الرئيسية / صوت الوطن / وزارة الشؤون الثقافية تغرّد خارج السّرب
وزارة الشؤون الثقافية تغرّد خارج السّرب

وزارة الشؤون الثقافية تغرّد خارج السّرب

في نفس الوقت الذي تتالت فيه التصريحات الحكومية وعلى رأسها تصريحات وزارة الصحة حول خطورة الوضع الوبائي حاليا وضرورة الالتزام المطلق بإجراءات الحجر الصحي العام في هذه الفترة بالذات لما تكتسيه من أهمية قصوى في تحديد ما ستؤول إليه مؤشرات انتشار الوباء (covid-19) في بلادنا في الأيام القليلة القادمة، وفي نفس الوقت الذي ترتفع أصواتهم بالبكائيات والتنديد بتدنّي مستويات الوعي لدى فئات من الشعب واتهامها بعدم الجدّية والاستهتار بخطورة الوضع وفي مقابل كل ما تعانيه الطبقات الكادحة من أبناء الشعب من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية جرّاء الإجراءات الهزيلة التي اتخذتها الحكومة و التي رجّحت فيها كفّة مصالح “الكبار” على كفّة سائر الشعب المتضرر الحقيقي من هذه الأزمة، في نفس هذا الوقت تطلّ علينا وزارة أخرى من وزارات حكومة “إلياس الفخفاخ” بمهزلة جديدة تناقض تماما التصريحات العنترية للأيام القليلة الماضية وتناقض إجراءات الحكومة نفسها، حيث أصدرت وزارة الشؤون الثقافية بلاغا بتاريخ 8 أفريل 2020 ينصّ على تقديم تراخيص للقنوات التلفزية لاستئناف أشغالها في تصوير المسلسلات الرمضانية، مستندة في ذلك على حجّة كاريكاتورية بعيدة كل البعد عن جدّية الوضع الراهن (“دور الأعمال الدرامية الوطنية في التخفيف من الانشغال بالوضع الصحّي لدى العائلات التونسية”)، متناسية تماما كل التّبٍعات الصحية الكارثية التي قد تنجرّ عن مثل هكذا قرار.

في هذا السياق قد يكون من الضروري أن نتجاوز الانطباع الأوّلي الذي يتكوّن لدينا حول هذا القرار ونحاول النظر على الأقل في بعض ما يمكن أن يحمله في داخله من مسائل على درجة كبيرة من الأهمية ارتباطا بخصوصية الوضع الراهن، وهو ما يمكن أن نلخّصه في النقاط التالية:

1/ لا جدال ولا اختلاف في كون الفعل الفنّي والثقافي بصفة عامة يشكّل مقوّما أساسيا من مقوّمات بناء وتطوير المجتمعات وجزء لا يتجزأ من معركتها في سبيل النهوض والانعتاق، بل من الضروري في ظلّ هذه الأوضاع أن نؤكد على الدور المحوري الذي يمكن أن يضطلع به الفن والفنانون في مواجهة الأزمات وفي التأثير إيجابيا على الذهنية العامة وترسيخ القيم الإنسانية الراقية والروح الانتصارية في صفوف الشعب. غير أنّنا لم نجد أي شيء من هذا في فحوى القرار الارتجالي والمُجازف الذي أقدمت عليه وزارة الشؤون الثقافية بتزكيةٍ من رئاسة الحكومة، بل إن الحجّة المعلن عنها ليست في حقيقتها سوى استنقاص واضح من قيمة هذا المجال ومحاولة ركيكة لاستبلاه المتابعين للشأن الثقافي وعموم الشعب.

2/ إن فجئيّة هذا القرار وفي هذا الظرف بالذات هو تأكيد آخر على مدى الارتباك ونزاع الصّلاحيات الحاصل في أعلى هرم السلطة برؤوسه الثلاث وفي داخل الحكومة في حدّ ذاتها، وهو ما يؤكده تصريح وزير الصحّة بكونه يجهل تماما الخلفيّات التي تقف خلف هذا القرار، بل حتى إنه ضدّه من الناحية الصحية واكتفى بمسايرته فحسب، وهذا في الحقيقة عذر أقبح من ذنبٍ، فعن أيّ مسايرة يمكن أن نتحدث هنا، إن لم يكن في هذا دلالة أخرى واضحة تماما على غياب حدّ أدنى من الانسجام في داخل التشكيلة الحكومية نتيجة لتنازع الأطراف المكوّنة لها، وهو الإشكال القديم الجديد الذي بدأ في التّمظهر مباشرة إثر الإنتخابات، وأفرز في النهاية هذه الحكومة العاجزة إلى حدّ الآن عن وضع خطة واضحة لمواجهة هذه الجائحة على مختلف المستويات، وهو ما يؤدي إلى مزيد من الضّبابية والتردّد ومضيعة الوقت.

3/ إن منح تراخيصٍ لاستكمال تصوير المسلسلات الرّمضانية لبعض المؤسسات التلفزية الخاصة في ظلّ هذا الوضع الصحي شديد الخطورة لا يخدم بأيّ حال من الأحوال، لا مصلحة الشعب ولا كذلك الفنانين والعاملين بالقطاع الثقافي عموما، والذين يعانون في معضهم من ظروفٍ اجتماعية قاسية لم تلاقِ أيّ تجاوب من وزارة الشؤون الثقافية رغم علمها التامّ بحجم الضّرر الناتج عن توقّف نشاطهم، وليست هذه التراخيص سوى قرارٍ خارجٍ عن الموضوع، و لا يخدم سوى مصلحة جهات بعينها لم تستسغْ حتّى في أحلك الظروف أن تتنازل عن مصالحها الإشهارية والمالية المقترنة ببثّ هذه المسلسلات في شهر رمضان. والأدهى من ذلك أن نصّ البلاغ يؤكّد على ضرورة إخضاع كلّ فرق العمل للتحاليل الطبيّة للكشف عن فيروس كورونا قبل وبعد التصوير دون أن تحدّد عددهم (تكلفة التحليل الواحد 700 د)، في نفس الوقت الذي تعلن فيه وزارة الصحة عجزها عن توسيع قاعدة التحاليل للتوصّل لنتائج أكثر دقّة حول انتشار الوباء، فضلا عن كون هذا في حدّ ذاته إقرارٌ واضح بإمكانية تفشّي العدوى في صفوف المشاركين، خاصة و أن الأعمال الدرامية التلفزية عادة ما تتطلّب عددا كبيرا من الفاعلين المباشرين بين تقنيّين في مختلف الاختصاصات وبين ممثّلين، وهذا يزيد أو ينقص وفق عدد الأعمال المرخّص لها. وهو ما لم يتم الإعلان عنه كذلك.

4/ أخيرا لا مناص من تسمية الأشياء بمسمّياتها وتوصيفها كما يجب، فحتى إن بدا هذا القرار بالنسبة للبعض بسيطا أو عاديّا في ظاهره فهو في الحقيقة ليس سوى إجراء لا مسؤول آخر ينمّ عن استهتارٍ خطير وخارج عن السّياق وتهديد لسلامة عموم أبناء الشعب التونسي وتنكّر سافرٌ لكل المجهودات والتّضحيات المبذولة من قبل كافة العاملين والمتضرّرين المباشرين من هذه الأزمة.

لا مهرب من التراجع الفوري عن هذا القرار والتوجّه نحو الانكباب على إيجاد حلول جدّية وشاملة للقطاع الثقافي وغيره من القطاعات إن كان للحكومة حقا النيّة في ذلك، بعيدا عن الشّطحات السياسوية وخدمة مصالح لوبيّات المال والأعمال على حساب المصلحة العامة تحت أيّ غطاءٍ كان. وفي ما عدى ذلك لن تساهم مواصلة التعنّت والسّير في هذا المنهج إلا في مزيد تعميق الأزمة أكثر ممّا هي عليه.

بلال الطرابلسي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×