الرئيسية / صوت الثقافة / السّياسة الثّقافيّة في تونس: أيّ مشروع بديل؟
السّياسة الثّقافيّة في تونس: أيّ مشروع بديل؟

السّياسة الثّقافيّة في تونس: أيّ مشروع بديل؟

تمثّل السّياسة الثّقافيّة في كلّ دولة مجموع التّصوّرات الكبرى والاستراتيجيات التي تستهدف صياغة منتوج ثقافي يشكّل الشّخصيّة الأساسية في أبعادها المختلفة. ولعلّ هذه التّصوّرات في تونس، ومنذ الخمسينات من القرن الماضي، كثيرا ما تَجاذبتها إشكاليّة المشروع المجتمعي المنشود، خاصة أمام حضور اتّجاهين أو توجّهين عامين: اتّجاه تحديثي عقلاني وآخر تقليدي ديني.untitled-2

إنّ معضلة المشروع المجتمعي وصراع الهويّة والاتّجاهات والتّطلّعات الذي طرح بحدّة إثر “الثّورة” مباشرة، بكلّ تلك التّناقضات والصّراعات، خصوصا بعد وصول الإسلام السّياسي إلى الحكم في حكومة التّرويكا، لم تكن جديدة على بنيتنا الثّقافيّة، بل هي إعادة لسيناريو قديم وبنفس آليّات الصّراع الرّمزي والمرجعي: بين اتّجاه يؤسّس “لدولة وطنيّة” ذات مشروع تحديثي عقلاني، واتّجاه تقليدي ديني يؤكّد على الهويّة كمجال للصّراع والتّمايز. فالتّناقض الصّارخ بين مشروعين لنمط المجتمع المنشود في مرجعيّاتهما وتصوّراتهما للمجتمع والثّقافة، يبدو أنّه أهمّ ما يطبع مراحل التّغيير والتّأسيس في تونس. فمثلما كانت الخمسينات من القرن الماضي مسرحا للتّوتّر والصّراع على طبيعة المشروع المجتمعي، اعتبرت التّجربة التّونسيّة الجديدة إثر 14جانفي عنواناً للانقسام الاجتماعي، ومصدراً لتنامي خطاب التّكفير والعنف والكراهيّة والتّطرّف الدّيني، ليرتفع منسوب العنف الاجتماعي بين النّاس، ويحاكم الفكر الحرّ،وتدان الحرّيات الأكاديميّة والابداعيّة، من خلال الاعتداءات التي طالت المفكّرين والمثقّفين والإعلاميين والفنّانين. وهي وضعيّة تحتدّ كلّما كان النّظام السّياسي في مأزق يهدّد بنسف مشروعيته في علاقة بالحراك الاجتماعي. إنّها حالة مركّبةبين معادلتين: معادلة أولى تعبّر عن تباين صارخ بين ذهنيّة التّحديث المسقط والتّسلّطي في الخطاب السّياسي السّائد، وذهنيّة أصوليّة تستمدّ مشروعيتها من ثقافة تقليديّة متماهية مع المزاج العام للغالبيّة البسيطة. ومعادلة ثانية تعبّر عن تحالف ضمني ومعلن في آن واحد بين المرجعيتين المتناقضتين، وذلك في إطار التّرضية السّياسيّة وتحييد الصّراع بينهما بهدف ملأ الفراغ الفكري والايديولوجي، كما يحدث في مصر وتونس على حدّ سواء، ليتحوّل الاتّجاه التّقليدي إلى مكلّف بمهمّة تصفية الحسابات مع الباحثين والمفكّرين، إمّا بالاغتيالات أو بالتّضييقات والملاحقات مثلما يحدث الآن مع اسلام البحيري وسيّد القمني وآمال القرامي رغم خروج الإسلام السّياسي من الحكم.

إنّ العودة إلى نفس المربّع دائما، حول مسألةالصّراع التي أَطْلَقَ عليه البعض حديثا مفهوم” التّدافع الاجتماعي”، ووجد صداه في توطئة دستور2014، وما حفّ به من عنف وتطرّف وتكفير ودعوات إلى “السّحل” في الطّريق العام، والتّهديد “بالقطع من خلاف” لمجرّد الاختلاف في الرّأي، ليست إلاّ تعبيرا عن فشل تجارب التّحديث المسقطة بمنطق الغَلَبَةِ دون حسْمٍ.لذلك يذهب البعض إلى اعتبار التّحديث أو” التّنوير العربي قد وُلدَ وتطوّر داخل إعاقة موضوعيّة…”(فيصل درّاج، “في معنى التّنوير”، المستقبل العربي، العدد315، ماي 2005.).

فالخطاب السّياسي، ومنذ الخمسينات، وجد نفسه أمام حالة مركّبة تلفيقيّة في صياغة المشروع التّحديثي(المنصف ونّاس، الدّولة والمسألة الثّقافيّة في تونس، ط1، دار الميثاق، بيروت،1988.). لأنّه بالقدر الذي ساير فيه الرّأي العام والتّركيبة الذّهنيّة والثّقافيّة التّقليديّة السّائدة في المجتمع، خوفا من الصّدام بين الدّولة والمجتمع، حاول تركيز برنامج يبدو تنويريّا في التّوجّه حين استهدف التّعليم والثّقافة والمرأة. وقد تجلّى ذلك من خلال استيعاب التّعليم الدّيني وإدراجه في مناهج عصريّة من حيث المحتوى والطّرق والبرامج، وصياغة مجلّة الأحوال الشّخصيّةبما خلّفته من جدل طويل. لذلك يبدو لنا المشروع التّحديثي الذي قادته الدّولة ونخبتها العصريّة، غير قادر على استيعاب هواجس غالبيّة الفئات والشّرائح الاجتماعيّة، وعاجزا تماما عن التّعبير عن تطلّعاتها. الأمر الذي يمكن أن يفسّر عودة نفس الإشكاليّة إلى الانفجار من جديد، إثر14 جانفي، وبمجرّد توفّر نفس الشّروط السّابقة. حيث عدنا إلى دائرة الجدل ذاتها حول المادة الأولى في الدّستور الجديد، وقضايا المرأة والإبداع الثّقافي ومنظومة التّربية والتّعليم التي بدت مهدّدة بمشاريع غريبة وافدة علينا من ثقافات أخرى.

إنّ الصّراع على المشروع المجتمعي وهويّة البلاد يعتبر من أبرز المعضلات التي لم تحسم، ولم تجد طريقها إلى الحلّ النّهائي.وهي المعضلة التي لا تزال تطرح من جديد في مُدخلات أيّ مشروع ثقافي منشود وبكلّ تلك التّجاذبات التي وقع تكريسها في دستور، يعتبر ضبابيّاويحتمل كلّ التّأويلات، وستكون حاضرة في أيّ مشروع قانون سيصاغ مستقبلاً في إصلاح المنظومة التّعليميّة أو في الثّقافة والإبداع أو في أيّ مجال يحتمل التّأويل في الاتّجاهين، رغم كلّ محاولات التّأسيس التي راكمتها الدّولة التّحديثيّة طيلة عقود من الزّمن.

فالتّساؤل إذًن عنمشروع ثقافي بديل سيصطدم، ومنذ الوهلة الأولى، بتقسيم المجتمع إلى مرجعيّتين إثنتين في خطاب النّخبة: مرجعيّة تحديثيّة تنويريّة لم تكتمل، وأخرى تقليديّة هَوَويّة منغرسة في نفوس العامة. فإن كانت الخمسينات قد انتصرت بالغَلَبَة دون حسم للاتّجاه الحداثي التّنويري المدعوم من سلطة مركزيّة تقود المشروع الثّقافي لصالحها،تجلّى في قانون التّعليم في 1958، ومجلّة الأحوال الشّخصيّة في1956، فإنّ ما حدث إثر 14 جانفي، ووصول من تمّ إقصاؤه في السّابق إلى دفّة الحكم سيُعيد الانقسام من جديد، وسيعمّق الفروقات في التّوجّهات العامة لأيّ مشروع موحّد بديل.

رغم ذلك، فإنّ وضع سياسة ثقافيّة جديدة اليوم أصبح مسألة ضروريّة وملحّة تأخذ بعين الاعتبار ما مرّ به المجتمع التّونسي، ولا زال، من إرهاصات وتحدّيات كبرى في علاقة بالمشروع المجتمعي والحقل الرّمزي المتصارع حوله، من جهة، وبمستوى مسؤوليّة الدّولة في رسم التّصوّرات تشاركيّا وعقلانيّا مع مكوّنات المجتمع المدني الواعي بالقضايا الإنسانيّة الكبرى في التّعليم العصري والثّقافة الدّيمقراطيّة والإبداع الحرّ والتّربية على المواطنة والتّسامح الفكري في وجه ثقافة العنف الدّيني المتحالف موضوعيّا مع عنف السّلطة والعنف الإجرامي للعصابات والميليشيات.

أمّا المعضلة الثّانية التي تعيق أيّ مشروع ثقافي بديل فتتعلّق بغياب دولة الرّعاية الاجتماعيّة، المحمول عليها واجب الإنفاق العمومي في الثّقافة والتّعليم والتّشغيل والصّحة، وهي المطالب الشّعبيّة لغالبيّة الشّرائح الاجتماعيّة المعنيّة بالتّغيير، والتي ازدادت إلحاحا مع الانتفاضات الشّعبيّة الأخيرة. من ذلك أنّ محاولات التّغيير السّياسي والاجتماعي قد تُلْقي بظلالها اليوم على الفاعلين في صياغة السّياسات الثّقافيّة البديلة،فالمرحلة الجديدة تتطلّب إعادة النّظر في السّياسات الثّقافيّة التي اتّبعتها المؤسّسات الرّسميّة، والتي ما زالت استمرارا لنفس السّياسات القديمة في تكريس الثّقافة خدمة للنظام. ولعلّ الغاية من ذلك كلّه دمقرطة الثّقافة ولامركزيتها، ودعم حرّية الإبداع، وعدالة توزيع الخدمات الثّقافيّة، والتّأكيد على أهمّية التّنوّع الثّقافي وحفظه. وهي الاتّجاهات الجديدة والغائيّات الكبرى التي تحاول بعض التّقارير السّنويّة، حول السّياسات الثّقافيّة العربيّة، التّأكيد عليه.(تقارير المؤسّسة الثّقافيّة الأوروبيّة Fondation Culturelle Européenne).

الأستاذ خليفة المنصوريـــ باحث في علم الاجتماع (تونس)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×