بقلم سمير جراي
ها قد أُعلن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بعد عامين من الصمود التاريخي للمقاومة وأهل غزة على أرضهم، رغم حرب الإبادة الصهيونية المدعومة أمريكيا، ولن نخوض هنا في تفاصيل الاتفاق ويكفينا أن نُثني على شجاعة المقاومة الفلسطينية عسكريا وسياسيا، وأن نبارك ونُهنّئ الفصائل الفلسطينية وأهالينا في غزة بما نعتبره نصرا مظفرا على عدوهم وعدونا وعدو العالم الحر. فرغم أعداد الشهداء والجرحى والدماء التي سٌفكت، والدمار الذي لا يوصف والخسائر التي لا تحصى، خرجت غزة مرفوعة الرأس أمام أنظار العالم تلملم جراحاتها، وتفخر بترابها الذي سقته من دماء شهدائها، وخرج العدو المجرم مهزوما ذليلا ليس في رصيده إلا آلاف الجرائم ضد الشعب الأعزل، ولا يحمل في كفه إلا أرواح آلاف الأطفال والرضّع الذين أحرقهم لمدة عامين، ولا يراه العالم إلا كسرطان خبيث ينهش الإنسانية، أو سفّاح فاقد لإنسانيته يتخبّط يمينا وشمالا يبيد البشر والشجر والحجر.
قبل أكثر من عام من عملية طوفان الأقصى العظيمة، وعقب عملية “سيف القدس”، تحدث الشهيد يحيى السنوار عن خطة الفصائل الفلسطينية لعزل الكيان المحتل دوليا، وأكد أن الخطة ستؤتي ثمارها خلال عام.
لا نعلم بالضبط ماهية الخطة التي كانت تجول في رأس هذا العقل العسكري المقاوم، هل هي بالفعل تلك العملية التاريخية ذات 23 أكتوبر أم هي خطة أخرى تطورت إلى “الطوفان” خلال عام من التخطيط والاستعداد؟ المهم أن بعد عامين من حرب الإبادة الصهيونية على غزة تحققت نبوءة السنوار وأصبح الكيان في شبه عزلة دولية، يواجه مسؤولون كبار من قياداته الملاحقات القضائية الدولية، وفقد الكثير من الدعم العسكري الغربي، كما يواجه مقاطعة اقتصادية عالمية غير مسبوقة، وعموما لم تتشوّه صورة الكيان اللقيط تاريخيا أكثر مما هي عليه الآن في عيون شعوب العالم الحرّ.
على امتداد عامين لم تكن غزة مجرد ساحة قتال وحرب فقط، بل مثّلت مربّعا أخلاقيا لاختبار إنسانية العالم. ورغم ما يملكه الكيان المحتل من عتاد عسكري وأسلحة متطورة ودعم غربي لا محدود، لم يستطع أن يكسر إرادة شعب محاصر، وصمود مقاومة باسلة لم تتخلّ عن أرضها ولم تساوم رغم الخذلان العربي والإسلامي، ورغم كل شيء تمكنت غزة، بدماء شهدائها وصمود أبنائها، من توضيح صورة الكيان الحقيقية وتعريتها، وفضح زيف سرديته وخطورة عنصريته أمام العالم.
أحرار العالم الذين خرجوا بالملايين في كل قارات الدنيا وفي العواصم الغربية بالذات لم تكن مجرد حشود غاضبة على إجرام الصهاينة، بل كانت تعبيرًا عن تحول عميق في الوعي والضمير العالمي، خصوصا بين الشباب.
هذا الجيل الذي وُلد بعيدًا عن عقدة “الهولوكوست”، ويتابع في كل لحظة صورا للمجازر في القطاع على شاشات الهاتف، لم يعد يتقبّل الرواية الصهيونية الجاهزة، بل يرى الكيان على حقيقته كقوة استعمارية عنصرية تمارس الإبادة وأكثر.
جيل يفكّر ويحتجّ في جامعات وكليات العالم ويتصدّر الإعلام والحركات الحقوقية والنقابية، سيكون بعد سنوات هو صانع القرار في الغرب، وسيحمل معه ذاكرة غزة ومأساتها كجزء من وعيه السياسي والثقافي.
أما الدائرة الإمبريالية الإجرامية التي طالما دعمت الكيان بكل الإمكانيات، فقد سقط عنها قناع الحقوق والحريات المزيف وبرزت الأصوات التي تعكس عمق أزمتها، وعلى رأسهم كبير المجرمين ترامب، وها هو قبيل الاتفاق الذي يتبجّح بفضله في التوصل إليه، وقد كان اليد العليا التي تقصف غزة، وسيف ناتنياهو الملطّخ بدم الآلاف من الفلسطينيين، يصرّح بوضوح قائلاً: «قلت لنتنياهو إن إسرائيل لا يمكنها أن تحارب العالم، وهو يفهم ذلك جيدًا.»
إنه دون شكّ اعتراف صريح يكشف أن عزلة الكيان لم تعد مجرد انطباع عالمي، بل حقيقة تؤكدها الجماهير المنتفضة في عواصم العالم أجمع، حتى في تلك الدول التي كانت بالأمس القريب داعمة لكل سرديات المظلومية المكذوبة، بل وأصبح يدركها حتى أقرب حلفائه المتصهينين.
لا يعني قول ترمب إن الكيان عاجز عن مواجهة موجة السخط الدولي إلا إقرارا بأن غزة، رغم ما اُرتكب فيها من جرائم إبادة، نجحت في جرّ عدوها إلى معركة خاسرة على مستوى الرأي العام الدولي و”الشرعية الدولية”.
إن الانقلاب الإعلامي العالمي الذي فرضه طوفان الأقصى وصمود الشعب الغزاوي ومقاومته الباسلة، غيّر الفكرة التي كان يريد فرضها الغرب عبر سياساته ودبلوماسيته وإعلامه، وتصوير الكيان كـ”الطرف الذي يدافع عن نفسه”، وتحوّلت عناوين كبريات الوكالات الإخبارية والصحف والتلفزات من دعاية قذرة واتهامات باطلة وملفّقة للمقاومة إلى حقائق تُبرز معاناة المدنيين في غزة وما يتعرضون له من إبادة وتجويع وتهجير وتنكيل.
تحوّل تركيز الكثير من وسائل الإعلام الدولية من تبني الرواية الصهيونية الكاذبة إلى إلقاء الضوء على المأساة الإنسانية والضغوط الشعبية الدولية، هذا التحوّل في زاوية التناول الخبري والسياسي وإن كان دون قناعات حقيقية فإنه يعكس حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن غزة أجبرت العالم على إعادة تعريف معنى “إسرائيل” في الوعي العالمي، ليكون ذلك الكيان العنصري الغاشم الذي يحاصر الأبرياء ويجوّعهم ويحرقهم.
كما كان لقرارات الأمم المتحدة، مثل قرار الجمعية العامة عام 2024 الذي دعا لإنهاء الاحتلال في الأراضي الفلسطينية (الذي تعتبره مقررات الأمم المتحدة غير قانوني)، وقرارات مجلس حقوق الإنسان التي طالبت بحظر تصدير الأسلحة للكيان، أثرا واضحا في تزايد الضغط الدولي والمواجهة القانونية لجرائمه، فضلا عن خطاب زعماء عدد من الدول مثل خطاب الرئيس الكولمبي غوستافو بيترو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ومواقف رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز ورئيس البرازيل لولا داسيلفا ورئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا ، التي اعتبرت أن الكيان يمثّل خطرا على الإنسانية وجب التصدي له، وكل ذلك يجعله متورطا جنائيا وأخلاقيا أمام المجتمع الدولي.
على الرغم من عامين من الحصار والتجويع والقتل المتواصل يوميا، تحولت غزة الأبية العصية عن التركيع إلى رمز كوني للتحرّر والانعتاق والكرامة والحق في تقرير المصير والمقاومة. ووجد الصهيوني نفسه محاصرا بوعي الشعوب وضمير العالم.
لا يمكن لهذه الاستفاقة العالمية والصحوة الحقوقية أن تخمد بعد الآن فالذي طٌبع في وجدان هذا الجيل اليوم سيكون هو سلاح الغد في مواجهة الصهيونية العالمية.
وحتما فقد انتصرت غزة ليس فقط لأنها أسقطت الآلة العسكرية الصهيونية، بل لأنها أسقطت الأقنعة.
صوت الشعب صوت الحقيقة
