الرئيسية / صوت الوطن / القيروان: حين تُدار الدولة بالعصا ويُترك الفقراء للموت
القيروان: حين تُدار الدولة بالعصا ويُترك الفقراء للموت

القيروان: حين تُدار الدولة بالعصا ويُترك الفقراء للموت

بقلم كوثر الباجي

ما جرى في حومة علي باي بالقيروان إثر وفاة الشاب نعيم البريكي ليس حادثًا عرضيًا، ولا نتيجة خطأ فردي أو سوء تقدير أمني، بل هو تعبير مكثف عن مسار كامل تعيشه البلاد، مسار يقوم على تحويل القمع إلى سياسة يومية، وعلى التعامل مع الفئات الشعبية بوصفها عبئًا يجب ضبطه لا مواطنين يجب حمايتهم. إن هذه الجريمة، بما رافقها من عنف وتلاعب وطمس للحقيقة، تكشف طبيعة السلطة القائمة ووظيفتها الحقيقية في هذه المرحلة: حماية نظام غير عادل عبر إخضاع من يدفعون ثمنه.

نعيم البريكي، ابن الثلاثين عامًا، لم يكن خطرًا على “الأمن العام”، ولم يكن خارجًا عن المجتمع، بل كان واحدًا من آلاف الشبان الذين يعيشون في الهامش، بلا عمل قار، بلا أفق، بلا حماية اجتماعية. شاب من حي شعبي لا تعرفه الدولة إلا حين تطارده، ولا تتذكره إلا كرقم في ملف أمني. وحين يُقتل شاب من هذا الموقع الاجتماعي، لا يُطرح السؤال عن أسباب الفقر والبطالة والتهميش، بل يُطرح سؤال النظام والانضباط والطاعة.

ما حدث – مطاردة، دهس، اعتداء جسدي، ثم ترك المصاب ينزف، فالتلاعب بالتقارير الطبية، ثم موته بعد أسابيع من العناية المركزة – يكشف منطقًا واحدًا: حياة الفقير أقل قيمة، ويمكن التفريط فيها إذا اقتضت “هيبة الدولة” ذلك. هذه الهيبة التي تُبنى على جثث أبناء الأحياء الشعبية، لا على العدالة ولا على الحقوق.

الأخطر من الجريمة نفسها هو ما تلاها. بدل محاسبة المسؤولين، شُنّت حملة قمع على المحتجين. بدل فتح تحقيق شفاف، فُتحت الزنازين. بدل الاستماع لغضب الناس، أُطلقت قنابل الغاز. واحد وعشرون شابًا أُوقفوا لأنهم طالبوا بالحقيقة، لأنهم رفضوا الصمت، لأنهم كسروا الجدار الذي تريد السلطة بناءه بين الضحية والرأي العام.

هنا تتضح المعادلة: في هذا البلد، القتل قد يمرّ، لكن الاحتجاج لا يُغتفر. الجريمة التي يرتكبها أصحاب النفوذ تُدار، تُلفّ، تُنسى، أمّا الغضب الشعبي فيُجرّم ويُسحق. هذا ليس خللًا في العدالة، بل هو عدالة مصمّمة على مقاس سلطة تخشى الشارع أكثر ممّا تخشى الدم.

القيروان، كما غيرها من المدن الداخلية، تعيش منذ سنوات تحت ضغط اقتصادي واجتماعي خانق. نسب بطالة مرتفعة، هشاشة، غلاء معيشة، انسداد أفق. في المقابل، لا تحضر الدولة إلا بأجهزتها الأمنية. لا سياسات تنمية، لا حلول، لا استثمار في الإنسان، بل حضور دائم للبوليس، وكأن المطلوب هو إدارة الفقر لا القضاء عليه. وحين ينفجر الغضب، يُجابَه بالقوة، لا بالحلول.

إن العنف البوليسي الذي بات يتصاعد ليس معزولًا عن الخيارات العامة للسلطة. حين تُغلق أبواب العيش الكريم، وحين يُمنع الناس من التنظيم والتعبير، وحين يُداس الحق في الشغل والصحة والكرامة، يصبح القمع هو الأداة الوحيدة المتبقية لضمان الاستقرار الزائف. استقرار يقوم على الخوف، لا على الرضا، وعلى الصمت، لا على العدالة.

ما تكشفه قضية نعيم البريكي هو أن السلطة لم تعد ترى في المواطنين شركاء، بل رعايا يجب ضبطهم. وهذا التحول خطير، لأنه يقطع آخر الخيوط بين المجتمع والدولة، ويدفع نحو مزيد من القطيعة والاحتقان. فلا يمكن لدولة أن تستمر طويلًا وهي تعامل جزءًا واسعًا من شعبها كتهديد دائم.

إن الاحتجاجات التي شهدتها حومة علي باي ليست انفلاتًا، بل صرخة. صرخة ضد الظلم، ضد الإهانة، ضد تحويل الأحياء الشعبية إلى مناطق عقاب جماعي. لكن هذه الصرخة، ما لم تجد من يؤطرها ويمنحها أفقًا، تبقى عرضة للقمع والاستنزاف. فالسلطة تراهن على العزل، على تفريق الغضب، على تحويل كل قضية إلى ملف أمني معزول.

من هنا تبرز أهمية المواقف التي ترفض هذا المنطق، وتصرّ على تسمية الأشياء بأسمائها: ما حصل قتل، وما تلاه تستر، وما يجري قمع. المطالبة بالمحاسبة ليست مطلبًا قانونيًا فحسب، بل معركة سياسية ضد منطق الإفلات من العقاب. والدفاع عن الموقوفين ليس تعاطفًا، بل دفاع عن حق المجتمع في الاحتجاج.

لكن المعركة أوسع من قضية واحدة، مهما كانت رمزيتها. إنها معركة ضد نموذج كامل من الحكم، نموذج يقوم على حماية الامتيازات بالقوة، وعلى تحميل الفئات الشعبية كلفة الأزمات، وعلى تحويل أجهزة الدولة إلى أدوات ردع بدل أن تكون أدوات خدمة. لذلك، فإن العدالة لنعيم لا تنفصل عن العدالة الاجتماعية، ولا تنفصل عن الحق في الشغل، وفي الصحة، وفي التنظيم، وفي التعبير.

إن دماء الشبان الذين يسقطون في الأحياء المهمشة ليست قدرًا، بل نتيجة خيارات. وحين تُتخذ الخيارات نفسها، تتكرر المآسي نفسها. لذلك، فإن كسر هذا المسار لا يكون بالاكتفاء بالتنديد، بل ببناء قوة اجتماعية واعية، قادرة على ربط النضالات، وعلى تحويل الغضب إلى مشروع تغيير.

القيروان اليوم ليست وحدها. ما يجري فيها مرشح للتكرار في كل مكان تُدار فيه البلاد بالمنطق نفسه. إما أن يُفتح أفق جديد قائم على الكرامة والعدالة، أو يستمر الانحدار نحو دولة لا تملك من أدوات الحكم سوى العصا. والتاريخ علمنا أن الشعوب قد تصبر، لكنها لا تنسى، وقد تُقمع، لكنها لا تُهزم إلى الأبد.

إلى الأعلى
×