الرئيسية / صوت النقابة / الاتحاد العام التونسي للشغل:
الاتحاد العام التونسي للشغل:

الاتحاد العام التونسي للشغل:

أزمة في الأفق: من المسؤول؟ وما السبيل لمواجهتها؟

تقديم

راجت في المدة الأخيرة وبشكل ملفت للانتباه سلسلة من البيانات النقابية الصادرة عن نقابات أساسية وهياكل قاعدية أخرى (اتحاد محلي مثلا) تشترك كلها في “مضمون نقابي” يعطي للقارئ انطباعا بأن هنالك نقاشات أو مشاورات أو أي شكل من أشكال التنسيق بين أصحاب هذه البيانات.
أهم ما جاء فيها من مواقف، سواء في صيغة موحدة أو في صيغ متشابهة، يؤكد أن صدور هذه البيانات لم يكن بالأمر العفوي وإنما يأتي ضمن مخطط وفي سياق مسار قد انطلق ومازال من السابق لأوانه الحكم عمّا ستكون نتائجه ومآلاته. وسنحاول فيما يلي رصد دواعي ظهور هذه “الحركة” واستقراء دلالاتها والبحث في حقيقة مراميها وأهدافها.
لقد ركزت هذه البيانات على “تراجع مكانة الاتحاد العام التونسي للشغل لدى عامة الشعب ولدى الطبقة العاملة خاصة” و”عزلته عن حاضنته الشعبية” وعلى “الاعتزاز بالانتماء لمنظمة حشاد العتيدة” ومسؤولية صنف من النقابيين “في ما أصبح عليه الاتحاد من ضعف ووهن”. أمّا فيما يتعلق بالديمقراطية الداخلية فقد ركزت البيانات على “الانقلاب على القانون الأساسي وعلى الفصل 20 من النظام الداخلي” وعددت مظاهر متنوعة ممّا اعتبرته مسّا من “الجوهر الديمقراطي للمنظمة” مثل عدم تجديد النقابات الأساسية والهياكل القاعدية المغضوب عنها والتلاعب بالنيابات في المؤتمرات وفق حسابات بيروقراطية الخ… وخلصت كل هذه البيانات تقريبا إلى تحميل القيادة النقابية الحالية مسؤولية الوضع السيئ الذي أصبح عليه الاتحاد ونادت بإزاحتها وتخليص الاتحاد منها ودعت إلى “تشكيل هيئة تسيير مؤقتة” في انتظار عقد “مؤتمر استثنائي” لانتخاب “قيادة جديدة شرعية”.
ولا يستدعي الأمر ذكاء استثنائيا حتى نفهم خلفيات هذا السيل من البيانات ومغزى الحملة التي أطلقها. فمن الواضح أنها مقدمات لأزمة نقابية جديدة من نوعية جديدة وذات أسلوب جديد مختلف تماما عن أساليب الأزمات السابقة. ويبدو في ضوء المعطيات الراهنة أن مواجهة هذه الأزمة لن تكون سهلة بالنظر لعملية التضليل والمغالطة الكبرى التي يراد بها تبرير الهجوم على المنظمة النقابية والخلط الواسع الذي ستخلفه لا فقط في الوسط النقابي والعمالي وإنما أيضا، وبالخصوص، في كامل الرأي العام المحلي وربما أيضا في الساحة النقابية العالمية.

1 – القلاع تؤخذ من الداخل

إن موقف الرئيس قيس سعيد من الأحزاب السياسية وممّا يسمّى بالأجسام الوسيطة بشكل عام معروف. وكان أكد في حديثه الصحفي الشهير لجريدة الشارع المغاربي بخصوص ما إذا كان سيلغي الأحزاب عند توليه الرئاسة قائلا “لا لن ألغيها… التعددية ستبقى إلى أن تندثر وحدها”. وهو ما يلخص جوهر تكتيكه حيال الأحزاب والمنظمات وعموم الأجسام الوسيطة. وقد وقفنا على ذلك في سياساته إزاء العديد من الأحزاب في السنوات الماضية ونتبيّنه اليوم من خلال عديد المؤشرات المتواترة التي تؤكد كلها أن ثمة خطة بصدد الطبخ ضد الاتحاد العام التونسي للشغل.
لقد واجه الاتحاد على امتداد قرابة ثمانين سنة من تاريخه سلسلة طويلة من الأزمات. قامت السلطة في كل مرة بهجوم عنيف على المنظمة بغاية تدجينها وتركيعها ووضعها تحت السيطرة المباشرة للحزب الحاكم والحكومة وأجهزة الدولة. وكان الأسلوب المتوخى في كل هذه الأزمات حتى منتصف الثمانينات التدخل بالقوة وإجراء انقلاب على هياكلها وإزاحة قياداتها الشرعية والزج بها في السجن وتنصيب الموالين بشكل فوقي وتعسفي. لكن منذ مجيء بن علي ولئن لم تتخلى السلطة عن أهدافها في تدجين المنظمات الجماهيرية وخاصة الاتحاد فإنها غيّرت الأسلوب واستعاضت عن التدخلات التعسفية والانقلابات باحتواء المنظمة من الداخل عملا بمقولة “القلاع تؤخذ من الداخل”. لذلك ولئن لم يتعرّض الاتحاد طيلة فترة حكم بن علي لأزمات شبيهة بأزمة 1965 أو أزمة 26 جانفي 78 أو أزمة أكتوبر 1985 فإنه في الحقيقة لم يكن منظمة مستقلة عن السلطة بل جسّدت بالملموس نموذج النقابة المساهمة التابعة كليا للسلطة والواقعة تحت نفوذ البرجوازية من جهة والخاضعة لنمط التسيير البيروقراطي التعسفي من جهة ثانية.
إن المجال لا يتسع لاستعراض كل المعطيات والأدلة التاريخية لذلك سنكتفي هنا ببعض الأوجه ذات الدلالة. فخلال عشرية التسعينات تحول الاتحاد بقيادة إسماعيل السحباني ليصبح السند الاجتماعي الرئيسي لنظام الحكم والداعم الأساسي لـشعارات “الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي” وأصبح أمينه العام رمزا من رموز الشق المتشدد في الفريق الحاكم إلى جانب عبدالله القلال ومحمد الجري إذ أوكلت له مهمة التهجم على المعارضة الديمقراطية ومد الداخلية بقائمات المنتمين إلى الأحزاب غير المعترف بها الناشطين في النقابات إلى جانب تبييض صورة النظام في الخارج وخاصة في المحافل النقابية الدولية وتبرير أعمال القمع التي طالت أوساطا متنوعة من الناشطين السياسيين والمدنيين وبلغ به الأمر أن دفع الهيئة الإدارية الوطنية إلى استصدار لوائح تندد بمنظمة العفو الدولية والكنفدرالية الدولية لحقوق الإنسان باعتبارها “منظمات تحركها أيادي صهيونية”. ودائما في المجال السياسي وقف إلى جانب عمليات تحوير الدستور لتمديد حكم بن علي وساند القوانين الموضوعة لتقييد الحريات العامة والفردية (بما في ذلك قانون تصنيف الجمعيات الذي يستهدف الرابطة والجمعيات المستقلة والاتحاد نفسه). وبالنظر لتواتر زياراته إلى قصر قرطاج (مرة كل شهر) بات يلقب بوزير الشغل لأنه كان في نظر الجميع أقرب لأن يكون وزيرا منه إلى أن يكون أمينا عاما لمنظمة مستقلة تمثل الشغالين.
أمّا على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي فقد أصبح الاتحاد شريكا في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية لنظام الحكم حيث أيد سياسة الخوصصة وإعادة الهيكلة وتحرير الأسعار وساند اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي (الجامعة الصيفية بعين دراهم 1995) ولعب دور البوق الدعائي لـ”المعجزة الاقتصادية التونسية” وكبّل الاتحاد باتفاقية الزيادات الثلاثية التي ضبطتها الحكومة وفق موازناتها المالية واستعملتها لتزيين واجهة النظام في الداخل والخارج. ومعلوم أن تلك الزيادات كانت ذريعة لالتهاب الأسعار من جهة وأداة لتقييد حق النقابات في النضال من أجل مطالب جهوية أو قطاعية ذات مردود مالي وكانت بالتالي قاعدة للقضاء على دينامية النشاط النقابي ومنع الإضرابات خاصة، فيما استعملتها البيروقراطية النقابية آنذاك كحجة على نجاح سياستها النقابية ونجاعة أسلوبها في تسيير المنظمة ولكن بالمقابل من ذلك لإقناع بن علي بإخلاصه له وتفانيه في خدمته.
جرى كل ذلك تحت عنوان أقلمة المفاهيم النقابية مع مقتضيات التحولات الجارية على الاقتصاد في العالم وعلى عالم الشغل والعلاقات الشغلية وبالتالي على دور النقابات (ندوة الإطارات النقابية في المركب الرياضي بالمنزه) لتمرير منطق النقابة المساهمة الخاضعة لرأس المال.
وقد اقترنت هذه السياسة بتفاقم النهج البيروقراطي في تسيير الاتحاد وتجسّد ذلك في عديد المظاهر منها تضخّم دور المكتب التنفيذي في مرحلة أولى على حساب الهياكل ومؤسسات القرار النقابي ثم في مرحلة ثانية تضخّم دور الأمين العام وسلطته الفردية المطلقة. وقد جرى تنقيح النظام الداخلي للمنظمة عدة مرات دائما باتجاه تقوية وتوسيع صلاحيات الأمين العام الذي بات في الحقيقة فوق القانون وفوق سلطة الهياكل القيادية للمنظمة التقريرية منها والتنفيذية. وبلغ هذا التّمشّي ذروته بمبايعة إسماعيل السحباني في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الكرم الأوّل (1993) والثاني (1999) بالهتاف من القاعة ودون اللجوء إلى الاقتراع. علما وأنه هو الذي كان يترأّس المؤتمر الوطني للاتحاد ومؤتمرات الجامعات والاتحادات الجهوية ليفرض انتخاب من يشاء ضمن ما سمّي آنذاك “قائمة الأمين العام” أو “قائمة الاستمرارية”.
في عهده نشطت لجنة النظام الداخلي كما لم تنشط قط من قبل وراح ضحيتها عشرات النقابيين بما في ذلك قيادات نقابية مركزية وجهوية وقطاعية (أعضاء المكتب التنفيذي عبد المجيد الصحرواي وأحمد رميلة الجديدي ومحسن الزواوي بن هندة الكاتب العام للاتحاد الجهوي بجندوبة الخ…) وتمّ حلّ عديد المكاتب التنفيذية الجهوية والقطاعية لأنها اعتُبرت غير منسجمة مع الأمين العام (القصرين وزغوان ونابل والبريد). وجرى تحوير المسؤوليات في عديد التشكيلات لإبعاد المغضوب عليهم من قبل الأمين العام وبطانته (خير الدين بوصلاح ومحمد الطرابلسي والصحراوي قبل أن يطرد) ولم يدع المجلس الوطني إلى الانعقاد طيلة سبع سنوات متتالية، وحتى عندما نادى به بعض النقابيين عن طريق عريضة قدّم فيهم السحباني شكوى وزجّ بأربعة منهم في السجن في ما يعرف بقضية العريضة النقابية في أفريل 1997 (جيلاني الهمامي ورشيد النجار ومنجي صواب وأحمد بن رميلة) بتهمة ترويج أخبار زائفة من شأنها تعكير صفو النظام العام وثلب هيئة رسمية (في إشارة إلى الاتحاد والأمين العام).
لقد فقد الاتحاد جراء هذه السياسة نضاليته حتى أصبح منظمة تعيش على “زيادة الحاكم” وفقد النقابيون بما في ذلك المنحدرون من أوساط مسيّسة ويسارية طابعهم الكفاحي وحماسة النشاط والحركية واستوعبت “ماكينة” الشيء المعتاد جزء منهم تحول ليشكل نواة بيروقراطية ناشئة لا تبحث إلا على المواقع والمنافع. وصادف أن تزامن ذلك مع تغير مفاجئ لموقف بن علي من السحباني لأسباب سياسية بحت فنشبت أزمة ما يسمى بـ”التصحيح النقابي”.
انطلقت “حركة التصحيح النقابي” صيف سنة 2000 بإيعاز من السلطة ومن بن علي شخصيا للإطاحة بإسماعيل السحباني ردا على تصريحاته في أمريكا والتعبير عن استعداده للترشح للرئاسة في انتخابات 1999. فقد رعت السلطة إذن هذه الحركة وشجّعتها وذهبت بها إلى مؤتمر جربة الاستثنائي (2002) الذي كرّس فعلا إزاحة السحباني وإيداعه السجن بتهمة السرقة وسوء التصرف مقابل عودة علي رمضان ولم الشمل “القرقني” والمصادقة على واحد من أهم الإصلاحات الديمقراطية في الاتحاد المتمثل في الفصل 10 من النظام الداخلي القاضي بحصر حق الترشح للمكتب التنفيذي للاتحاد في مرتين فقط. غير أنه ثبت بعد مؤتمر جربة أنّ ما بالطبع لا يتغير إذ سرعان ما عادت البيروقراطية من جديد إلى السّير على نفس المنهج وذات السياسة رغم ما كانت ترفعه من شعارات طنّانة لتبرير الانقلاب على السحباني.

2 – أزمة جديدة بإخراج مغاير

عديد المؤشرات توحي اليوم بأن الاتحاد مقدم على أزمة جديدة، تبدو من ملامحها الأولية أزمة أخطر من سابقاتها وأكثر تعقيدا. ففيها تختلط عناصر الهجوم من الخارج مع عوامل الاهتراء والهشاشة من الداخل.
ما يدفع على الاعتقاد بخطورة الأزمة وتعقيدها هو في المقام الأول أن المنظومة الشعبوية لا تقبل بوجود منظمات نقابية ضمن رفضها لوجود أجسام وسيطة بشكل عام. ففي منظورها آن الأوان كي تحال الفكرة النقابية والاتحاد العام التونسي للشغل على أرشيف الماضي في متحف التاريخ. فتونس بصدد زمن جديد زمن التأسيس ومشروع البناء القاعدي. ومن هنا يأتي الفارق الجوهري بين الأزمات السابقة التي مرّ بها الاتحاد والأزمة الجديدة المرتقبة وهو أن السلطة في كل الأزمات السابقة لم يكن هدفها القضاء على الاتحاد وإنما فقط إلحاقه بأجهزة حكمها وإخضاعه لسلطتها وردع مساعيه للاستقلال عنها وبلغ بها الأمر حد الاستنجاد بالجيش مثلما حصل في 26 جانفي 78. أمّا الهدف من وراء الأزمة الحالية فهو إلغاء الأجسام الوسيطة بما في ذلك اتحاد الشغل. فالمسألة هذه المرة يتعلق إذن بوجود المنظمة الشغيلة أصلا وليس استقلاليتها أو تبعيتها لنظام الحكم.
إن الرئيس قيس سعيد لم يخف عزمه منذ صعوده إلى الرئاسة على المضي قدما في تنفيذ مشروعه خاصة بعد انقلاب 25 جويلية 2021. وهو الآن يشارف على استكمال إعادة هيكلة النظام السياسي وفق التصور الشعبوي الذي كان بشّر به من قبل. وحان الوقت الآن للبدء في “البناء القاعدي” والشركات الأهلية التي ستحلّ محل الأجسام الوسيطة، أحزابا ومنظمات وجمعيات مدنية. وهناك العديد من المؤشرات على انطلاق هذا المنعرج منها الإعداد لمراجعة المرسوم الخاص بالجمعيات والهجمة على اتحاد الشغل والتحرشات بالأحزاب السياسية في أشكال متنوعة وكثيرة.
لكن ورغم أهمية الخطوات التي قطعها قيس سعيد في مضمار تنفيذ مشروعه فإن مهمة اجتثاث الأحزاب السياسية وتفكيك المنظمات الكبرى وخاصة اتحاد الشغل والقضاء المبرم على الجمعيات ومكونات المجتمع المدني ليست بالأمر اليسير. فالاتحاد يحتل مكانة مرموقة في الوجدان الشعبي لا يمكن زعزعتها بسهولة ومن غير الوارد أن يقع شلّ هياكله وتعطيل نشاطه أو إخضاع قياداته وإطاراته فقط بالاعتماد على حملة “مقاومة الفساد”. وسيكون من الصعب جدا تبرير أيّ عملية استهداف للاتحاد بالاعتماد على شعارات المشروع الشعبوي أي بمحاولة إقناع الشغالين وعموم الشعب التونسي بضرورة التخلص من اتحاد الشغل فقط لأنه من وجهة نظر الشعبوية منظمة تجاوزها الزمن وما عادت تصلح للمجتمع التونسي. هذه وغيرها من العقبات من شأنها أن تحكم على أيّ هجوم على الاتحاد بالفشل المسبق. ونخال أن قيس سعيد يدرك جيد الإدراك هذه الحقيقة وهو ما يفسر خيار الهجوم المتدرج والحذر للقضاء على الاتحاد.
تخضع خطة الهجوم على اتحاد الشغل في مجملها إلى قاعدة “يبقى الاتحاد إلى أن يندثر وحده”. وتمتد هذه الخطة على مرحلتين كبيرتين، مرحلة الإرباك التهرئة حتى “يندثر الاتحاد وحده” ثم وعند الاقتضاء مرحلة ثانية يمكن تسميتها بـ”المرحلة القضائية”. وتصب كلا المرحلتين في نفس الهدف. وعلى هذا الأساس ستكون الخطة متدرجة وقد تستغرق وقتا طويلا نسبيا وستعتمد الصبر والهدوء والتكتم أحيانا لتلافي الضوضاء والجلبة بغاية عدم استثارة حفيظة الشعب التونسي. وسيقع خلال هذا المسار تهيئة الرأي العام تدريجيا لاستيعاب فكرة ضرب الاتحاد وتحييده عن الحياة السياسية والاجتماعية بالاعتماد على حملة دعائية وماكرة ومضللة.
لقد بدأت هذه المرحلة منذ مدة، ويمكن القول إنها انطلقت منذ أن شنّ قيس سعيد هجومه على دعوة الاتحاد لجولة جديدة من “الحوار الوطني” وأطلق تهجماته على ما أسماه الاتحاد “الخط الثالث” و”خارطة الطريق” التي اقترحها للخروج من الأزمة. ولئن مازالت الحملة في بدايتها فإنها كشفت عن ملا مح مخطط الإرباك الذي وقع المزج فيه بين التضييق من الخارج وإثارة القلاقل من الداخل.
في هذا الإطار تم إصدار سلسلة من المناشير خاصة المنشور 20 (9 ديسمبر 2021) والمنشور عدد 21 (4 نوفمبر 2022) وتم استقبال السحباني لأول مرة من طرف رئيسة الحكومة بودن بداية شهر جانفي 2023 التلويح أكثر من مرة بمراجعة “الخصم المالي” لتجفيف منابع تمويل الاتحاد والتضييق عليه. وإلى ذلك وجدت الحكومة في ملف التفرّغات فرصة ثمينة للتضييق على العديد من المسؤولين النقابيين مستغلة في ذلك الفراغ القانوني أحيانا والغموض أحيانا أخرى. وتبعا لذلك دعي العديد من المسؤولين النقابيين إلى استئناف عملهم بمؤسساتهم ولم تتوانى سلط الإشراف عن اتخاذ إجراءات تعسفية في حق البعض منهم بخصم أجورهم لفترت متفاوتة. من جانب آخر وقع تجاهل عديد الاتفاقيات المبرمة، قطاعية وجهوية وعامة، كتمهيد لتعطيل كل ما هو تفاوض وخاصة فيما يتعلق بالمطالب ذات المردود المالي عملا بتوجيهات المنشورين 20 و21 المشار إليهما. وفي باب التراجعات في حق التفاوض والحوار، أصبح الطرف الإداري يملي شروطه في تركيبة الوفد النقابي لجلسات التفاوض كمدخل لإلغاء تقاليد الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية. ويجري الحديث اليوم عن انسداد باب الاتصال والتواصل في وجه هياكل قطاعية وجهوية وأعضاء من القيادة المركزية مع عديد الوزارات والمؤسسات العمومية وفي القطاع الخاص.
هذه جملة من المقدمات الجاري إرساؤها كتقاليد جديدة في العلاقات بين المنظمة النقابية و”الإدارة” بمفهومها الواسع (وظيفة عمومية أو قطاع عام أو قطاع خاص). وتتظافر هذه المقدمات مع سلسلة أخرى من الأعمال التعسفية التي يراد منها ردع العمال والنقابيين عن أي شكل من أشكال النضال دفاعا عن مطالبهم أو احتجاجا على ما يلحقهم من تعسف واعتداءات. في هذا الصدد نذكر محاكمات النقابيين في قطاع النقل وشركة الطرق السيارة وفي صفاقس وباجة والقصرين. وإلى ذلك قرارات خصم الأجر بسبب شكل نضالي توخاه المعلمون (حجب الأعداد) وهو إجراء تعسفي لا يستند إلى سند قانوني ولم تصدر فيه قرارات إدارية موثقة تمكن ضحاياه من التظلم لدى القضاء المختص. وعلى غرار ذلك اتخذت قرارات بخصم الأجر بعنوان “غياب غير شرعي” في حق نقابيين متفرغين تم إنهاء تفرغهم من جانب واحد وأحيانا دون علم منهم.
وفي إطار خطة الإرباك أيضا يقع من حين لآخر انتقاء حالات تتعلق بإطارات نقابية وسطى تحت عنوان محاربة الفساد المالي والإداري وفتح قضايا عدلية ضدهم. وهي عمليات انتقائية ومحدودة الغاية منها بعث رسائل في اتجاهات متعددة. أهم هذه الرسائل بث روح الشك والخوف وزعزعة الصفوف النقابية ودحر المنظمة ككل إلى مواقع دفاعية خائفة.
إن الحالات التي تم انتقاؤها إلى حدّ الآن تحمل دلالات خاصة وتضطلع كل حالة بوظيفة في خطة الترويع وزرع الارتباك. وتتمثل دلالة عملية إيقاف الكاتب العام للاتحاد الجهوي بصفاقس في التجاسر على استهداف صفاقس جهة التأسيس الرمزية التي كانت على الدوام تلعب الدور الطليعي في الغالبية العظمى من المنعرجات التي عرفتها الحركة النقابية في تونس. فالمراد بهذه العملية هو بعث رسالة مفادها أن الجهة التي يعتدّ بها عادة في المعارك الكبرى ضد السلطة (26 جانفي و12 جانفي 2011 الخ…) هي اليوم ضحية مداسة الكرامة ولا تقوى على القيام بأيّ شيء في وجه الهجوم عليها. ومع ذلك كانت البداية من جهة صفاقس لجس النبض وقيس حجم الرد والاستتباعات.
ومن المنتظر أن يتواصل مسلسل إثارة قضايا عدلية ضد نقابيين آخرين كلما توفرت معطيات متأكدة (من وجهة نظر السلطة) بغاية وضع رقاب الكثير من النقابيين تحت هذا السيف المسلط. والواضح أن “حصة صيد” دقيقة قد انطلقت ويا ويح من يقع في الفخ. ويعوّل في هذا الباب على وجود ملفات فساد كثيرة تتعلق بالعديد من المسؤولين النقابيين في كل مستويات المسؤولية وهي حقيقة لا يمكن نكرانها. وستستغل هذا الجانب أيّما استغلال بدعوى “محاربة الفساد” وتطبيقا لشعار “القانون فوق الجميع” وفي العمق بغاية تفكيك الاتحاد والتخلص منه للأسباب التي أتينا عليها من قبل من جهة ومن جهة ثانية لتمرير خطة “الإصلاحات الكبرى” الليبرالية الجديدة وسياسات التقشف.
وبالتوازي مع هذه التضييقات انطلقت عملية المناوشات من الداخل بغاية تشتيت الجهود والانهاك. ولم يعد خافيا على أحد أن سيل البيانات الصادرة يندرج ضمن هذا التكتيك وبهذا القصد. ولكن السؤال الذي ينبغي الإجابة عنه أيضا هو هل أن كل الاحتجاجات النقابية بإيعاز من السلطة ومنخرطة في مخططها؟ وما مسؤولية قيادة الاتحاد في المشاكل المثيرة للاحتجاج و”التشويش”؟

3 – مسؤولية القيادة النقابية

ينبغي أن نعترف جميعا أن الاتحاد يمرّ بأزمة. وقد ذهبت أغلب التدخلات في المكتب التنفيذي الموسع الأخير (13 – 14 فيفري 2024) إلى الاعتراف بأن الاتحاد يمرّ بأزمة مزدوجة داخلية وخارجية. وهي حقيقة جارية على لسان كل النقابيين دون استثناء باختلاف القراءات والتحاليل. لكن يكاد يتفق الجميع على أن لهذه الأزمة وجه داخلي يتعلق بتسيير الهياكل وبعلاقة الهياكل بالقواعد أو ما يمكن وضعه تحت عنوان الديمقراطية الداخلية.
إن مسألة الديمقراطية داخل الاتحاد مطروحة من زمان وتشكل ضلعا من ثلاثة أضلاع كبرى في الأرضية التي طورتها الحركة النقابية منذ 26 جانفي 78 (الاستقلالية والديمقراطية والنضالية). وقد جرت بصددها معارك داخلية كثيرة في الثمانينات بعلاقة بحملة التجريد وفي التسعينات بعلاقة بتغول النهج البيروقراطي لإسماعيل السحباني الذي أفضى فيما أفضى إلى مؤتمر جربة الاستثنائي.
لقد تعاقبت أجيال كثيرة في مسار النضال من أجل تحرير الحياة النقابية الداخلية من ربقة البيروقراطية النقابية التي تمثل خاصية من خاصيات تجربة الاتحاد العام التونسي للشغل. والبيروقراطية ليست شتيمة تطلق على القيادة النقابية إنما هي توصيف نقابي وسياسي لطبيعة الأسلوب المعتمد في تسيير الاتحاد الذي رزح طوال حياته تحت نمط مركزة مشطة تعطي للقيادة التنفيذية صلاحيات شبه مطلقة وتخضع الهياكل التمثيلية المنتخبة لمشيئتها ومشيئة الأمين العام وتغيب الهياكل القطاعية والجهوية والقواعد العمالية التي تستعمل في معارك التسخين والتبريد حطب معارك وفق ما تقتضيه مصالح القيادة وعلاقة الوئام أو الصراع مع السلطة.
وقد ساد هذا النمط من التسيير طوال تجربة الاتحاد العام التونسي للشغل إلى الآن وكثيرا ما لجأت القيادة، من أجل تثبيته وترسيخه، إلى كل أشكال التعسف باستعمال لجنة النظام الداخلي وحملات التجريد وتجميد الهياكل وتزييف القرارات وتدليس المؤتمرات أو المماطلة في عقد مؤتمراتها وعدم السماح للقطاعات أو الجهات بعقد هيئاتها الإدارية وعدم عقد المجلس الوطني في آجاله علاوة على أشكال الترغيب وشراء الذمم وصناعة الأتباع والزبائن. وفي السنوات الأخيرة ولئن تراجعت هذه المظاهر شيئا ما فإن عقد مؤتمر استثنائي غير انتخابي وتنقيح الفصل 20 من النظام الداخلي لإلغاء أهم إصلاح ديمقراطي عرفه الاتحاد خطأ فادح هو بمثابة جرم في حق الاتحاد ومكاسبه الديمقراطية.
لقد سعى الكثير من النقابيين إلى ثني القيادة عن الإقدام على هذه القرار الخطير ولكنها وللأسف أصرّت عليه واختارت المرور بقوة وفرض الأمر الواقع غير عابئة بما يمكن أن ينجر عن ذلك من تصدعات في الجبهة الداخلية. ومن تبعات ذلك ما نراه اليوم من احتجاجات وردود أفعال مناوئة للقيادة وللاتحاد ككل بعضها من منطلقات نقابية بحتة وبدوافع مشروعة وبعضها الآخر يأتي في سياق مخطط مدروس معادي للاتحاد ولا هدف له غير تخريبه والقضاء عليه.
يتحمل المنطق البيروقراطي الذي عادة ما يطغى على أسلوب إدارة الشأن النقابي الداخلي في الظروف السلمية وفي مناخات الوئام مع السلطة مسؤولية كبرى في خلق أسباب الانقسام والفرقة وفي توفير كل الذرائع للسلطة وأذنابها كي يقدموا على ضرب الاتحاد والعمل النقابي.

إن مسؤولية قيادة الاتحاد في معالجة الوضع كبيرة وتقتضي منها أن تجد السبل الكفيلة بترميم الجبهة الداخلية وتوحيد الصف النقابي كشرط لا محيد عنه في محاصرة أعمال التخريب التي يتولاها البعض ولأعداد المنظمة للمراحل القادمة من مخطط الاستهداف الآتي بلا ريب.
في هذا الإطار يتعين فتح حوار وطني صلب المنظمة، ندوات إطارات جهوية ومجالس وطنية قطاعية تكلل بمجلس وطني يفتح فيه المجال للنقابيين بشتى توجهاتهم ومشاربهم لنقاش أوضاع منظمتهم وتدارس سبل معالجة نقائصها ونقاط ضعفها على أن تتقدم القيادة بنقدها الذاتي في أخطائها وأن تلتزم بتجاوزها وأن تتعهد ضمن هذه الالتزامات بالعودة إلى الفصل 20 من النظام الداخلي القديم. وإلى جانب ذلك توضع خطة لتسوية الإخلالات بالقانون وبالسير العادي لهياكل الاتحاد مثل وضع رزنامة لمؤتمرات الهياكل التي فات أجلها واعتماد ميثاق شرف في احترام النزاهة والموضوعية والمساواة بين النقابيين في الترشح وفي تحمل المسؤوليات وتوزيع النيابات وما إلى ذلك من الجوانب النقابية الداخلية التي بشأنها جدل وصراع. فلا سبيل إلى سحب البساط من تحت أقدام أذناب السلطة وأدواتها إلا بتشريك أبناء الاتحاد، مسؤولين وإطارات وقواعد في معالجة قضايا المنظمة بشكل مبدئي وفي نطاق الوضوح والشفافية.
إن مزيد توسيع فضاء الديمقراطية داخل الاتحاد هو الضمانة الحقيقية لتمتين وحدة الصف النقابي وصلابته في وجه كل مشاريع الاختراق والتخريب، أما التعاطي مع كل أشكال الإرباك بإعادة تنشيط لجنة النظام والتعويل على العقوبات التأديبية فهو يقدم خدمة جليلة لمساعي إضعاف الاتحاد واندثاره.
إن العودة إلى تشريك القواعد العمالية لمناقشة أوضاعهم المادية والمهنية والمعنوية وتمكينهم من التعبير وصياغة لوائحهم المطلبية ورسم خطط النضال من أجلها أكثر من ضرورة كي يستعيد العمل النقابي زخمه الجماهيري ووهجه الكفاحي.
أمّا في الشأن العام الوطني فالمطلوب أن يتباين الاتحاد في الوضوح من قضايا الفساد التي تركبها السلطة للتشكيك في عموم النقابيين والمس من مصداقيتهم. فالمسؤولية عن أيّ شكل من أشكال الفساد، مالي أو مهني أو غيره، مسؤولية فردية ولا يتحملها الاتحاد تحت أيّ عنوان. إن التضامن النقابي براء من الفساد.
أخيرا لا خلاص للاتحاد العام التونسي للشغل من كل المخاطر التي يمكن أن تتهدده إلا بانحيازه إلى قضايا الشعب المادية والمعنوية، فبقدر ما هو مطالب بتحمّل مسؤوليته في الدفاع عن المقدرة الشرائية وظروف العمل وعموم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإنه مطالب بأن يبقى نصيرا ثابتا للديمقراطية وللحريات العامة والفردية ومدافعا قويا عن الكرامة الوطنية وعن سيادة الوطن.
إن مصير الاتحاد بيد أبنائه فإن شاؤوا وضعوا أسس المستقبل الرغيد وإن أبوا فسحوا المجال لأعدائه وأعداء العمل النقابي والشغالين كي يفلحوا في مشروعهم التخريبي.

إلى الأعلى
×