياسية كلما تسنى للعدو تحقيق مطامحه. تشير الوقائع الحديثة أن حزب الله تلقى ضربات موجعة خلال الصراع مع الكيان الصهيوني منذ اشتعال فتيل الحرب بينهما سنة 2023 بلغت أكثر من 4000 بين شهيد وجريح وتبقى الخسائر الكبرى التي طالت قيادات عليا ومراكز قيادية ومقرات للحزب علاوة على ترسانة الحرب التي تضررت بدرجة كبيرة. لكن رغم حجم الخسائر يظل حزب الله يتمتع بشعبية كبيرة وذي تأثير سياسي واسع في المشهد اللبناني وأثبت قدرات هائلة سواء من خلال إعادة تنظيم قواه على أكثر من صعيد. ولقد راكم من خلال تجربته الطويلة ما يخوّل له إعادة بناء جهازه الحزبي والاستثمار في موارده البشرية من أجل إفراز قيادات مؤثرة وحاسمة كطائر الفينيق الذي يبعث من الرماد بعد الموت رمزا للخلود والتجدد. إنّ الحزب يحاول الاستفادة من التناقضات والصراعات الإقليمية لتعزيز دوره ضمن محور المقاومة لكي يكون له دور وحضور عسكري في ساحات مختلفة من أجل زيادة خبرته الميدانية وقدراته على التخطيط العملياتي وتحسين تكتيكاته في الحرب الغير النظامية. ولكل ذلك تعتبره القوى الإقليمية أداة نفوذ أو ردع في مواجهة خصومها ما يترجم ذلك إلى دعم سياسي ولوجستي وتقني وقد يتمتع بغطاء ديبلوماسي في بعض الأزمات.
في الختام إن واقع التصعيد الذي تنتهجه مراكز النفوذ داخل كيان الاحتلال وبدعم أساسي من الولايات المتحدة الأمريكية ومع عسر مهمة نزع سلاح حزب الله وبالنظر لتناقض الإرادات فإن إمكانية تطور نسق الأحداث قد يفضي إلى حرب على كامل لبنان. هذه الحرب إن كانت ستكون لها كلفة بشرية وعسكرية معلومة ومتوقعة فإن آثارها ومآلاتها على مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي لن تكون حاسمة.
صوت الشعب صوت الحقيقة
