الرئيسية / صوت الوطن / في وقت تستهدف فيه العدالة الإنتقالية مناضلات و مناضلين يروون ملحمة انتهاكات جسدية
في وقت تستهدف فيه العدالة الإنتقالية مناضلات و مناضلين يروون ملحمة انتهاكات جسدية

في وقت تستهدف فيه العدالة الإنتقالية مناضلات و مناضلين يروون ملحمة انتهاكات جسدية

انطلق يومي الخميس 17  نوفمبر الجاري أولى جلسات الاستماع العلنيّة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان منذ سنة 1955 إلى سنة 2013.

وبهذه المناسبة ارتأت جريدة “صوت الشعب” أنّ تورد، بداية من هذا العدد، عددا من الشهادات المختصرة لمناضلات ومناضلين ديمقراطيين وتقدميين سُلّطت عليهم شتّى أنواع المضايقات والتعذيب والمحاكمات الجائرة والسجون وعاشوا السريّة وطالت الممارسات القمعية عائلاتهم وأبناءهم وحتّى الأجنّة في بطون أمهاتهم.457

إلهام المؤدب الحمروني

 قضية حزب العمال سنة 1992 بقابس

 في الليلة الفاصلة بين 5 و6 نوفمبر 1992 وزّع مناضلو ومناضلات حزب العمال منشورا، بمناسبة ذكرى انقلاب 7 نوفمبر، تطرّق إلى الظروف الاجتماعية والسياسية في ظل النظام الدكتاتوري الحاكم.

الإيقاف والتحقيق: يوم 11 نوفمبر قدم عونان من فرقة الارشاد بقابس إلى المدرسة التي أعمل بها وأخرجاني من القسم. وتمّ اقتيادي مباشرة إلى منطقة الشرطة.

 تواصل التحقيق معي طوال يوم كامل تعرّضت خلاله إلى الضرب والسبّ والشتم والتهديد بالإجهاض لأنني حينها كنت حاملا في الشهر السادس. بقيت في المنطقة ثلاثة أيام رفقة الرفيقة نور الهدى ساسي التي كانت في حالة صحية سيئة باعتبارها أيضا كانت حاملا في شهرها الخامس.

وضعونا في زنزانة ضيقة لا يتجاوز طولها المترين وعرضها حوالي متر ونصف، دون تهوئة. لم يكن لدينا ما نأكل أو ما نشرب. نجلس بالتداول وننام واقفتين.

 كانوا كل صباح يأخذوننا إلى التحقيق ويطرحون علينا نفس الأسئلة ثم يطلبون منّا الإمضاء على محضر فيه اعتراف بالانتماء إلى جمعية غير مرخّص فيها وبتوزيع مناشير معادية للنظام وجمع أموال دون ترخيص.

المحاكمة: يوم 14 نوفمبر1992 تمّ إيداعنا بالسجن المدني بقابس بقرار من وكيل الجمهورية. تتالت الجلسات في المحكمة الابتدائية صوريّا، حيث لا يتمّ الاستماع إلى أقوالنا. ولا يمكننا أن نقابل المحامين، ليصدر الحكم في نهاية شهر ديسمبر بأربعة أشهر في حقّنا أنا ونور الهدى وسنة ونصف في حق بقيّة الرفاق، وتمّ تأكيد تلك الأحكام في الاستئناف.

السجن: في السجن غرفة واحدة أو ما يعرف بـ”الشمبري” لا تتسع سوى لـ12 فردا، في حين كنّا 26 امرأة. نخرج منها في السادسة صباحا إلى الباحة أو”الآريا”. ونظلّ واقفات، عرضة للبرد، إلى حدود الساعة الثانية بعد الزوال حيث يمكننا الدخول إلى “الشمبري” وتناول الطعام الذي يأتينا من أهالينا في”القفة” ثلاث مرات في الأسبوع.

 لقد تقاسمنا اللقمة والضحكة والغناء نحن وسجينات الحق العام اللاتي أنكرهنّ أهلهنّ. وخضنا عديد المعارك من أجل حقنا في إدخال الكتب وكتابة الرسائل ومقابلة أزواجنا المحكومين في نفس القضية وكذلك من أجل الدواء وعدم القيام بـ”الكرفي” ورفض ارتداء السفساري عند الخروج للمحكمة.

كان كلّ شيء ممنوعا في السجن، إضافة إلى الإهانة والمعاملة السيئة من قبل السجّانات اللواتي يتصرّفن حسب أهوائهن دون رادع إلى أن اصطدمن بنا وبمطالبتنا بحقوقنا.

تحت ضغط “منظمة العفو الدولية” و”الرابطة التونسية للدفاع على حقوق الإنسان” أعلن بن علي يوم 11 جانفي 1993 عيدا وطنيا ” للأسرة والطفل” وأصدر عفوا خاصا أطلق بمقتضاه سراحي أنا ونور الهدى.

عبد المومن بلعانس

ناضلت ضدّ الدّكتاتوريّة والعمالة والظّلم وسأواصل

دخلت الجامعة سنة 1975 وانخرطت في النضال بقيادة الهياكل النقابية المؤقتة للاتحاد العام لطلبة تونس. كنا نناضل من أجل الحريات وفي مقدمتها حرية العمل النقابي ومن أجل تحسين ظروف الطلبة المادية والدراسية. وكانت محاكمات المناضلين وملاحقتهم متواصلة، وكنا كثيرا ما نقف في باب الكلية لنجد قائمة من المناضلين والمناضلات وقع طردهم من الكلية ومنعهم من الدخول.

أول مرة تمّ إيقافي في فيفري 1977 عند مشاركتي في مظاهرة طلابية جابت عديد شوارع العاصمة. قضيت 10 أيام موقوفا في ثكنة “بوشوشة” قبل اقتيادي إلى وزارة الداخلية حيث تمّ عرضي على القيس ثم نقلي إلى مسقط رأسي مدينة المكنين حيث فرضت عليّ الإقامة الجبرية حتى آخر السنة الجامعية ودون محاكمة.

وبعد ذلك تمّ افتكاك جواز سفري ومنعي من السفر إلى بريطانيا في إطار تربص دراسي بحكم أنني كنت أدرس اللغة الإنجليزية. ومثلت أمام مجلس التأديب وتم حرماني أكثر من مرة من القيام بامتحان آخر السنة.

وفي أواسط الثمانينات ساهمت في تأسيس حزب العمال. وانطلقت آنذاك مرحلة جديدة من القمع والملاحقة، حوكمت بصفة غيابية في بداية التسعينات وبقيت في حالة فرار.

تمّإيقافي، يوم 30 نوفمبر 1995، واقتيادي إلى وزارة الداخلية وبالتحديد إلى الطابق الثالث حيث تعرّضت إلى شتّى أنواع التعذيب (تعليق، صعقات كهربائية، بانو..).

يوم 19 ديسمبر تمّ نقلي إلى السجن المدني بتونس (سجن 9 أفريل). وكنت حينها غير قادر على المشي جرّاء التعذيب الوحشي الذي تعرضت إليه. طالبت حاكم التحقيق بعرضي على الفحص الطبي لكنّه رفض ذلك.

وخضت، يوم 5 فيفري 1996، إضرابا عن الطعام فتمّ نقلي إلى سجن برج العامري.

يوم 20 مارس 1996 تمّ تمتيعي بالسراح المؤقت لكن مدير السجن آنذاك كان له رأي آخر فقد أعلمني أنه لا يمكنه إطلاق سراحي بتعلّة أنني محكوم غيابيا من قبل المحكمة الابتدائية بالمنستير. لكنّ ما ادّعاه مدير السجن عار من الصحّة، لأنني سبق وأن اعترضت على ذلك الحكم الغيابي ولم أكن محكوما بالتنفيذ العاجل وكنت سأمثل أمام المحكمة في حالة سراح.

رغم ذلك لم يقع إطلاق سراحي إلاّ يوم 17 أفريل لأنني كنت سأمثل أمام محكمة المنستير في اليوم الموالي. وقد مثلت أمام المحكمة الابتدائية المنستير وبقيت في حالة سراح.

في مارس 1997 تمّ إيقافي من جديد وعلمت أنّ مدير السجن المدني ببرج العامري لفّق لي تهمة جديدة تمثلت فيما سماه “ثلب الصحافة” وحوكمت من قبل محكمة أريانة بسنة سجنا. استأنفت الحكم وقبل جلسة الاستئناف تم نقلي إلى سجن الناظور. وهذا السجن، كما يعرف الجميع، مُخصص للمحكومين أحكاما باتة وعادة ما تكون أحكاما بالسجن لمدة طويلة وهو ما لا ينطبق مع حالتي.

 ولكن للإدارة رأي آخر، فقد تمّ نقلي إلى سجن الناظور لأتعرّض للضرب والتنكيل والإقامة بـ”السيلون”. ولم يقع إعادتي إلى سجن تونس إلاّ عند تعيين جلسة الاستئناف بمحكمة الاستئناف بتونس.

في مارس 1998 تمّ إطلاق سراحي لتتمّ مداهمة منزلي من جديد في فيفري 1999، وكنت قد تزوجت وكانت زوجتي حاملا في شهرها السادس. تمّ اقتيادي واقتيادها إلى “بوشوشة” حيث بقيت هي ليلة كاملة على كرسي قبل إطلاق سراحها. في اليوم الموالي تمّ اقتيادي إلى وزارة الداخلية. وتمّ إثر ذلك الحكم عليّ بأربع سنوات وبسنة ونصف سجنا في قضيتين منفصلتين.

بعد إطلاق سراحي تواصلت الملاحقة والمراقبة وحتى اقتحام منزلي وتفتيشه في ساعة متأخرة من الليل.

وطالت المضايقات والهرسلة أخي ميلاد الذي كان يزورني باستمرار في السجن وشمله الإيقاف وتمّ تفتيش منزله في حضوره وفي غيابه.

بقيتُ ملاحقا إلى حدّ اندلاع الثورة في 14 جانفي 2011. ومازلتوأفراد عائلتينعاني من آثار التعذيب والسجن والملاحقة.

ولست نادما..

 نجوى الرزقي586

 يوم 01 نوفمبر 1994 كان يوما محدّدا في حياتي أُوقفت وعُذّبت مع مجموعة من مناضلي الاتحاد العام لطلبة تونس ومناضلي اتحاد الشباب الشيوعي التونسي. وحوكمت بعد ثمانية أشهر من الإيقاف بسنتين وأربعة أشهر، قضّيتها كاملة متنقّلة بين سجن سيدي أحمد بالقيروان وسجن المسعدين وسجن النساء بمنوبة.

وبعد خروجي من السجن بدأت ملاحقتي وهرسلتي من أجل الامتثال للمراقبة الإدارية التي لم يصدر بشأنها حكم قضائي.

في فيفري 1998 وبعد الهجمة الشرسة التي شنّها نظام بن علي على حزب العمّال واضطرار عدد من قياداته إلى الدخول في السرية من أجل مواصلة النضال (حمه الهمامي، عمار عمروسية، عبد الجبار المدوري، سمير طعم الله، الفاهم بوكدوس…) تمّ تشديد المراقبة عليّ وعلى منزلي وتمّ إيقافي عديد المرات رفقة ابني مقدام الذي لم يتجاوز الشهر من عمره من أجل انتزاع معلومات والوصول إلى مكان زوجي عبد الجبار المدوري.

لقد ظلّ الجلاّدون إلى حدود اليوم دون محاسبة حتى أنّي أرى اليوم في الشوارع أغلب الذين عذّبوني وعذّبوا رفاقي، بل بالعكس حظي أغلبهم بترقيات بعد الثورة.

ومن هنا كان إصرارنا على استكمال مهام الثورة واستكمال مسار العدالة الانتقالية بركائزه الثلاث: كشف الحقيقة، المحاسبة وردّ الاعتبار للضحايا، المصالحة.

إنّ التمسك بكشف الحقيقة والمحاسبة ليس الغاية منه التشفّي، بل تجاوز أخطاء الماضي وضمان عدم تكرارها.

عمار عمروسيّة: ليس للحرية ثمن

وحدها الصّدف، من تضع المرء في طريق مغاير للمألوف والسّائد، ووحدها القناعات الرّاسخة والإصرار دون حدود على النّصر ومعانقة الحريّة تدفعان المرء إلى الثبات في الطّريق الطويل وقهر الصعاب.

في شتاء سنة 1974 اجتاحت فيضانات عارمة مدينة قفصة كانت نتائجها أضرارا جسيمة على جميع عناصر المحيط، لعلّ أكثرها جسامة ذاك ما اتّصل بالجانب البشري.

فالصّدمة العنيفة التي هزّت كيان طفولتي (14 سنة) وأبناء جيلي بجهة قفصة تمثّلت في جرف المياه الطوفانية لوادي “بيّاش” شاحنة عسكريّة بها العشرات من التلاميذ وأستاذ اللغة الفرنسيّة مع العسكريّين الثلاثة. لقى الجميع حتفهم وظّل بعضهم مفقودا حتّى هذه الساعة.

جرفتهم السيول بعد أن ظلّوا عالقين دون محاولة إنقاذ لمدّة ساعات، والفظيع أنّ أمهات العالقين وأقاربهم يرقبون مصيرهم المحتوم بما أنّ “وادي بيّاش” يشقّ مدينة قفصة.

هذه الحادثة الأليمة وضعتني في الطّريق الطويل، والبداية كانت تكاثر الأسئلة ضمن عقل طفولتي أضحى مغرما حتّى النهاية بالرّفض والتمرّد وملامسة الاختلال الجهوي الرهيب الذي قام عليه نظام الحكم. اندلعت المسيرات الغاضبة من الأهالي، وكنت واحدا منهم.

هدأت الحركة الاحتجاجيّة وعادت الحالة إلى ركودها، إلاّ أنّ الطّريق صحبة قلّة آخرين استهواني، فبدأت مناوشات مع السلطة في المعهد وخارجه ضمن تفاعل مع الذهنية السائدة جهويا، ومعطيات عامّة، كثيرا ما طبعها اليسار الثوري الجديد.

امتدّت فترة المناوشات هذه حتّى سنة 1979 قابلها، دون حصر أيضا، محاولات ردع “خفيفة” من قبل نظام الحكم، فيها الترهيب والرّفت المؤقّت من الدراسة وتحريض العائلة…

في مطلع 1980، وبعيد عملية قفصة العسكريّة وإثر إضراب تلمذي ومسيرة سلميّة ضدّ عقوبة الإعدام التي كانت في انتظار رجالات العملية، بدأت من جهة ملامح طريق الصدمة أو الصدفة تتوضّح أكثر وتأخذ أبعاد الوعي العميق بضرورة التغيير والثورة، ومن جهة أخرى انتقلت معاملة نظام الحكم إلى دوائر أكثر قسوة وهمجيّة، فيها الإيقاف المطوّل بمراكز البوليس صحبة مجموعة من رفاقي التلاميذ، وفيها التعذيب الجسدي الموغل في الوحشيّة (تعرية، تعليق، كيّ بالسجائر، ضرب بالعصيّ…) وانتهت إلى التجنيد القسري بمعتقل “رجيم معتوق” سيّء الصيت، وما رافقه من حرمان دراسي مدّة عام كامل.

كلّما تقدّمت في الطّريق زادت وحشيّتهم، وكلّما أوغلوا في محاولة إلحاق الأذى وتشديد العقوبات زادت قناعاتي بالطّريق والراية التي نمسكها.

والحقيقة أنّ ملامح الطّريق أضحت أكثر وضوحا، فالقناعات ازدادت رسوخا ضمن العمل المنظّم، والإرادة تصلّبت أكثر مع رفيقات ورفاق آخرين عملوا بتواضع كبير وتفاني أكبر من أجل وضع أسس التنظيم الثوري أداة تحقيق أهداف التغيير الجذري وتعبيد الطريق أمام بناء تونس الجديدة.

 

 المواجهة المباشرة والقمع المستمر

تحت الأرض وفي ظروف السرية المطلقة ولد التنظيم المنشود “حزب العمال الشيوعي التونسي”، وفي ظروف أزمة اقتصاديّة وسياسية واجتماعية خانقة، شقّ طريقه وسط أصحاب الحلم بغدٍ جديد وعالم آخر أكثر عدلا وإنسانيّة.

كالجند كان وكان حاملو المشروع، كالنمل كنّ وكانوا يعملون لتوسيع نفوذ “الحزب” وسط الجماهير. يكافحون دون ضجيج، تحت الأرض يعزّزن الصفوف بالوافدات والوافدين الجدد.

حاملات وحاملو الحلم يتكاثرون، واستحقاقات المعارك المختلفة على كلّ الأصعدة تتطلّب تنظيم المعارك وخوضها في الصفوف الأولى.

ولأنّ للنضال ضريبة، شرع البوليس بجهة قفصة، إثر توزيع قصاصات تدعو إلى مقاطعة الانتخابات التشريعيّة الصورية أواخر 1986، في حملة إيقافات طالت البعض من شباب “اتحاد الشباب الشيوعي التونسي” وتوسّعت لتطال مناضلي “الحزب”. فكان الإيقاف بطريقة همجيّة (وسط قاعة التدريس) صبيحة 5 جانفي 1987 واستمرّ أكثر من شهرين في زنزانات فرديّة تمّ نقلي فيها من مكان إلى آخر لم أتمكّن من رؤية رفاقي إلاّ بعد إيداعنا السجن لاحقا وبعد مشاكل كبيرة بالسجن المدني بقفصة.

استمرّ الإيقاف التحفّظي أشهرا في ظروف شديدة القسوة جرّاء برودة “الزنزانة” ورطوبتها العالية، وجرّاء الحرمان من رؤية الأهل وتحمّل البقاء طوال المدّة بنفس الملابس.

تنضاف إلى ذلك الضغوط المعنوية وسوء المعاملة من قبل أعوان البوليس السياسي والغياب عن الولادة الأولى لزوجتي، تلك الولادة التي كانت بمثابة الحلم الجميل خصوصا وأنّ المولود “بنت” كما كنت أشتهي منذ سنوات.

مثّل إيقاف “مجموعة قفصة” أيّامها الحدث، لأنّه مثّل الوقوع الأوّل لمناضلي “حزب العمال” و”اتحاد الشباب” في قبضة البوليس وانتهى بحكم قضائي بسنة سجن لبعضنا وأحكاما أقل لآخرين.

خرجت مع رفاقي بعد انقلاب 7 نوفمبر ضمن عفو رئاسي، جمعت” ذاتي” ونظّمتها لمواصلة الطريق بعزيمة أشدّ مستفيدا من دروس تلك التجربة.

 

 

الملاحقات المستمرّة

منذ الإيقاف الأخير أضحت المعركة مع الدكتاتورية مكشوفة بالنسبة إليّ، خصوصا وأنّ نظام الحكم، رغم خطابه الديماغوجي حول “العهد الجديد” أقدم على مواصلة حرماني من حقّ العودة إلى الشغل وأردفه حتّى في أوج النعيق المزيّف على “الانفتاح السياسي”. فقام عام 1989 بعد نشاط مكثّف لحزب العمال الشيوعي بالجهة إلى شنّ حملة إيقافات واسعة طالت رفاقا ورفيقات جدد. وتمكّنت للمرّة الأولى من الدّخول إلى السريّة لمدّة تجاوزت أربعة أشهر انتهت بصدور الحكم بعدم سماع الدّعوى والإفراج عن الموقوفين.

وبعد أشهر قليلة تمّ إيقافي وإيداعي السجن على ذمّة قضيتين: واحدة بتهمة الانضمام إلى جمعيّة غير مرخّص فيها وتوزيع مناشير باشرتها المحكمة الابتدائيّة بقفصة، والأخرى تحت عنوان مسك لقطه (دواء للعراق الشقيق أثناء العدوان الأوّل) باشرتها ناحية قفصة.

بعد أشهر قليلة، خرجت من السجن إلّا أنّ أعين البوليس ظلّت مفتوحة تجاهي وتجاه عائلتي الموسّعة، التي طالتها أضرار كثيرة يصعب حصرها الآن.

ومع انتهاء حرب الخليج الأولى، ارتفعت وتائر القمع، فكان نصيبي مرّة أخرى في 5 نوفمبر 1992 الملاحقة والحكم الغيابي بالسجن في قضيّة “الحزب” بقابس.

عشريّة القمع الأسود والسريّة المكافحة

مثلت بداية التسعينيات بداية فترة حالكة أهمّ مميزاتها تزامن القمع النوفمبري مع تراجع فعاليات النّضال الاجتماعي والسياسي. فالدّخول إلى السريّة ومواصلة النضال بأشكال جديدة لكسر شوكة الديكتاتوريّة كان خيار الحزب للإبقاء على جذوة المقاومة وتغذيتها بتحدّي القبضة الأمنيّة الثقيلة التي بدا لها أنها أحكمت قبضتها حول المجتمع وكلّ فعالياته. فالإفلات من قبضة البوليس والاستمرار في السريّة كان تحدّيا كبيرا لشخصي وغيري من الرّفاق.

والحقيقة أنّ التخفّي ببلادنا في تلك الأوضاع كان من الأمور التي تبدو مستحيلة، إلاّ أنّها كانت ممكنة بفضل إسناد شعبيّ شديد العطاء والشّجاعة وكثير التواضع والتفاني، إضافة إلى انضباط عال هو أوّلا وقبل كلّ شيء ثمرة تربية حزبيّة راقية ومتمرّسة. فالسريّة في جوانب عديدة أكثر قسوة من السجن وعذاباته. فالأخير له نوع من الاستقرار، أمّا الأولى فلا استقرار فيها. والأخير له بداية ونهاية معلومة، أمّا الأولى فلا نهاية محددة لها، إضافة إلى اتساع الصلات بالخارج قياسا بالأولى.

 فالسريّة أشدّ ضيقا من السجن وأشدّ وطأة منه. تزداد وطأتها كلما طالت المدّة وأضحت عشريّة كاملة (من 1992 إلى 2002) تخلّلتها صنوف عديدة من أقسى أنواع الحرمان الذي بدأ بجزئيات بسيطة كانعدام الطعام لأيام والماء وغياب الدواء أثناء المرض، ويصل إلى درجة أكثر إيلاما كالبعد عن الأطفال والعائلة، واقتصار التواصل على شخص واحد لمدّة أشهر.

وتغدو الأمور أكثر عسرا عندما يضطرّ الشخص الوحيد الذي يربطنا بالعالم الخارجي إلى الانقطاع… فتشتدّ العزلة ويتعاظم التوق الى العالم الخارجي وحتى إلى ما كان سيّئا فيه. يشتدّ الاختناق في مكان ضيق ويصبح حقّا جحيما حقيقيا عند نزول عصا القمع على الإخوة والأقارب وتزداد المضايقات حتى على بناتي وهنّ في الأقسام الأولى من الدّراسة.

  

انتفاضة الحوض المنجمي والعودة الى السريّة

منذ انطلاق الشرارة الأولى لانتفاضة الحوض المنجمي 2008، ارتفع نسق المضايقات البوليسيّة وتزايدت التعديّات الجسديّة ضدّي وانتهت إلى إصدار بطاقة إيقاف في شأني، ما اضطرّني إلى العودة إلى السريّة مجددا لفترة تجاوزت 6 أشهر وانتهت بعد أن تخلّت دائرة الاتّهام الجنائيّة عن التهم الموجّهة إليّ، فاتخذ العنف الجسدي والمحاصرة أبعادا أشدّ خطورة.

 

العودة إلى الإيقاف والسّجن

مع أوّل مسيرة سلميّة انتصارا لأهلنا في سيدي بوزيد ضدّ همجيّة النظام، وبعد اجتماع شعبيّ وسط مدينة قفصة يوم 27 ديسمبر 2010، تمّ إيقافي ونقلي إلى العاصمة حيث قضيّت 5 أيام موثوق اليدين على كرسيّ بمركز الأمن، وبعدها تمّ إيداعي مجددا السجن المدني بقفصة.

والحقيقة أنّ تلك الأيام كانت الأصعب في حياتي، فالثورة التي قضيت عمرا من أجل الإسهام فيها تتوسّع بالبلاد حتّى بالحد القليل من الأخبار التي تصلني. ومع ارتفاع وتائر الاحتجاجات ازدادت معاناتي وحاولت مع الرفيق زهير الزويدي السجين آنذاك إلى تنظيم تمرّد بالسجن المدني بقفصة وهو ما تمّ فعلا، فتمّ مواجهته بالقنابل المسيلة للدموع وحجزنا المستمر في الغرف.

وقع إطلاق سراحي 3 أيام بعد هروب بن علي وحفظ القضيّة …63

عفاف بالناصر

حتى لا يحدث ما حدث مع أيّ إنسان

 يهمّني، وأنا أتلمّس ما ترجّع في ذاتي وما تستطيع الشهادة أن تستنطقه رغم الحصانة الذاتية وأنت تحاول أن تتسامى على الإحساس بالظلم والعسف، يهمّني جدّا أن أضع كلّ هذا بين أياد أمينة تترفّع عن المتاجرة والتشفي.

أوّل عهدي وبداية تجربتي مع الاضطهاد انطلقت وأنا بنت السابعة عشر، وجدت نفسي أغادر قسرا ولاية قفصة بعد أن طردت من كلّ معاهدها على خلفية نشاط تلمذيّ وبدايات فكرة بعث لجان تلمذيّة. التحقت بمدينة القيروان حيث أتممت دراستي بعيدا عن والديّ وتحت مراقبة بوليسيّة وفي ظروف صعبة كادت تنسيني آنذاك أنني مازلت طفلة ومازلت أحلم لولا إيماني وقتها بضرورة أن أصنع لنفسي مقاومة ذاتية ضدّ الانحراف والضياع والخنوع. تحصّلت على شهادة الباكالوريا وسجّلت في كليّة رقادة، عندها بدأت تنضج التجربة وتتوضّح الطريق والخيارات: حزب العمال وبعده الاتحاد العام لطلبة تونس. وكان عليّ أن أدفع ضريبة هذه الخيارات: مراقبة بوليسية لصيقة سواء واضحة أو عبر طالبات مأجورات من طرف التجمّعيين والبوليس في المبيت الجامعي.

تعرّضت في عامي الأول إلى عدّة اعتداءات من طرف طلبة التجمّع، وإلى مضايقات بوليسية وإلى مداهمات ليلية لمقرّ سكناي وإلى إيقافات متكرّرة كنت أهدّد فيها بالحرمان من الدراسة… وحينها تأكدت أنني أسير في الطريق الصحيح: معارضة النظام وبشدّة والانتصار لقضايا الحقوق والحريّات وبشراسة.

1 نوفمبر 1994 وعلى إثر الاحتجاجات التي شنّها الطلبة في أغلب الأجزاء الجامعية احتجاجا على ما سمّي بإصلاح التعليم العالي ونظام “الخراطيش” تحت راية الاتحاد العام لطلبة تونس كنت من أبرز الناشطات آنذاك في كليّة رقادة، يومها تمّ اقتيادي إلى مركز الحرس الوطني “بنهج صفاقس” بعد أن أُخرجت من غرفتي في المبيت الجامعي زحفا على الركبتين وجرّا من الشعر وترهيبا بالعصي والكلاب (لمسافة 800 متر تقريبا) إلى مركز الأمن الجامعي ثمّ عصابة على العينين وسيّارة مجنونة السرعة إلى مركز الحرس المذكور أنا وثلّة من الرفاق والرفيقات، وتمّ استقبالنا بحفل من الصفع والشتم والتهديد والترهيب. كنت أظلّ ملقاة على مقعد خشبي في البهو، راحة قصيرة وأعود إلى غرفة التعذيب وكنت أُجلد إلى أن تغطّي الدماء ملابسي الممزّقة بأنواع مختلفة من العصيّ والأقضبة أُجلد حدّ الإغماء، ثم يُصبّ الماء المثلّج في برد شهر نوفمبر، ثمّ العودة من جديد والتهديد بالتنكيل بالعائلة وبالاغتصاب. تفنّن الجلادون في التنكيل بي وببقية الرفاق وبقينا على هذه الوتيرة 8 أيام كاملة عجزوا فيها عن نزع اعترافات بتهم ملفّقة وخطيرة وباطلة.

حوّلونا إلى سجن “سيدي أحمد” بمدينة القيروان حيث استقبلونا في اليوم الأول استقبالا ثقيلا، ضرب وشتم واستهزاء وعقوبات. وكانوا حين ندافع عن أنفسنا ونذكّرهم بأنّ ليس لديهم الحق يُمعنون في محاولات الإذلال والتنكيل بنا وبعائلاتنا التي ذاقت الأمرّين من بُعد المسافات والمعاملات الحيوانيّة.

بقينا على تلك الحالة 8 أشهر ثمّ أخذنا إلى سجن “المسعدين” بمدينة سوسة أين قضينا شهرا كاملا نحضر سلسلة من المحاكمات الجائرة، ثمّ نطقوا بالحكم 5 سنوات لبعض الرفاق وعامين و4 أشهر بالنسبة إليّ.

اقتادوني إلى سجن” منوبة، دار البايّ” للنساء أنا ورفيقتي نجوى الرزقي، وكالعادة الاستقبال الثقيل من مديرة السجن والأعوان وحتى المشرفات على الغرف وبعض السجينات المأجورات. وبدأت رحلة المعاناة: التعذيب النفسي للسجين وللعائلات، العقوبات العزل عن بقية السجينات، الحبس الانفرادي، المنع من الزيارة والقفة والعبث بمحتوياتها وسرقة بعضها، المنع من القراءة والكتابة والرسائل، ضرب الاستقرار النفسي بالتنقل القسري بين الغرف، الضغط ومحاولات الإذلال البشعة كمحاولة الإجبار على التحية وعلى “الكورفي” دون التوقف عن الاعتداءات الجسدية، رغم أنّ ذلك يمنع شكليا في قانون السجون.إلاّ أنّه كان يمارس بشكل يومي ودون خشية وبتحريض من المسؤولين رأسا.

قضيت عامين وأربعة أشهر كاملة وخرجت يوم 1 مارس 1997 أعاني من عدّة أمراض وأضرار:فتح عميق في شفتي السفلى وكسر في السن الأمامي، التهابات في المفاصل، مرض الأكزيما، تشنجات في أعصاب الجهة اليسرى من الوجه… ولكن بعزم كبير وروح انتصارية عالية ففي النهاية انتصرت لأنني لم أمكّنهم من كسر الإصرار العنيد للعائد على البقاء والمواصلة. أحسست بذلك عندما عدت إلى مقاعد الدراسة وأتممتها بنجاح، أستاذية ورأس مرفوعة رغم أنّ رئيس مركز الأمن الجامعي عندما عدت سخر مني وقال بالحرف”كي تنجح هيا حاسبني” لم أحاسبه. ولكنّني أريد أن أحاسبه هو وزمرة الجلاّدين الذين تسبّبوا في مآسي، في ثكل ويتم وفجيعة وفقد ويأس وانتظار أمهات وأبناء هذا الشعب.

لم أحلم كثيرا بالعمل لعلمي آنذاك بمصير أمثالي من الذين “ليسوا معهم” لكنّني فرحت كثيرا عندما طرح ملفي من قبل نقابة التعليم وقُبل على أساس أن أشتغل بالتعليم الأساسي وعّينت مجدّدا في مدينة القيروان وذهبت لاستلام عملي هناك واتصلت بمندوبية التعليم حتى أعرف في أيّ مدرسة لكنهم أعلموني أنّ الوزير سيّء الذكر “صادق القربي” قد تراجع عن الانتداب لسبب وحيد هو أنني معارضة…

طالبت لمدة عام كامل بحقي واتجهت إلى كل الجهات المعنيّة ولكن لا مجيب فاضطررت لأن أخوض إضراب جوع (كنت في تلك الفترة متزوجة من الصحفي الملاحق الفاهم بوكدّوس). دام إضراب الجوع 9 أيام وقطعته لتفطّني بأنّني أحمل جنينا في شهره الثاني، وبالرغم من ذلك فقد فقدته في الشهر التاسع وفقدت معه كلّ أمل في الإنجاب…

لم استكن للبطالة وللظلم وبعثت مشروعا صغيرا أنا وزوجي (عطريّة) بمساعدة العائلتين، وأسّست صحبته وصحبة ثلة من المعطلين “لجنة المعطّلين عن العمل بقفصة” وواصلت نضالي صلب هذه اللجنة: اعتصامات وإضرابات جوع تحت هرسلة يومية من البوليس واعتداءات وإيقافات وسرقات للمتجر الذي أعمل به وحتى مضايقات للأهل والأجوار والأصدقاء (اضطُررت بطلب من المالك للمنزل الذي اكتريه وبضغط من البوليس إلى التنقل إلى 3 منازل في مدّة وجيزة).

اندلعت انتفاضة 2008 بالحوض المنجمي وقد قمعت بقوة السلاح وتورّط زوجي في قضيّة الوفاق ومرّ من السريّة (عام 7 أشهر) إلى السجن 7 أشهر، وكنت في تلك الفترة الممتدّة بين 2008 و2011 أتعرّض إلى أبشع الاعتداءات (موثّقة بالصور والقضايا المرفوعة) والملاحقات الهمجيّة البوليسية التي لم تنته إلاّ مع اندلاع ثورة 14 جانفي 2011.

هذه مجرّد خطوط موجزة لتجربتي مع الاضطهاد، فلعلّها تخرج عن الذاتية لترسم ملامح حياة عشتها وعاشتها العديد من نساء تونس. لعلّها تصبح في المستقبل أداة إضافية للنضال ضدّ البشاعة والتنكّر للأدنى من حقوق الإنسان من طرف نظام يحنّ له البعض من قصيري الذاكرة.لعلّ هذه التجربة التي أوجزتها في بعض سطور ترسم كذلك ضحكة هازئة في وجه الطّغيان والمتسلّطين الذين سيأتون ربّما في ما بعد وتمنع من أن يحصل ما حصل مرّة أخرى مع أيّ إنسان.

لطفي الوافي  

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

ستة عشر + 20 =

إلى الأعلى
×