الرئيسية / صوت العالم / فرنسا: مأزق الجمهورية الخامسة
فرنسا: مأزق الجمهورية الخامسة

فرنسا: مأزق الجمهورية الخامسة

بقلم زياد بن عبد الجليل

استقال الوزير الأول الفرنسي المعين Sébastien Lecornu من منصبه صباح 6 أكتوبر، بعد أقل من 12 ساعة عن الإعلان عن تركيبة حكومته، وبعد ثلاثة أسابيع من المشاورات مع الأقلية البرلمانية المساندة للرئيس ماكرون ولقاءات مع النقابات وأغلب الأحزاب السياسية الفرنسية الممثلة في البرلمان. ولقد بيّن في تصريح صحفي مقتضب أسباب استقالته: “عدم تجاوب المعارضة مع التوافقات التي اقترحها، خاصة التزامه بهجر ما يتيحه الدستور الفرنسي للسلطة التنفيذية من حسم القوانين المعروضة على البرلمان دون تصويت (اعتماد الفصل 49.3 من الدستور)، وذلك مقابل التزام المعارضات بعدم سحب الثقة من حكومته؛ تمترس أحزاب المعارضة والحكم والنقابات وراء برامجها ومطالبها؛ ضعف التضامن بين مكونات الحزام السياسي الرئاسي وتغليبهم مصالحهم الحزبية”. وبعد أقل من أسبوع من هذه الاستقالة، وفي ساعة متأخرة من يوم الجمعة 10 أكتوبر، أعاد ماكرون تكليف Sébastien Lecornu بمهام الوزير الأول وتشكيل الحكومة.

الجمهورية الخامسة في فرنسا : نظام من رحم الانقلاب

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتحرير فرنسا من سطوة النازية، ولدت الجمهورية الرابعة بعد مسار سياسي عسير عكس ميزان قوى طبقي لم ترجح الكفة فيه بشكل حاسم للطبقة العاملة الفرنسية التي كانت في أوج من قوتها ولا لغريمتها البورجوازية المنهكة. كانت الجمهورية الرابعة جمهورية برلمانية صرفة، لم تعرف خلالها البورجوازية الفرنسية “الاستقرار” الذي كانت تنشده وعرفت مؤسساتها تعطلا واضطرابا هدد مصالح البورجوازية الفرنسية. دبّرت البورجوازية المتعطشة لدولة قوية محاولة انقلابية (Le putsch d’Alger) في ماي 1958 قام به الجيش الفرنسي المتمركز في الجزائر وقطعان المستوطنين بها، وخلال هذه الأحداث دفع بالجنرال ديغول “محرر البلاد من النازية” إلى الواجهة مرة أخرى مخلّصا للبلاد من أزمتها التي أثخنتها هزيمة الهند الصينية وحرب الجزائر. اشترط ديغول، المعادي للنظام البرلماني بما هي “جمهورية الأحزاب”، تعليق دستور الجمهورية الرابعة وتفويضا دستوريا للقيام بهمامه التنفيذية من مجلس النواب، ليجهز على المؤسسات الفرنسية ويطرح على الاستفتاء دستورا جديدا يقطع مع النظام البرلماني ويؤسس للجمهورية الخامسة التي يتمتع فيها الرئيس وحكومته بسلطات تشريعية واسعة حجمت سلطات البرلمان: تعيين الحكومة دون اشتراط تشكيلها من الأغلبية البرلمانية ودون الحاجة لعرضها على ثقة البرلمان؛ التشريع بأوامر دون المرور بالبرلمان في المجالات التي لا تتعلق بالمالية، مع اشتراط إيداع مشروع قانون في الغرض على البرلمان (دون اشتراط المصادقة عليه)؛ حسم القوانين المعروضة على البرلمان دون المرور إلى التصويت، خاصة فيما تعلق بالمالية، مع إمكانية تصويت البرلمان على لائحة لوم ضد الحكومة؛ إمكانية حل البرلمان مرة في السنة البرلمانية، وإمكانية حلّه كلما صادق البرلمان على لائحة لوم ضدّ الحكومة. إنّ السلطات في الجمهورية الخامسة تتمحور حول الرئيس وتتركز بين يديه وتربط مصير الشعب مباشرة بقرار زعيم فوق المؤسسات وغالب بأمره على السلطة التشريعية.

الجمهورية الخامسة : دكتاتورية البورجوازية الفرنسية

لم تنجح البورجوازية الفرنسية، كبقية بورجوازيات المركز الرأسمالي، في تجاوز تبعات الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ 2007 وتعويض خسائرها الناجمة عن انكماش أسواقها العالمية ومجالات نفوذها، لذلك تسعى أكثر من أيّ وقت مضى إلى الضغط على قيمة الرأس مال المتغيّر واستخراج أكبر فائض قيمة ممكن من الطبقة العاملة في فرنسا (الضغط على الأجور والضمان الاجتماعي بما هو أجر مؤجل)، ومع تواصل أزمتها أضحت تتقدم في عسكرة إنتاجها لتحقيق أرباح طائلة عبر الحرب، التي ستدمّر بها أيضا قوى الإنتاج المحلية وتحسم بها صراعها مع الإمبرياليات الصاعدة، حيث أصبحت فرنسا ثاني مصدر للسلاح في العالم منذ 2023 مستفيدة من حصار الإمبريالية الروسية ومستغلة الحرب في أوكرانيا لتوسيع سوقها الأوروبية. يمثل نظام الجمهورية الخامسة، بما يمنحه من سلطات واسعة للرئيس، أحد أسلحة البورجوازية في حسم حربها التي تشنها بلا هوادة على الطبقة العاملة الفرنسية وبقية الجماهير الشعبية وعلى شعوب مستعمراتها السابقة. فهي تستفيد مما يتيحه النظام القائم من “صواريخ على منصات إطلاقها” تفرض بها اختياراتها الطبقية فرضا حين تصبح الديمقراطية البورجوازية ذاتها كابحا لمصالحها أو خلال فترات تصاعد وتيرة الصراع الطبقي في أشكاله النقابية والسياسية والميدانية.

دوما ما كانت مكاسب الطبقة العاملة الفرنسية في مرمى البورجوازية، وخاصة منظومة الضمان الاجتماعي والحقوق العمالية والسياسية المكتسبة خلال جولات من الصراع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولقد تسارعت وتيرة هذه الحرب في العشرية الأخيرة، حيث استماتت كل الحكومات يمينا ويسارا في خدمة البورجوازية. لقد عمد الرئيس “الاشتراكي” هولاند، والذي جاء إلى الحكم رافعا شعار “العدو هو رأس المال المالي”، إلى التراجع على عديد المكاسب عبر فرض قانون تنقيح مجلة الشغل فرضا دون تصويت في 2016، رغم نزول أكثر مليون متظاهر في فرنسا خلال الإضرابات. ثمّ تسارعت الإجراءات اللاشعبية مع الرئيس ماكرون، الوزير السابق في حكومة هولاند، الذي لم يتردد في إغداق امتيازات مالية واقتصادية للبرجوازية وتقويض كل منظومات الضمان الاجتماعي (التقاعد والتأمين على المرض وعلى البطالة) وفرضها في قوانين المالية على البرلمان رغم خروج أكثر من 3 ملايين متظاهر في 2023 ضدّ مشروعه لتصفية منظومة التقاعد. وهو يستعدّ الآن لفرض سياسة تقشفية لتمويل الحرب المرتقبة بين الإمبرياليات الغربية والإمبرياليات الصاعدة.

اهتراء الجمهورية الخامسة

لقد أذن وصول ماكرون إلى السلطة بتوسّع السلطة التنفيذية في سطوها على التشريع رغم تمتعها في فترة ما على أغلبية برلمانية، حيث التجأ ماكرون إلى فرض مشاريع قوانينه على البرلمان 12 مرة كان يتمتع في جلّها بأغلبية برلمانية مستقرة. ومع وصول اليسار أولا في البرلمان الفرنسي بعد الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها التي أعقبت حل البرلمان في ربيع 2024، أحجم ماكرون عن تعيين رئيس حكومة من اليسار وفرض حكومة تضمّ الخاسرين في الانتخابات (حزبه والجمهوريون) ليواصل، في خرق لمبادئ الديمقراطية الدنيا ولكن استنادا إلى الدستور، تطبيق برنامج صوّت الناخبون ضدّه، ولا يزال المتظاهرون ينزلون إلى الشوارع ضدّه إلى اليوم، لكنه برنامج وفيّ لمصالح البورجوازية الفرنسية، في مشهد يفضح اهتراء “ديمقراطية” الجمهورية الخامسة. كما أنّ إعادة تكليف لوكرنو بتشكيل حكومة بما تبقى من مناصرين للرئيس تؤشر على أنّ أزمة النظام الفرنسي ستتعمق أكثر في الأيام والأسابيع المقبلة حيث أنّ هذه الحكومة لا يمكنها تمرير الميزانية المقبلة إلا بالسطو على التشريع وفرض نصوصها على برلمان ليس للرئيس فيه من حلفاء، حيث أجهزت الأزمة الأخيرة على حلفه الحكومي حتى أنّ وزيره الأول الأسبق إدوارد فيليب طالب علنا باستقالة ماكرون منذ أيام.

يبدو أنّ البورجوازية لم تظفر بعد بعصفورها النادر الذي يمكن أن يعوّض ماكرون في انتخابات سابقة لأوانها ممّا يفسر مواصلة تعويلها تكتيكيا على ماكرون لتمرير قانون ميزانية الحرب والتقشف لسنة 2026 وضمان عدم التراجع عن تعديلات منظومات الضمان الاجتماعي، حتى وإن كان تكلفة ذلك مزيد تهرئة النظام السياسي القائم عبر حل البرلمان مرة أخرى. أمّا مرحليا فإن البورجوازية أمام خيارين كبيرين: يقوم أولهما على التعويل، ضمن مؤسسات الجمهورية الخامسة، على قوة جديدة تؤتمن على تطبيق برنامجها، لذلك ترى أرهاط اليمين والانتهازيين يتنافسون على عرض خدماتهم الجليلة؛ وإمّا إحداث تحوّل نوعي في شكل دولتها والاستفادة من صعود نجم الشعبويات ذات النزعة الفاشية إلى الحكم في عدد من دول المركز الرأسمالي لتصليب جهاز هيمنتها الطبقي، بل الانقلاب على الجمهورية الخامسة إذا تطلب الأمر ذلك تحسّبا لأيّ هبّة شعبية قادمة لا محالة.

يتركز الصراع الطبقي اليوم في فرنسا في مسألتين محوريتين: تنقيح قانون التقاعد؛ وسياسة التقشف لتسديد الديون والإعداد للحرب. إنّ مهام إسقاط قوانين تعديل الضمان الاجتماعي والتصدي للتقشف والحرب مرتبطة اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، بإسقاط نظام دكتاتورية البورجوازية الحالي وتجاوزه. إنّ مهمة تجاوز الجمهورية الخامسة نحو نظام ديمقراطي شعبي مطروحة للإنجاز عند لفيف من الأحزاب الثورية الفرنسية التي يتّسم عاملها الذاتي بالتخلف. وإنّ أحزاب اليسار الانتهازي لا تطرح هذه المهمة على جدول أعمالها بل تسعى إلى ترميم الجمهورية الخامسة وإنقاذها من مأزقها، وأمّا حركة فرنسا الأبية فتطرح هذه المهمة في صيغة مشوّهة من داخل المؤسسات الحالية وليس في تناقض مع المنظومة القائمة.

إلى الأعلى
×