الرئيسية / ملفات / 1 ماي / ما تفعله “الكورونا” بجسم الإنسان يفعله حكامنا الجدد بجسم الوطن
ما تفعله “الكورونا” بجسم الإنسان يفعله حكامنا الجدد بجسم الوطن

ما تفعله “الكورونا” بجسم الإنسان يفعله حكامنا الجدد بجسم الوطن

مراد علالة

لم تتسبّب جائحة “الكورونا” في سقوط آلاف الضحايا في العالم وفي بلادنا وتهديد الوجود الإنساني وحياة البشر فقط، وإنما كشفت المستور كما يقال وعرّت ما تبقّى خافيا من جرائم الدول النافذة وقبح العولمة وفساد لوبيات المال والسياسة وخزعبلات حكام الصدفة الذين جثموا على الرقاب باسم الشرعية والمشروعية وباعوا وَهْمَ الانتقال الديمقراطي والحال أنهم “حراس معبد” حافظوا على خيارات النظام القديم وأسوأ من ذلك أنهم فشلوا في الحفاظ على المنجز بعلاّته وهدّدوا المكتسبات على قلّتها وحدودها.

اليوم، نحيي عيد العمال العالمي 1 ماي 2021 في أجواء خاصة تفسدها جائحة “الكورونا” وتنغّص على العاملين بالفكر والساعد وعموم التونسيّين لحظة استراحة المحارب إن جاز القول لاستخلاص الدروس والتقاط الأنفاس للصمود والبقاء أوّلا، وترتيب الأولويات ثانيا بما أنّ المواقع والخنادق باتت مكشوفة والأجندات واضحة كما لم تتضح من قبل، شعب في وادي ومنظومة حكم فاشلة في وادي آخر.

إنّ الخطر الذي يضاهي الوباء في تقديرنا هو تقويض مقومات السيادة الوطنية لبلادنا، فما تفعله “الكورونا” بجسم الإنسان يفعله حكامنا الجدد بجسم الوطن الذي يرتفع فيه نسق نزيفه من يوم لآخر وسط تعنّت غير مفهوم وإصرار على الاستمرار في الخطأ، وفي ظلّ ضعف الوعي الشعبي والمواطني صراحة وأيضا وَهْن القوى التقدمية والمنظمة القادرة على قلب الأوضاع والمعادلات.

لقد نص دستورنا الجديد بكل وضوح في مادته الأولى على أنّ تونس “دولة حرة مستقلة ذات سيادة” والسيادة هنا وبعيدا عن التنظير والجدل القانوني والسياسي وحتى الفلسفي هي حق الدولة في حكم نفسها بنفسها وامتلاكها السلطة المطلقة وغير الخاضعة للسيطرة من أيّ جهة أخرى.

بهذا المعنى، للدولة الحق المطلق في ممارسة سلطتها على الجميع دون تدخل خارجي، أي أنها تحكم نفسها بنفسها وتسنّ قوانينها وتنفّذها وتحافظ على الأمن في ربوعها والأمان لمواطنيها وترتّب علاقاتها مع الدول الأخرى على قاعدة الندية والمصلحة المشتركة ولذلك نتحدث هنا عن السيادة التي تعني فيما تعنيه الإرادة الوطنية الكاملة. فأين نحن من كل هذه المتطلبات؟ وماذا بقي من مقومات السيادة الوطنية في تونس اليوم؟

إنّ شروط السيادة ومتطلباتها غير مكتملة والنقائص تشوب كل أبعادها السياسية والاقتصادية والغذائية والأمنية والرقمية والبيئية وغيرها..

سياسيا، لقد كشفت تقارير محكمة المحاسبات بالخصوص أنّ التلاعب بإرادة الناخبين كان كبيرا في الاستحقاقات الانتخابية التي عرفتها البلاد بعد ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة وآخرها انتخابات 2019 بشقّيها الرئاسي والتشريعي وهو ما يضرب في العمق “حكاية” الشرعية والمشروعية، فالمال الفاسد بما فيه الأجنبي والصفحات الموجهة من الخارج ساهمت في تزييف إرادة الناخبين الذين أساؤوا اختيار ممثليهم في النهاية.

النتيجة أمامنا الآن، منظومة حكم مرتبكة ومرتعشة ومتدافعة بل ومتحاربة وأعلن كلّ طرف فيها دولته ورئاسته واصطفّ مع هذا المحور أو ذاك!.
اقتصاديا، ماذا تركت التعهدات والالتزامات والتنازلات لمنظمة التجارة العالمية مثلا والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية والمستثمرين الأجانب للسيادة الوطنية ولمقومات الاقتصاد الوطني، كيف هو حال الدينار التونسي أليست العملة وجها من وجوه السيادة؟ كيف تتدبر الحكومات المتعاقبة سداد الديون التي صارت بأرقام مفزعة غير مسبوقة في تاريخ البلاد؟

حتى السيادة الغذائية أصبحت في مهب الريح، ويكفي أن تستمع إلى تذمرات وصيحات الفلاحين بكل أصنافهم لتدرك كيف فرطنا في أراضينا الخصبة وبذورنا المميزة وحتى الأسمدة لم نعد قادرين على توفيرها فأصبحنا نستوردها بالعملة الصعبة في الوقت الذي تعجز فيه الدولة عن تأمين المحاصيل وضمان تخزينها وتصدير ما يمكن منها!.

وبلغ العبث ذروته بعد التحذيرات من المسّ بالسيادة الأمنية والرقمية. فعدد من السياسيين في المعارضة وحتى في الحكم وعلى رأس الدولة للأسف صار يتحدث بالمكشوف عن العمالة وعن المخابرات الأجنبية وعن عبث “الأطراف الأجنبية” في التراب التونسي.

كما عشنا خلال الانتخابات الأخيرة جدلا حول قواعد المعلومات الخاصة بالناخبين ونتذكّر جيدا ذاك “العطب الفني” العجيب الغريب الذي حصل في “ماكينة” هيئة الانتخابات خلال السباق.

أمّا عن السيادة البيئية فحدّث ولا حرج، حاويات النفايات الإيطالية المركونة في أحد الموانئ بأحد أجمل المدن التونسية وأنظفها في السابق تقيم الدليل أيضا على حجم العبث داخل دولتنا..

هذا واقع الحال، أمّا الإنقاذ فهو ليس مستحيلا وإن كان صعبا للغاية في الحقيقة، ويكفي الانطلاق بعزيمة الأوفياء للوطن وإخلاص شهدائه في إعادة بناء مقومات السيادة الوطنية.
في هذا الإطار، لا مناص من إعادة النظر في منوال التنمية لأنّ في ذلك المخرج الوحيد للركود الاقتصادي ومجمل المشاكل الاقتصادية وخلق الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن بين الجهات وهو السبيل الوحيد للتخلص من التبعية.

ثانيا، إنّ احترام السلطة للحقوق والحريات، وبعبارة أخرى حقوق المواطنين في دولة المواطنة يقتضي عدم الانحناء للإملاءات الخارجية من جهة، ومن جهة ثانية صون الذات البشرية أيضا وبسط هيبة الدولة العادلة التي لا تسمح للمارقين عنها والمتربصين بها بتعويضها وملء الفراغات التي تتركها باستخدام مقولات وشرعيات وولاءات أخرى تسلّطية وظلامية ملتحفة بعباءة الدّين.

إنه لا مجال أيضا لعدم احترام الدستور الذي هو بقطع النظر عن كل شيء موضع تنفيذ وكذلك القوانين المنظمة للدولة. ففيها في الوقت الحاضر الحد الأدنى المطلوب لوقف نزيف هدر السيادة الوطنية على الأقل في انتظار تطوير مجمل التشريعات وتثويرها وجعلها أكثر تلاؤما مع حقوق الإنسان.

إنّ المسألة في تقديرنا تتجاوز النصوص وترتقي إلى ما يمكن أن نسمّيه عقيدة الولاء للوطن والانحناء لإرادة شعبه الحقيقية وليست المزيفة وهو جوهر المشروع اليساري الذي انطلق بعد 2011، لكنه تعثّر ولم يمت وهو يبقى الأنسب لبناء تونس الجديدة السليمة والمعافاة من جميع الأوبئة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×