الرئيسية / صوت الثقافة / في رحيل الفنان المسرحي والكاتب والشاعر حكيم المرزوقي…
في رحيل الفنان المسرحي والكاتب والشاعر حكيم المرزوقي…

في رحيل الفنان المسرحي والكاتب والشاعر حكيم المرزوقي…

بقلم يحي اليعقوبي

متى يكون المثقف، المبدع والكاتب في طليعة الشعب؟

المسيرة والأثر

فقدت الساحة الفنية والمسرحية أحد أهم مبدعيها الذين عاشوا حياة لا تخلو من نكران وعدم اعتراف رغم ما قدّموه طوال مسيرتهم من منجزات فنية وأدبية أضافت الكثير للسجل الثقافي العربي والتونسي، وآخر هؤلاء الذين اختاروا الهامش كي يكونوا ملوكه على حدّ تعبير محمود درويش، والذين اتسمت حياتهم بغزارة المنتجات الإبداعية التي جابت العالم وتألّقت في عديد المحطات من تظاهرات ومهرجانات دولية وعربية، “حكيم المرزوقي” الذي وافته المنيّة عن سن الـ58 بعد مسيرة حافلة بالجهد والعطاء والإنجاز حيث تحصلت أعماله على عديد الجوائز وتمت ترجمتها إلى عديد اللغات، وهو شاعر وكاتب ومسرحي تونسي عاش بدمشق لأكثر من ثلاثين سنة أين درس بالمعهد العالي للفنون المسرحية وكلية الآداب بدمشق وأسس هناك فرقة “مسرح الرصيف” سنة 1996 وقدّم من خلالها مسرحية “إسماعيل هاملت” التي تحصلت على جائزة مهرجان قرطاج للمسرح سنة 1997، ومسرحية “عيشة” التي حازت على جائزتي مهرجان بروكسال للفنون المسرحية سنة 1998 وجائزة مهرجان (ليفت) بلندن سنة 1999 وترجمت إلى عديد اللغات، إضافة إلى عديد المنجزات المسرحية الأخرى مثل مسرحية “ذاكرة الرّماد”، “بساط حلبي” و”الوسادة”، إضافة إلى منجزاته الشعرية على غرار المجموعة الشعرية “الجار الثامن” سنة 2009، كما كتب العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية في تونس وخارجها وعاد لتونس سنة 2012 ليعيش على الهامش في زمن النكران وعدم الاعتراف. 

حكيم المرزوقي: مثقف عضوي من خارج المنظومة

لعلّ المدقق في سيرة حكيم المرزوقي يكتشف أنه مثقف عضوي فريد من نوعه، إذ تغلب على مسرحياته النزعة الاجتماعية والوقوف صفا مع المهمشين والمضطهدين الذين لا صوت لهم، ومن أهم المسرحيات التي أنجزها تتألف من أنماط اجتماعية مهمشة كما يسميها هو “شخصيات من الرصيف” أي العامّة ممّن لا نفوذ ولا سلطة لهم حتى على أنفسهم في زمن التشيّء والاستلاب الذي يؤرق الذوات الإنسانية في عصر طغيان رأس المال الثقافي الذي استحوذ على الصناعة الإبداعية حيث يقول حكيم في إحدى مقابلاته الصحفية سنة 2016 عن واقع المسرح العربي “المسرح العربي اليوم مهدد في مهنته، كون السياسي السلطوي هو المنافس الأول له، هذا السياسي يقف فوق مسرح هائل تُضخّ له الأموال وتُسخّر له حملات الدعاية، كمسرحي أتساءل مالذي يمكن مسرحته؟”  
حكيم المرزوقي مثقف عضوي، ذلك المثقف يتمتع بقدرة استيعابية عالية وفهم شامل للمعرفة. يُظهر رغبة قوية في توسيع آفاقه الفكرية والثقافية، ويسعى إلى التفاعل مع مختلف المجالات العلمية والفنون. يمتاز بالقدرة على التفكير التحليلي وفهم الأفكار في سياقها الأوسع. بالإضافة إلى ذلك، يمتلك قدرة على الابتكار وتكامل المعلومات بشكل إبداعي، ممّا يسهم في تطوير رؤى جديدة وفهم أعمق للعلوم والثقافة. لم تُغريه الدعاية ولا تنامي وسائل الإعلام التي أصبحت ملقاة على قارعة الطريق تجْترُّ الرداءة وتُصدّرُ الفراغ والخواء وتصنع من نماذج اجتماعية بائسة وتافهة نجوم ومحللين ووعاظ، وتمنحهم الشهرة وتشرّعُ لنشر الجهل والميوعة وتحطيم الأجيال من خلال تصدير نماذج حياتية وصور مزيفة ومواقف تحيد بالرأي العام عن مشاغله وملفاته الحارقة وقضاياه الأساسية العالقة، بل أن الخطاب الشعبوي ضرب أطنابه في الإعلام ووسائل التواصل ورذّل العمل الفني الحقيقي والعمل السياسي والثقافي وساهم في ضرب المؤسسات التربوية والجامعية والثقافية عبر المسلسلات والبرامج المفرغة من القيم والمبادئ والمعرفة وسطحية الطرح والخطاب وسوء المعالجة للظواهر الاجتماعية من خلال تنزيلها لأفكار ونماذج مجتمعية غريبة عن المجتمع التونسي أو ربما مستخلصة عن المجتمعات الاستهلاكية الغربية التي يتحكم في ميكانيزماتها الإنتاجية رأس المال المتوحش الذي يهدف إلى ضرب القيم الإنسانية وتغريب الواقع المعيشي والتحكّم في الذوق والرأي العام وتوجيهه نحو أهداف ومواقف محددة ومجهزة مسبقا تخدم المصالح الضيقة.

الشجرة التي تغطي الغاب: أوضاع المثقفين والمبدعين في البلاد 

يذهب الكاتب الألماني هنريش بول إلى أن “الشاعر والسياسي في أعلى درجات المجتمع”. إلا أن هذه المقولة لا تنطبق على مجتمعاتنا العربية وأنظمتها التي همّشت الثقافة والفنون واعتبرتها آخر اهتماماتها رغم قيمتها، حيث لا تزال المؤسسات الثقافية في البلاد تنتهج نفس النهج في سياسة التهميش المتعمدة للمثقفين والمبدعين والعاملين في القطاعات الفنية وعدم المضي قدما في الاعتراف بنخبها وهم على قيد الحياة، بل تطالهم التكريمات والذكرى بعد وفاتهم، وهو ما يصرح به الشهيد شكري بلعيد حين يقول “من السهل جدّا أن نصنع ألف ميكانيكيّ أو مائتا ألف مكانيكي لكننا لا نستطيع أن نصنع كاتبا أو مسرحيّا أو سينمائيا كبيرا، ذاك رصيد تونس فلا نفط لنا”.
وهو ما يحيل أيضا إلى الوضعية الاجتماعية القاسية التي يعيشها أغلبهم من ممثلين وسينمائيين وموسيقيين وكُتَّابْ ممّن قدموا الكثير للـ”ريبرتوار” الوطني للفنون والثقافة ومنهم من توفي دون التمتع بأبسط حقوقه الاجتماعية أو التكريمات والاعترافات الموّجهة في أغلب الأحيان لمن لا إضافة تذكر لهم سوى انتهاج نفس نهج وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والبحث عن شهرة مرجوة دون مشروع تغيير ثقافي حقيقي ورغم انعدام المنجز والأثر لهؤلاء، وكم تصاعدت الدعوات على مرّ العشرية الأخيرة لتمرير قانون الفنّان والنظر في وضعية العديد من هؤلاء الفنانين والمبدعين والكتاب والشعراء، قانون الفنان الذي يمكن أن ينظم القطاعات الفنية ويضمن الحد الأدنى من الحقوق، لكنه لا يزال إلى حد كتابة هذه السطور في رفوف مجلس نواب الشعب منذ أكثر من عقد من الزمن ولا جديد يذكر رغم تعاقب السلط والحكومات والنوّاب، وهنا نجد أنفسنا أمام أسئلة استنكارية موجه للنقابات والمنظمات التي تمثل الفنانين والمبدعين “إلى متى سيتواصل هذا الصمت الرهيب تجاه الأوضاع الثقافية المتردية وعدم الاعتراف؟ أليس الثقافة محرار الشعوب وبوصلتها ووجها الذي يبدو في تونس شاحبا حتى الآن؟”.

إلى الأعلى
×