الرئيسية / صوت العالم / النضال ضد الشعبوية في أوروبا (*)
النضال ضد الشعبوية في أوروبا (*)

النضال ضد الشعبوية في أوروبا (*)

الجزء 3/4
ترجمة مرتضى العبيدي

 الشعبوية اليسارية
كما رأينا، لا توجد شعبوية واحدة فقط، لها مفاهيم عامة وأيديولوجية متماسكة. هناك تعبيرات مختلفة من “الشعبوية” اليمينية منها واليسارية، والتي تخدم في النهاية قطاعات من البرجوازية بطريقة أو بأخرى.
وعلى الرغم من أن كليهما يطبق نفس الأسلوب، إلا أنه توجد اختلافات جوهرية بينهما يجب أخذها في الاعتبار.
تستخدم أشكال الشعبوية المختلفة مشاعر مختلفة لاستثارة حشد الناخبين: “​​الخوف من الغرباء” يستخدمه الشعبويون اليمينيون. “الأمل في مستقبل أفضل وفي التضامن” نجده لدى الشعبويين اليساريين. تتميز الأولى بالحقد والاستياء والأنانية واللامبالاة. أما الثانية، فتتحدث، من الناحية النظرية، عن “العدل والمساواة”، و”الدفاع عن الدولة الاجتماعية”، و”استقبال المهاجرين”، و “الديمقراطية التشاركية”، و”تقليص الفوارق في الدخل”، إلخ.
في هذه الاختلافات، يتم التعبير عن ثنائية البرجوازية الصغيرة، والتي هي في نفس الوقت رجعية وتقدمية، وفقًا لمصالحها في هذا الوقت أو ذاك وموقعها في مواجهة رأس المال. لذلك، من الضروري مراعاة الجوانب المختلفة للشعبوية وتحليلها بدقة، دون وضع كل شيء في نفس السلة.
إن البرجوازيين الصغار والشعبويين الإصلاحيين عندما يتكلمون عن “الشعب” و “الناس” و “المواطنين” (متجنبين مصطلحات مثل “البروليتاريا” و “النضال الثوري”) يكون ذلك دائمًا بطريقة غامضة، دون تحديد أهدافهم. إنهم ينتقدون حكومات بلدانهم لكنهم يطمحون للوصول إلى البرلمانات البرجوازية من خلال الانتخابات.
في برامجهم الانتخابية وفي بياناتهم، لا يشيرون أبدًا إلى تغيير النظام، ولا إلى الثورة. ولا يضعون في أي برنامج انتخابي الحاجة إلى تغيير النظام، ولكن فقط لتحسين النظام القائم. وإذا ما اقترحوا بعض التعديلات على قوانين الانتخابات، ففي جوانب ثانوية وهي تعديلات تسمح لهم بزيادة عدد النواب. لا شيء عن البروليتاريا، لا شيء على الإطلاق باستثناء بضع جمل خارجة عن سياقها.
وفيما يتعلق الأمر بالنضال النقابي، فإن تكتيكاتهم هي نفسها التي لا تتعدّى بعض المناقشات الصغيرة للحصول على مقاعد المسؤولية في الهياكل النقابية، وبالتالي فهم يحتقرون ويتخلون عن هذا النضال ذي الأهمية القصوى متجاهلين مقولة لينين الشهيرة:
“إن عدم العمل في النقابات العمالية الرجعية يعني التخلي عن الجماهير العاملة المتخلفة أو غير المتطورة بشكل كاف لتأثير القادة الرجعيين وعملاء البرجوازية …”
إنهم لا ينظّرون ولا يشرحون سلوكهم فيما يتعلق بالنضال ضد الإصلاحية النقابية؛ ولا يأخذون في الحسبان أنه يوجد في النقابات، على الرغم من القادة الانتهازيين، قسما كبيرا من البروليتاريا المتقدمة. لكن بالنسبة للشعوبيين، من جميع الأنواع، فإن ما يهم بشكل غامض هو “الشعب”، و”من هم تحت”، وليس البروليتاريا.
إن ارتباك القادة الشعبويين اليساريين حول مراجعهم السياسية والأيديولوجية كبير: فالبعض يسمّون أنفسهم “ماركسيين”، وآخرون “يساريين”. إنهم ينتقدون تجاوزات النيوليبرالية للترويج للرأسمالية “الديمقراطية”. وهم لا يطرحون بأي حال هدف هدم مجالات الأوليغارشية المالية والرأسمالية.
من السمات المميزة للشعبويين اليساريين في البلدان الإمبريالية إنكار الطابع الإمبريالي لبلدانهم. وهم يفصلون مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي عن مسألة الثورة البروليتارية لكسر نير الإمبريالية. إنهم يقترحون “مجالات بديلة” جديدة بين البلدان الرأسمالية والإمبريالية. ولا يعترفون بمسؤولية البورجوازية في بلدانهم فيما آلت إليه الأوضاع اليوم بل يحملون ذلك فقط لـ “الترويكا” أو لبورجوازية امبريالية أخرى. فبالنسبة لهم، العدو الرئيسي هو دائمًا من “خارج البلاد”.
لذلك يمكننا القول إنهم يمثلون عكاكيز للبرجوازية نفسها، بحثًا عن تحالفات مع قطاعات من الطبقة الحاكمة، لذلك فهم يقللون من التناقضات الطبقية ويُخفونها. إن القوى الشعبوية اليسارية لا تعتمد التحليل الطبقي الماركسي، بل هي تقرأ التناقضات الطبقية الموجودة بخلفية الوفاق الطبقي. إنهم يضعون على نفس المستوى القطاعات الرجعية من البرجوازية الوسطى والقطاعات المضطهدة أو المستغلة من البرجوازية الصغيرة، والتي يمكن تحييدها أو سحبها عن تأثير الطبقات المسيطرة.
يرفض الشعبويون اليساريون الثورة والاشتراكية، لكنهم يبحثون عن “طريق ثالث” يجرهم حتما إلى المستنقع الإصلاحي، والى التنافس على ميدان البرجوازية. إنهم يسقطون بشكل منهجي في القومية ومستعدون للتفاوض بشأن الوحدة الوطنية مع البرجوازية في حالة “الطوارئ”.
للشعبوية اليسارية وظيفة خاصة: وهي صرف انتباه الطبقة العاملة والجماهير الشعبية عن النضال الواعي ضد سلطة رأس المال في مختلف مظاهره. الهدف من هذا الشكل من الشعبوية هو منع تطور حركة ثورية جماهيرية بقيادة البروليتاريا، لمنع الجماهير العمالية والشعبية من أن تكسب وعيا طبقيا ثوريا.

وبالتالي، فإنهم يوجهون مطالبهم نحو أهداف تتلاءم مع المجتمع الرأسمالي.

الشعبوية والطبقة العاملة
تستهدف الحركات الشعبوية بشكل خاص الطبقات الوسطى، فهي تعكس اهتماماتهم ووجهات نظرهم. لكنهم يطورون أيضًا سياسة ديماغوجية تجاه العمال، ولا سيما من الطبقات الدنيا، الأقل تنظيماً والأكثر استغلالاً. سياسة تجمع بين الديماغوجية الاجتماعية الأكثر تشاؤمًا والوطنية الزائفة. يتحدث الشعبويون عن احتجاجات عمالية أو شعبية في فترة تاريخية يكون فيها وعي الطبقة العاملة منخفضًا ولا يتخذ فيها الصراع الطبقي بالضرورة أشكالًا ومظاهر “يسارية” تقليدية.
يمكن للشعبوية أن تؤدي خدمة مهمة للبرجوازية: وهي سحب الطبقة العاملة والجماهير الشعبية من النضال الثوري في مرحلة تتوافر فيها الشروط الموضوعية لاستعادتهم الى المناخ الثوري. بمعنى آخر، إنها تبطئ وتؤخر تطور العامل الذاتي، وخاصة التنظيم الطبقي، بخلقها لانتظارات زائفة من خلال برامج اجتماعية وأشخاص رجعيين.
في ارتباط وثيق بالمقولات النيوليبرالية، تعمل الأحزاب الشعبوية على زعزعة تنظيم العمال ومنظماتهم ونزع الشرعية عنها، فضلاً عن تفكيك الأحزاب التقليدية. إن خط الأحزاب الشعبوية هو “عدم التدخل” بين العمال وأرباب العمل، هو خط “ubérisation”(2) الذي يتم تنفيذه غالبًا تحت ذريعة الدفاع عن القطاعات الاجتماعية المستبعدة من التمثيل النقابي. إنهم يهاجمون النقابات العمالية باعتبارها منظمات طبقية أولية للعمال، وينكرون التنظيم الكلاسيكي لأحزاب العمال الجماهيرية. إنهم يحاولون تحقيق الفردية والنزعة القطاعية والإصلاحات دون مفاوضات لتقليل دور النقابات.
ما هي العناصر التي تستخدمها الشعبوية للتقدم؟ الحاجات الحقيقية التي تحتقرها الأحزاب الليبرالية والإصلاحية التقليدية: فقر العمال وانعدام الأمن في الحياة والعمل؛ عدم وجود حماية اجتماعية، ودخل للعاطلين عن العمل؛ الحاجة إلى معاشات تقاعدية كريمة؛ ضرائب مرتفعة؛ فساد الطبقات الحاكمة. القوة المفرطة للأوليغارشية المالية؛ الفجوة الاجتماعية المتنامية، والمنافسة الناتجة عن الاستغلال الفائق للعمال المهاجرين، إلخ.
من الواضح أن الشعبويين يقدمون إجابات رجعية وخيالية لهذه المشاكل، دون التشكيك في ركائز نظام الاستغلال.
تستغل الشعبوية بذكاء استياء وانزعاج وغضب العمال والشباب العاطلين عن العمل غير المستقرين. يصوت العمال للأحزاب الشعبوية لسببين أساسيين: لأن لديهم الأمل الزائف في حل بعض المشاكل. ومعاقبة الأحزاب الإصلاحية المسؤولة عن الإجراءات المعادية للعمال، والتقشف، والتعاون الطبقي المخزي. وهذا يعني أن الشعبويين اليمينيين يمكنهم بسهولة الاستفادة من انتظارات العمال واحتجاجاتهم، والكراهية ضد الأوليغارشية، وأحيانًا باستخدام الشعارات والمطالب اليسارية.
 
الهوامش:
(2) Ubérisation (من اسم شركة Uber)، أو plateformisation ، هي ظاهرة حديثة في مجال الاقتصاد تتكون من استخدام الخدمات التي تتيح للمهنيين والحرفاء وضع أنفسهم في اتصال مباشر ، بشكل فوري تقريبًا ، بفضل الاستخدام منصة رقمية.
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×