الرئيسية / صوت الوطن / تونس تعيش أزمة حكم // بقلم جيلاني الهمامي
تونس تعيش أزمة حكم // بقلم جيلاني الهمامي

تونس تعيش أزمة حكم // بقلم جيلاني الهمامي

تتناقل وسائل الإعلام بتواتر كبير في المدة الأخيرة طائفة من الأخبار والمعطيات تصبّ كلّها في أنّ منظومة الحكم الحالية تعيش أزمة وأنّ اتصالات ومناقشات، بل ومناورات كذلك تجري في الكواليس السياسية إمّا لطمس معالم الأزمة أو لتطويقها أو للبحث عن حلول لها.
vlcsnap-2016-04-09-15h01m49s968

الأزمة… أزمات

والحقيقة أنّ الأزمة صارت على درجة من الاشتداد والشمولية وغدت أزمة مركبّة، متشابكة الأبعاد ومتشعّبة. فهي في ذات الوقت أزمة اقتصادية تُنذر بالإفلاس، وأزمة اجتماعية تهدّد البلاد في كلّ وقت، وأزمة سياسية تنطوي على مخاطر الانزلاق نحو الفراغ، وأزمة أمنية يُخشى على البلاد أن تُلقي بها في براثن مجموعات العنف والإرهاب، وكذلك أزمة أخلاقية ثقافية تهدّد بالقضاء على كلّ مكتسبات الشعب الحضارية وقيمه.

هذه هي حصيلة الخمس سنوات الماضية في ظلّ حكومات السبسي والترويكا ومهدي جمعة والائتلاف الرباعي الحاكم الآن. ولا خلاف في كونها نتيجة عكسية تماما لما كان مأمولا من ثورة 14 جانفي 2011. وتُعتبر الحكومة الحالية ومنظومتها واحدة من أكثر الحكومات المتعاقبة على البلاد عجزا وفشلا في إدارة شؤون الأزمة. وليس من المبالغة في شيء القول بكونها تحوّلت إلى عامل من عوامل الأزمة وأكثر من ذلك تردّت هي الأخرى في أزمة خانقة تُنذر بانهيارها.

أزمة منظومة

ولكن الأزمة لا تتوقف عند الحكومة بل تطال كلّ مكونات المنظومة الحاكمة، مؤسسة الرئاسة والبرلمان والحكومة والإدارة بكل مؤسساتها وأجهزتها. وتشهد علاقات هذه المؤسسات ببعضها اختلالات واهتزازات كثيرة منها ما تكشف عنه وسائل الإعلام ومنها ما هو خاف ولا يتداول إلا في الكواليس. ويمتدّ شبح الأزمة ليشمل السند السياسي الذي تستند إليه هذه المنظومة أي إلى ائتلاف الأربعة ومنه إلى كلّ حزب منها على حدة تقريبا. وهو ما خلق حالة من الضبابية السياسية وزاد في الوضع هشاشة وحطّ من قيمة مؤسسات الدولة واعتبارها في نظر الناس.

يَذكر الجميع الحملة التي قامت من أجل تمكين رئيس الدولة من صلاحيات أوسع، وكانت في البداية حول تمكينه من سلطة تسمية الوظائف الأمنية السامية، ثم سرعان ما تحوّلت إلى توسيع صلاحياته لمجابهة الأزمة التي تمرّ بها لتنتقل الحملة فيما بعد إلى طرح مسألة تعديل الدستور باتجاه إعادة النظر في النظام السياسي. وجاءت هذه الحملة على خلفية التسميات التي مسّت آنذاك مراكز مهمة في وزارة الداخلية حسب قراءات مطّلعة على خفايا علاقة الرئاسة بالحكومة. وكانت بمثابة جسّ النّبض لمعرفة ما إذا كان ممكنا تمرير فكرة تعديل الدستور والعودة إلى رئاسة من نوع آخر.

في ذات الفترة نشطت حملة معلنة ضدّ مجلس النواب على أنه مخلّ بدوره في مراقبة الحكومة ومتهاون في تغيير المنظومة القانونية وفق ما جاء في الدستور من أحكام جديدة. ولطيّ هذه الحملة شنّت حملة خفيّة ضدّ رئيسه، وجاءت نيران هذه الحملة من أقرب الناس إليه في حزبه وفي الأحزاب الحليفة. ولئن كانت هذه الحملة مبرّرة وعلى درجة من الوجاهة، فإنها في ذات الوقت مشحونة بما يعتمل داخل الائتلاف الحاكم من صراعات ومناورات ترتقي أحيانا إلى الدسائس. في كلّ ذلك تلوّثت صورة المؤسسة النيابية وفقدت الكثير من سمعتها بل وراح الكثير “يترحّم” على التأسيسي رغم كلّ هناته ومساوئ تجربته.

أما الحكومة فقد ولدت تحت “القصف” بسبب الطريقة التي تشكّلت بها والمنطق الذي انقاد به رئيسها الحبيب الصيد عند جمع عناصرها ومكوناتها. فهي حكومة بلا لون سياسي محدد بالمعنى الحزبي للكلمة. فلا هي حكومة الحزب الأول ولا هي حكومة الائتلاف الرباعي بما يعكس حقيقة ميزان القوى بين مكونات الرباعي. وعلاوة على ذلك فقد تألّفت على أساس محاصصة لم تنبن على برنامج بقدر ما تألّفت وفق مشتركات في الخيارات العامة وخاصة منها الاقتصادية والاجتماعية. وبطبيعة الحال قضت هذه الحكومة أكثر من سنة وهي تراوح مكانها ولم تتقدّم قيد أنملة في معالجة أكثر الملفات إلحاحا. بل وبعد مضيّ هذه المدة اضطرّت إلى إجراء تغيير طفيف على طاقمها دون جدة في ذلك، علاوة على أنّ مصاعب الوضع ازدادت خطورة إلى أن أصبحت مرمى سهام النقد من كل حدب وصوب. فالمواطنون وأحزاب المعارضة والبرلمان ورئيس الجمهورية يتّفقون كلهم في سلبيتها وفشلها عند البعض، وعجزها أصلا عند البعض الآخر.

على من تتّكئ الحكومة ؟

11214078_978517562206301_4679933405679272682_n-640x411

إنّ وضع الحكومة مرتبط شديد الارتباط بوضع الرباعي الحزبي الذي شكلها وزكّاها وأوكل إليها أمر إدارة شؤون البلاد باسمه وبسياسته. ووضع الرباعي نفسه مرتبط إلى حدّ ما بحال الحزب الأول الذي يقوده أي نداء تونس. ويعلم الجميع ما حصل داخل هذا الحزب من صراعات أدّت إلى انقسامه شقّين ثم حزبين. ولم يتوقف تشظيته عند هذا فقط، إذ ما تزال الأزمة مستمرّة داخله وآخرها استقالة رئيس هيئته السياسية (رضا بلحاج) واتجاه النية إلى التخلص منه نهائيا هو وثلة ممّن يشاطرونه الرأي. وتأتي هذه التطورات على خلفية المساعي الجارية سرا وعلانية من أجل استيعاب رموز “التجمع الدستوري” القدامى (الزنايدي وجغام…) وتنصيبهم مناصب قيادية في النداء. وقد سبق ذلك تغيير في قيادة كتلته في البرلمان وفي رئاستها.

وعلى نفس الشاكلة تقريبا ومع مراعاة الأحجام والخصوصيات يعيش الاتحاد الوطني الحر أزمة مماثلة أدّت إلى حد الآن إلى هجرة أربعة من نوابه إلى كتلة نداء تونس بعد استقالتهم من الحزب والكتلة. ومن غير المعلوم ما إذا كانت ستتوقف الأزمة عند الحد أم لا.

أمّا حركة النهضة وإن حافظت في المشهد العام على تماسكها وانضباط صفوفها خصوصا وهي تستعدّ لمؤتمرها الحالي فهي تعيش هي الأخرى صراعا داخليا لا فقط حول مسألة “فصل السياسي عن الدعوي” وإنما أيضا حول عدد من القضايا السياسية الراهنة فضلا عن صراع الكتل والمجموعات في علاقة بمراكز النفوذ والقيادة.

الأهم من كل هذا هو تداعيات هذه الأوضاع على حالة الائتلاف. فقد سبق أن تعطّلت تنسيقيّته لأكثر من مرة سواء عند تسمية المعتمدين أو في علاقة ببعض الملفات الاقتصادية أو ببعض التصريحات السياسية لقادة الأحزاب المنضوية فيه (ياسين إبراهيم مثلا). لذلك ظهرت فكرة “التحالف الاستراتيجي” بين النهضة والنداء الذي عقدت بشأنه اجتماعات أثارت حفيظة “الحلفاء الصغار” (آفاق والوطني الحر). وفيما كانت الجهود جارية لتدارك الأمر اندلعت أزمة جديدة بين النداء والوطني الحر جرّاء ما أسماه هذا الأخير سطوا على نوابه وشرائهم بالمال. ونتيجة ذلك علّق الوطني الحر أعماله في تنسيقية الرباعي احتجاجا على خرق الاتفاق في منع تنقّل النواب من حزب في الائتلاف إلى آخر وطمعا في أن يراجع النداء موقفه من “افتكاك” النواب الأربعة الذين هاجروا إليه مؤخرا. وللتذكير فإنّ هذه الهجرة كانت قد أثارت خلافات بين الهيئة السياسية للنداء وكتلها في البرلمان نوعا من المزاحمة على قيادة الحزب. ولكن يبدو أنّ الأمر قد حسم في اجتماع المكتب السياسي الأخير الذي أقرّ احتضان رباعي الوطني الحر وقطع بالتالي كلّ أمل على هذا الأخير في استعادة أبنائه الضالين.

الحكومة في مهبّ المناورات

هل أصبحت أيام الحكومة معدودة؟ هذا هو السؤال الذي تطرحه أوساط متعددة ومتنوعة. وتفيد الأنباء التي تتناقلها وسائل الإعلام مؤخّرا أنّ النيّة تتّجه فعلا إلى إجراء تغيير على الفريق الحكومي دون انتظار الانتخابات البلدية كما راج من قبل. وبات من شبه المتأكّد أنّ بقاء الحبيب الصيد في القصبة مسألة وقت لا أكثر. ولم يخف رئيس الجمهورية رغبته – وإن بكثير من الحيطة – في إجراء هذا التغيير. لذلك بدأت الساحة السياسية تتداول أسماء البدائل المحتملة ويشتمّ من رائحة هذه الاحتمالات ضلوع قصر قرطاج في الأمر، ذلك أنّ الحديث يدور حول أسماء لها علاقة قرابة بالرئيس ومقرّبة منه. وهو ما جعل البعض يعلّق على أنّ منطق العائلات عاد لتدبير أمور الدولة وهيئاتها ومراكز النفوذ فيها. وإلى جانب ذلك لا يستبعد أن تكون الترتيبات الجاري إعدادها لمؤتمر النداء ولوضع اللمسات الأخيرة لقيادته سببا في إدخال تغييرات على فريق الحكومة سواء بقي الحبيب الصيد أم غادر.

والأكيد أنّ كلّ هذه العوامل تبقى منقوصة ريثما تفرغ النهضة من مؤتمرها وتحدّد خياراتها وترسم خطّتها في علاقة بالحكومة والمجلس (مكتب الرئاسة) وهو أمر لن يطول كثيرا وفق الكثير من التقديرات. فالأوضاع باتت على درجة من الصعوبة والتعقيد بما بات يستوجب القيام بعمل ما لإيهام الرأي العام بأنّ حركية ما تحصل ستجلب معها الجديد. ولكن الأكيد أيضا أنّ حركة النهضة ستستمر على نهجها المتّبع متى باحت الانتخابات الأخيرة بنتائجها، وهو أن تحكم فعليا دون أن تكون في صدارة المشهد.

أمّا الرّهان الأكبر فيبقى الانتخابات البلدية القادمة والتي يصحّ عليها: من يتحكّم في السّلطة المحليّة يتحكّم في دواليب الدولة والحكم.

التّغيير ضرورة ولكن

وبصرف النظر عن كلّ الحسابات والمناورات، فإنّ البلاد في حاجة ماسّة إلى تغيير عميق ومن زاوية الاستحقاقات الحقيقية أي من زاوية إصلاح مؤسسات الدولة والتسريع بترجمة الدستور إلى قوانين وأوامر ووضع خطة تنموية جديدة تعوّل على إمكانيات البلد وقدرات شعبه، خطّة تتّجه إلى استغلال المقدّرات المادية والاقتصادية المتوفّرة وتثمينها في مشاريع منتجة وخالقة للثروة ولمواطن الشغل وكافية لسدّ حاجة الاستهلاك الداخلي ولمواكبة القيمة المضافة. خطّة لتحسين البنية الأساسية وخلق مناخ الاستثمار العام والخاص في القطاعات ذات الأولوية كالفلاحة وقطاعات من الصناعة والخدمات. خطة تنمّي كلّ الجهات حسب خصوصيات كلّ منها وفي تكامل اقتصادي وطني. ومن الأكيد أنّ هذه الخطوة تشترط أوّل ما تشترط إصلاح منظومة الجباية ومكافحة الفساد وسوء التصرف والتحكم في القطاع الموازي وتطويق التهريب والنشاط اللاشرعي وغير المنظم واسترداد الدولة لممتلكاتها من أجل توفير الاعتمادات اللازمة والتخلي عن سياسة الارتهان للسلفة والديون المهينة والمعطّلة للتنمية أصلا.

إنّ التغيير بهذا الاتجاه يستوجب بطبيعة الحال حوارا واتفاقا بين القوى المعنية والمؤمنة به من الوسط السياسي والمدني بعيدا عن حسابات المقاعد البرلمانية ونسب التمثيل التي جاءت في ظرف غير الظرف الحالي. لأنّ هذا التمثيل مهما كانت مشروعيته القانونية فإنه أكّد بلا مجال للشك فيه قصوره عن إنجاز التغيير الذي تحتاجه البلاد اليوم. فالظرف الاستثنائي الذي تعرفه بلادنا على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأمني يتطلب فعلا حلولا استثنائيا بالمعنى الإيجابي للكلمة.

لا شك في أنّ من يتمترس وراء منطق “نتائج الانتخابات” سواء على سبيل الإيمان بالمسالك القانونية أو توظيفا لها بحسابات حزبية “سلطوية” ولا يقيم وزنا لضرورة مراعاة واجب الشجاعة والجرأة والتجديد للخروج من الأزمة والتي كما أسلفنا تهدّد بمخاطر أكبر وأشد، إنما يريد المحافظة على واقع الأزمة وتعفينها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×