الرئيسية / صوت الوطن / هل حقّا يُقاوم الفساد؟
هل حقّا يُقاوم الفساد؟

هل حقّا يُقاوم الفساد؟

بقلم ماهر الزعق

للوهلة الأولى سيقُول لك المواطن العاديّ (Monsieur tout le monde)، أن لا شكّ في ذلك، رئيسنا نظيف لكن التركة ثقيلة والأمر يحتاج إلى سنوات طويلة، والصبر مفتاح الفرج. لكن سرعان ما تفتُر حماسته ويُعاوده الحزن والألم حين يفكّر في أحواله: لا شيء يتحسّن، صعوبات الحياة تتفاقم، أحدهم مُصاب بالسرطان والدواء مفقود، انقطاع الماء مُغيظ، الماسورة يلزمها إصلاح، البواسير بحاجة إلى علاج، مصاريف التعليم، النقل العمومي مُهين، مِحنة الطوابير، صفعة الفواتير وأيّام مريرة في الانتظار.
لأنّك فاعل خير سترشّ المِلح على الجراح، ستُذكّر صاحبنا أنّ رئيسنا الزاهد في المال يتقاضى في الشّهر أكثر من 17 ألف دينار، في حين أنّ 38 % من الشغّالين لا يتجاوز دخلهم الشهري 500د، 2 مليون تونسي لا يتمتّعون بالتغطية الاجتماعية، 500 ألف متقاعد يحصلون على جراية أقلّ من الأجر الأدنى (459 د)، في بعض الجهات تتجاوز نسبة الفقر 40 %؛ نظيف.. ههه، ربّما! لكن الأكيد أنّ أكثر من 550 ألف تونسي يقتاتون من المزابل ومن الفضلات، ميزانية رئاسة الدولة ارتفعت إلى 560 ألف دينار في اليوم ليتمكنّ معاليه من القيام باستعراضه الفرجوي في أحسن الظروف وعلى أفضل ما يُرام، يعني خطاب البطاطا والحديد، الحَلفاء والحليب، نفايات أشغال البناء، العلوّ الشاهق، الملعب والمسبح، الزيت والموز، أموال الشعب، الجراثيم والخونة الملاعين، وهلمّ جرّا، ثمّ ماذا؟ ثمّ لا شيء. لا مُتابعة ولا مُعالجة ولا حلول. بل إنّ الأوضاع تزداد سوءً ويتضاعف تهييج العواطف وإثارة الغرائز ليتعاظم الانهيار القيمي: انتشرت الوشاية والتشفّي، التفاهة والحماقة، التوهّم والتلصّص والتملّق، جلد الذات والصِغار، المكر البدائي والحقد الإحشائي (La haine viscérale)، مناخ يلائم الفساد ويساعد على الفساد..
الفساد يخاف الحرّية والفاسد يلعن الصحفي الحرّ وينقم على القاضي المستقلّة، وعلى ذلك فإنّ كلّ من يُضيّق على النفاذ إلى المعلومة وعلى حرية التعبير والإعلام وكلّ من ينتهك استقلال القضاء فهو يخدم الفساد والفاسدين أقرّ بذلك أم أبى. على العموم لا بدّ من رفع الالتباس عن بعض الأمور:

إيقاف وجوه مشبُوهة وشخصيات موصُومة لا يعني مقاومة الفساد، بل هو أمر مفهوم. فلكلّ حاكم أزلام، وتغيير الأزلام سُنّة في نظام الاستغلال والفساد يخضع هو الآخر لقوانين المزاحمة والاحتكار، أمّا الزِّلم الحَويط فهو الذي يُبدّل جلده ليُصافح و يُصالح الحاكم الجديد.
الصّلح الجزائي الذي يُراهن عليه صاحب المعالي، لا يعدو أن يكون امتداد لسياسة حكومات ما قبل الانقلاب، لكن بشكل أكثر عجرفة واسترداد. وفي التحليل الأخير فإنّ الصلح الجزائي هو مُجاملة للمارقين ومُكافئة للفاسدين.
في كلّ الأزمان، ما قبل الثورة وما قبل وما بعد الانقلاب، خضعت التعيينات والنُقل والترقيات إلى الرشوة والمحسوبية أكثر من اعتمادها على الكفاءة والجدارة؛ وهذا ما لا يجب أن يكون وما ينبغي التصدّي له بكلّ جزم وحزم. لكن القول بأنّ مئات الآلاف من الشهادات مزوّرة فذلك كذب وبُهتان وزوبعة في فنجان تهدف فيما تهدف إلى الترهيب والتنكيل والتفتيت ونشر الحقد والوشاية والشماتة والطمع والزّبونية… تهدف إلى تخفيض كتلة الأجور تنفيذا لإملاءات صندوق النهب الدولي بشكل ماكر وبتحيّل سافر، مثلما هو الحال في مسألة رفع الدعم (رفع الدّعم بتقليص المدعوم). وأخيرا فإنّ التدقيق في الانتدابات يندرج في إطار حملة انتخابية متواصلة عنوانها الأبرز محاربة الفساد وتحقيق العدالة والقصاص من الإخوان.
كلّ المعطيات تشير إلى أنّ أكثر سلك يُعاني من الفساد هو سلك البوليس حامي حِمى الرئيس وأنّ أمراء التهريب يشتغلون في سكينة واطمئنان.

بعض الأشرار لا يجدون حرجا في مقارنة ما وقع بين عمرو ابن العاص وعلي ابن أبي طالب في معركة الصفيّن والتي اختزلها مُظفّر نوّاب في عبارة “وعورة عمرو ابن العاص تُقبّح وجه التاريخ”. مقارنة هذه الرّواية مع تضاءل معاليه وتقبيله لكتفي الصهيوني ماكرون، مُسوّدا بذلك صفحة التونسيين ومكلّلا إياهم بالعار والشنار، هؤلاء الشُطّار يُصرّون على أن واقعة باريس هي دليل إضافي على أنّ الحاكم بـأمره ليس من “قُماش” المُقاومة، وأنّ سردية القضاء على الفساد ليست إلّا طُعما للاصطياد.
صفوة القول، أنّ مفهوم الفساد يحتاج إلى تدقيق وإشكالية الفساد تحتاج إلى تعميقٍ، ومقاومة الفساد لا تحتاج إلى إصلاح بل إلى ثورة، ثورة في القوانين والتشريعات، ثورة تضمن الحرية والمواطنة وتكافؤ الفرص، ثورة تنشر ثقافة الحوار والصّدق والتسامح وخاصة ثورة تقضي على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، كلّما فُتحت سيرة الفساد يحضرني مقطع من أغنية لأولاد المناجم يقول: “ضحايا الشقاء، يا ضحايا الفساد، يعمّ الفساد جميع البلاد. فماذا نقول وماذا نريد؟ نريد الحياة بلا ظالمين!”.
نريد الحياة بلا ظالمين، وتحيّات فاعل الخير للمرسوم 54.

إلى الأعلى
×