الرئيسية / الافتتاحية / لمصلحة من… نختار التخاذل إزاء قضية “الجهاز السري”؟
لمصلحة من… نختار التخاذل إزاء قضية “الجهاز السري”؟

لمصلحة من… نختار التخاذل إزاء قضية “الجهاز السري”؟

إستفاقت بلادنا، منذ يوم 2 أكتوبر 2018، على واحدة من أخطر قضايا الرأي العام، التي تمس شعبنا، منذ ثورته الخالدة على دكتاتورية بنعلي الدموية، وهي، بكل تأكيد، ما بات يعرف بالتنظيم السري لحركة النهضة الحاكمة. وقد مثلت أولى الندوات الصحفية لهيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي، صدمة إيجابية قوية لجزء مهم من المجتمع التونسي، الذي يعاني من تدهور حاد لظروفه المعيشية ومن تعمق حالة المهانة الوطنية والقومية (السباق الرسمي للتطبيع الكامل مع الصهاينة…) ومن مأساة إنسداد آفاق شبابه وعزوفهم تارة عن النضال الإجتماعي وطورا عن الحياة السياسية برمتها

حكومة الشاهد” الإنتخابية: مستقبل الثورة المضادة

إن إعادة تأسيس أو تحيين “الجهاز السري” للإخوان التونسيين، حسب المعطيات والحقائق الدامغة، التي ما فتئت “هيئة الدفاع” تقدمها، تباعا، للنيابة العمومية وللإعلام ولعموم المواطنين، تمثل، بكل المقاييس، منعرجا خطيرا في واقع بلادنا العام، فعلاوة على الفشل الذريع لحكومات ما بعد الثورة وافتضاح “الحرب على الخلافة” (التي طالما غطت عليها ديماغوجيا “الحرب على الإرهاب” و”الحرب على الفساد”)، صلب ورثة “حزب الدستور” وانفراط عقد أتباع السبسي، لكتل برلمانية متصارعة، آخرها حزب “تحيا تونس” للشاهد، دخل، بعد، الشيخ راشد الغنوشي، المسؤول السياسي الأول على فضيحة الجهاز الإستخباري، قفص الإتهام، بما يهدد واقع الحزب الأغلبي الحالي، والذي ما انفك، يخسر، منذ 2014، أفواجا نوعية من ناخبيه.

وفي قراءة لردود الأفعال الرسمية للحركة، فإن التخبط الجلي والخوف من العزلة السياسية ومن المحاسبة، هي التي تدفعها لمساندة “حكومة الشاهد” عمليا (حتى وإن انتقدته أحيانا)، جزاء تعطيل الأخير للمرفق القضائي وتأجيل البت في “وثائق” الجناح الإرهابي للإخوان (والذي كان ظرف الإستبداد قبل الثورة تعلة غير كافية لبعثه) لما بعد الإنتخابات القادمة، فضلا عن حمايته من نزوات السبسي السياسية. إن تعفن “البيت الداخلي” للفريق الحاكم (وللمنظومة ككل) قد يحول المعركة الإنتخابية لواحدة من أتعس “المسرحيات”، التي عاشها شعبنا منذ 1956، خصوصا إذا انخدع جزء من “النخبة الديمقراطية” بالبلاد بخطب الشاهد والسبسي التعويمية (بغية إعادة إنتاج نفس الأزمة السياسية الراهنة)، أو خير البعض الآخر دخول الإنتخابات أقل وحدة وأكثر تشتتا.

وفي المقابل، فإن تنازع “قرطاج” و”القصبة” وحزب الأستاذة ع. موسي على “الماكينة القديمة” للتجمع المنحل يمثل موضوعيا الفرصة الأمثل للحركة الثورية، للبروز كقطب سياسي وبديل وطني واجتماعي للحكم، خاصة وأن الجهد الدؤوب لهيئة الدفاع قد أتى، إلى حد بعيد، أكله في ضرب ما تبقى من “مصداقية” مونبليزير (وبدرجة أقل الحكومة والرئاسة .

قيادة إتحاد الشغل: الموقف الضعيف

لاشك أن القيادة النقابية السابقة كانت من أشد المستفيدين سياسيا من جريمة إغتيال الشهيد الأستاذ بلعيد، في 6 فيفري 2013، إذ مكنتها من نفض غبار “الإنتكاسة الإنتخابية” للعام 2011 (والتي انساق لها العديد من الوجوه والقيادات الوسطى للإتحاد) وتصدر المشهد العام، لاسيما وأن جرائم أخطبوط “الجهاز السري” للإخوان قد طالت المنظمة الشغيلة في عدة مناسبات.

وإذ تحمل “الإتحاد” مسؤولياته الوطنية والتاريخية، إبان آخر سنوات حكم الترويكا، وساهم، إثر حل “روابط النهضة” بقرار قضائي حاسم، في قيادة المجتمع المدني والسياسي لإنجاز إنتخابات 2014، فإن موقفه الراهن حيال أزمة “التنظيم السري” الدموي لايستجيب، في الحقيقة، لانتظارات عدد غير هين من كوادره وأنصاره، ولاينسجم البتة مع ما اقترفته الأيادي التكفيرية للإخوان، في حق الحركة النقابية جمعاء، منذ وصولهم للحكم، فبيانه في الغرض جاء متأخرا، بالمقارنة مع جدية وفظاعة ما أفصح عنه، منذ الوهلة الأولى، محاميو “الهيئة”، كما أن تمشي القيادة النقابية ظل، رغم “الشتاء الساخن”، بعيدا عن إلتقاط اللحظة السياسية، للربط بين عمالة “حكومة الشاهد” للجهات المانحة وللكيان الصهيوني وتلاعبها المطرد بحقوق الشغالين وبمؤسسات القطاع العام من جهة والنضال من أجل إعادة فتح ملف الإعتداءات الحاصلة على المقرات النقابية لإنصاف “الإتحاد” وعدم التجرؤ عليه من جديد من جهة ثانية والإنخراط النشيط في الصراع الإنتخابي القادم بالبلاد من جهة أخرى. إن التبني النقابي للقضية ظل، على العموم، لفظيا أو محدودا، وسرعان ما طغت عليه عقلية الفصل بين المسارين الإجتماعي والسياسي، في التعامل مع الحكومة الحالية (والتي تساهم فيها حركة النهضة)، وهو ما حدا بالغنوشي، مؤخرا، لاستضعاف “الإتحاد”، عبر محاولة السطو على نضالات مدرسي التعليم الثانوي (إيهامهم بإيجاد مصدر خليجي لتوفير المفعول المالي لمطالب القطاع!!!).

وفي نفس السياق، يبقى التصريح المستنكر لأحد أعضاء المكتب التنفيذي للإتحاد، في ديسمبر الفارط، غداة “يوم الغضب” الذي دعت له “جامعة الثانوي”، في علاقة بشعارات الأساتذة المحتجون ببطحاء محمد علي سلميا على نهج الأمين العام للمنظمة (في التعاطي مع قضاياهم المزمنة)، مفارقا في قضية الحال ومثيرا للحيرة: كيف لقيادة نقابية إرتضت عمليا ما تمخضت عنه أعمال “لجنة التحقيق” في هجمة 5 ديسمبر 2012 الدامية ببطحاء محمد علي (والتي حملت مسؤولية الأحداث للطرفين!!!) بدعوى “الوحدة الوطنية”، ألا تقبل بالنقد الشرعي البناء (وتعتبره بمثابة الإهانة!!!)، حين يكون مصدره قواعدها الأستاذية وأحد أكبر قطاعاتها المناضلة؟ وفي حالة انتهاجها التخاذل، ماذا تنتظر “القيادة” من “حركة النهضة”، إذا ما فازت الأخيرة بأغلبية من الأصوات (وهو احتمال مايزال قائما) وعادت لمسلكية “التغول” وإعادة بناء جهازها الإستعلامي الراهن، عدا استهداف النقابيين والتشفي منهم ولو بعد حين؟ .

 الأحزاب الوسطية: الكيل بمكيالين

للدفاع عن مصالحها المباشرة، قد تكون أغلب رؤوس الأموال التونسية العميلة وجدت “ضالتها”، هذه المرة، في حزب الشاهد الجديد، بعد أن انفضت تدريجيا من حول الشيخين الغنوشي والسبسي، لكن هذه الملاحظة الهامة لاتعفي عددا من وجوه ما يسمى بالطيف الديمقراطي الإجتماعي (والتي ضمت بعضها قائمة “الإتحاد المدني” الإئتلافية في البلديات الأخيرة) من مسؤوليتها حيال ملف المتهم الإرهابي مصطفى خذر، إذ أن معظم المتشدقين بجملة “محاربة الدولة العميقة” يتناسون -عمدا- حقيقة كون أقصى ما بذلته “حركة النهضة” من جهد، منذ أشارت، في 2012، لمدير “التنظيم” بعصرنته وتدريب أعضائه على أقذر العمليات الإجرامية، هو إبتزاز رموز النظام السابق (أوتحييدهم) والعمل على الإستعاضة عنه ببنية سياسية وأمنية وتربوية واجتماعية خارجة عن القانون ومستوحاة رأسا من مشروعها التمكيني المتخلف وتتخذ حالة النكوص عن تضييق الخناق على “حركة النهضة”، لدى رموز هذا الطيف السياسي والبرلماني، عددا من المسوغات السائدة، لعل أهمها تجربة “جبهة الإنقاذ” المثيرة للجدل (والتي يمثل مخطط “الفوضى الخلاقة” للتنظيم السري عاملا حاسما في ظهورها)، والتي يخشى أصحاب هذا الرأي، في سياق مخاطر “عودة الدكتاتورية”، من السقوط في تبعات الرجوع على أعقابها، خاصة إثر ركوب “نداء تونس” و”الحزب الدستوري الحر” على ناصية ملف “الجهاز السري” (لأغراض انتخابية بحتة).

لكن، ما يتحاشى هؤلاء الإقرار به هو أن القضية، بصرف النظر عن كل سيناريوهات التوظيف السياسي، عادلة ومصيرية في نفس الوقت، وهي تختلف جوهريا عن سياقات زمن الطاغية الهارب، لأن المدعين على “حركة النهضة” (أي محاميو الهيئة)، هذه المرة، لا علاقة تربطهم لا بالبوليس السياسي ولا بفبركة القضايا، في حين أن المتهمين سياسيا وجنائيا، هذه المرة، هم الماسكون بالسلطة منذ أكثر من 7 سنوات ولاتعوزهم الحيلة، في حالة الإفلات من العقاب، لإعداد العدة سرا وجهرا للمضي قدما في تفكيك الدولة والنسيجين الحضاري والإجتماعي للبلاد.

كما أن من ارتأوا ألا ينبسوا بنت شفة حول هذا الملف يدركون، في قرارة أنفسهم، أنه لو كان هذا “الجهاز” المكيافيلي ضبط على ذمة أي حزب سياسي آخر (غير حركة النهضة)، لكانت “دولة القانون” دافعت عن كيانها في الحال، مثلما سبق للقوى الحية وللقضاء التونسي أن حسموا، في 2011، في قضية “التجمع الدستوري” الفاشي

ويبقى الخطر، كل الخطر، في المحصلة، في أن يتحول التخوف من “حركة النهضة” لعائق ذاتي، لدى جزء من الطبقة السياسية، للعزوف عن مواجهتها بالحجة القانونية وبالبرهان المادي وبهدير الشارع، بدعوى ألا تجنح أكثر لسلاحي التكفير والغدر الإرهابي، وللإستفادة الرخيصة من مخزونها الإنتخابي المحافظ ومن إمكانيات الإلتقاء الحكومي اللاحق معها، وهو ما لايخدم، على المدى المتوسط والبعيد، بأي حال من الأحوال، قضايا الثورة والديمقراطية والسيادة الوطنية .

بقلم/ رفيق الزغيدي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×