الغطرسة

الغطرسة

عمود بابلو أزوكار (صحيفة الثالثة la Tercera _ التشيلي ) (1)

كما قال الكاتب البارز “بابلو أزوكار”: “إن الحقيقة قد تم إخفاؤها. هذه الحقيقة فظيعة ورهيبة ومروعة. إن الحديث عنها يتطلّب جهدا كبيرا للسيطرة على آلام معاناة الآخرين. كل شيء تم توثيقه ورغم هذا فإن الديمقراطية مغلولة الايدي، التي بقينا على قيد الحياة في ظلها، تعمل على التهوين من كل ما حدث وتنسيبه”

بابلو أزوكار – كاتب (منشور في “الثالثة” la tercera في تشيلي، عمود بابلو أزوكار – عدد 11 سبتمبر 2023)
ترجمة : جيلاني الهمامي

الغطرسة

كثيرا ما تساءلت لماذا أدرجَ في كل العالم إسم أوجوستو بينوشي في قائمات العار للشخصيات سيئة الذكر في التاريخ العالمي؟
الجواب الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو القسوة. وقليلة هي الأنظمة التي مارست مثل هذه القسوة الصارمة والباردة والمنهجية. لم يكتف الديكتاتور التشيلي بقتل العديد من أصدقائه وقادته الذين أقسم لهم الولاء الأبدي، بدءً من الجنرال كارلوس براتس، الذي رباه وآواه كما يأوي إبنه، ولكنه أنشأ أيضا جهازا قمعيا لجأ إلى أبشع أنواع القسوة واللاإنسانية في ذاكرة البشر.

لقد تم تمزيق يدي مغني وكاتب أغاني شهير حتى لا يستطيع بعد ذلك العزف على القيثارة مطلقا، ووضع على وجه قائدة طلابية مكواة حامية لتشويهها، وتم رش إثنين من المراهقين بالبارافين (1) وحرقهما من أعلى إلى أسفل، وانتزعت أصابع عامل بواسطة المطرقة حتى لا يقوم بعمله مرة أخرى، وثقبت يدي ممرضة باليطقان (2) الدموي، وتم تفجير وجه فلاح يبلغ من العمر 16 عاما ووجد فمه مليئا ببراز الخيول، وعازف بيانو تم اقتلاع أظافره واحدا تلو الآخر، وزعيم سياسي احترق صدره بموقد اللحام.

لقد قابلت مراهقة حامل لأنها تعرضت للاغتصاب الوحشي عدة مرات في سجن سري. وقابلت طفلا تم وضع الكهرباء في أعضائه التناسلية أمام والديه لاقتلاع “اعترافات” منهما. وقابلت امرأة لم تكن قادرة على ممارسة الجنس لأنهم وضعوا لها الفئران في مهبلها، وأخرى تم تقييدها ليخترقها كلب مدرب على ذلك.
ويتضمن تقرير “ريتيغ” Rettig، وخاصة تقرير “فاليش” Valech– بصفتهما وثائق رسمية للدولة الشيلية، التي كتبتها السلطات الأخلاقية والمتخصصون من جميع الأطياف السياسية – بعضا من هذه الفظائع.

كانت لدي الشجاعة لقراءة تقرير Valech من الغلاف إلى الغلاف، وكانت التجربة أكثر رعبا من أكثر روايات الرعب. ويتضمن هذا التقرير، على سبيل المثال، قائمة تضم أكثر من ألف طفل تعرضوا لانتهاكات مختلفة.

وقد تلقى من كتبوا هذا التقرير الرهيب عشرات الآلاف من الشهادات بالرغم من أن العديد من الضحايا لم يجرؤوا على الإدلاء بشهاداتهم خوفا من أن يعيشوا من جديدالرعب والإذلال والخوف.

ويشير تقرير فاليش إلى أن ملايين التشيليين فقدوا أيضا وظائفهم أو منازلهم، وتعرضوا للتشهير والإقصاء والمضايقة، وأجبر مئات الآلاف على العيش في المنفى، واضطر العديد ممن بقوا إلى تحمل وصمة العار والاضطهاد. وألقي القبض على بعضهم عدة مرات واضطروا إلى الانتقال إلى مدينة أخرى. وعانى آخرون في قراهم من الاضطرار المخزي إلى العيش مع جلاديهم.

وقد تم تدوين أكثر من 700 فوج أو نقطة تفتيش أو مخفر شرطة أو معسكرات اعتقال أو سجون سرية – في جميع مناطق البلاد – حيث وقعت الأحداث، مع التواريخ والتفاصيل، في هذا التقرير المرعب.
على الرغم من السنوات التي مرت، فإن آلاف الشهادات الواردة في تقرير Valech دامغة.

“تحطمت الألياف في فتحة الشرج عندما تم دفع أشياء حادة إلى جسدي.
” فقدت البصر في عيني اليمنى جراء طلقات رشاش.
“ثم أخرج أحد رجال الميليشيا قضيبه وأجبرني على تقويمه بفمي، ثم كان هناك آخر وآخر ودخل آخرهم في فمي. وأن عمري كان 15 عاما فقط”.

ثم سحب أحد رجال الميليشيا قضيبه وأجبرني على تقويمه بفمي، ثم كان هناك آخر وآخر، دخل آخر واحد في فمي، ولم تبق حياتي كما كانت رغم أن عمري لم يكن يزيد عن 15 عاما فقط”.

“وضعوا لي “الهاتف”، وراحوا يضربونني في الان نفسه على كلتا أذني، مما أدى إلى تحطيم أذني اليمنى”.
“لقد اقتلعوا أضراسي دون تخدير”.
“علقوني من قدمي، وجعلوني آكل البراز وأمسكوا بابنتي البالغة من العمر تسعة أشهر من رقبتها أمامي، وقالوا لي إنهم سيقتلونها”.
“لقد سحقوا كليتي تحت الضربات وما زلت أعاني من مخلفات”.
“أجبروني على ممارسة الجنس مع والدي وأخي”.
“ضربوني كثيرا إلى درجة أنني فقدت ذاكرتي وبصري”.
“لقد جعلونا نخلع ملابسنا، ونمرر قضيبا بين المرفق ومؤخرة الركبة، وكان الإحساس مثل تمزيق الأوصال. ”
“تمزقت خصيتي بسبب التيار الكهربائي”.
“لدي آثار حروق سجائر في جميع أنحاء جسدي”.

“دمر مهبلي، ولا أستطع التغوط دون ألم لسنوات”.
” تركوني هناك وساقي مصابة بالغرغرينا”.
“كان لا بد من إزالة رحمي والمبيضين بسبب النزيف الداخلي”.
“اليوم، لدي مشاكل في القلب بسبب التيار الذي صعقوني به”
“بقي لدي رعب لم يفارقني أبدا، الذعر، الخوف من الأماكن المغلقة، الجزع”.
“أظل اشاهد بلا انقطاع ما عشته في تلك الأيام “

كيف تقيس هول ذلك الألم؟ كيف نقدر إهانة هذه الإنسانية على نطاق واسع، وفي أغلب الأحيان، من أناس مجهولي الهوية؟ ما هي الندوب التي يمكن أن تبقى في نفسية بلد بعد بربرية بهذا الحجم؟

ما يثير القلق هو أن الصمت الذي أعقب ذلك. فقد قررت الدولة الرسمية ببساطة طمس القضية، باسم “المصالحة” والاستقرار السياسي، وتقرر عدم الحديث عنها مرة أخرى.

تم إغلاق نيابة “التضامن” البطولية خلسة، وتم محو اسم الكاردينال راؤول سيلفا هنريكيز من التاريخ الرسمي، كما تم إخفاء تقارير Valech وRettig ومئات الآلاف من الشهادات عنوة، ولم تكن هناك سياسة للتعويض ولم تعد الصحافة عمليا لتتحدث عنها. يتم ترك الأقارب ليدافعوا عن أنفسهم. كما هو الحال في اللعنات التوراتية، ترك الأطفال والأحفاد وأبناء الأحفاد وحدهم مع هذا الورم.
بعد نصف قرن، اتضحت التبعات فيواصل العديد من السياسيين والبرلمانيين حتى اليوم تأليه بينوشي وإنكار وجود هذا الرعب. ولا تزال القوات المسلحة تمانع في الكشف عن مصير أكثر من ألف مختفي، وهي كلمة دخلت المعجم العالمي منذ النظامين العسكريين التشيلي والأرجنتيني.

وقد صرح زعيم اليمين المتطرف خوسيه أنطونيو كاست، المرشح الأوفر حظا في استطلاعات الرأي للانتخابات الرئاسية المقبلة، إنه “صديق شخصي” وشارك في تأبين العسكري ميغيل كراسنوف، أحد أكثر الجلادين دموية، والذي حكم عليه بالسجن لأكثر من 900 عام في عديد قضايا انتهاكات حقوق الإنسان.

إن اليمين السياسي في التشيلي لم “يقطع مع بينوشي”. فلا اعتراف بالذنب، ولا وعي بوحشية سياسة الإبادة التي نفذتها الدولة التشيلية في تلك السنوات. ويواصل القادة والمثقفون والزعماء الحديث عن “سقطوا على كلا الجانبين” ويؤكدون أن هذه ليست سوى بعض “تجاوزات”.

عندما قدم الرئيس غابرييل بوريك جائزة فخرية في إسبانيا في شهر جويلية إلى رجل القانون “بالتثار غارثون” الذي اعتقل بينوشي في لندن في عام 1998 باسم العدالة العالمية للأمم المتحدة كان رد فعل اليمين التشيلي ساخطا وقدم شكوى رسمية إلى وزارة الخارجية. وقال أحد النواب : «اعتراف غارثون عار». و”هذا استفزاز”، قال برلماني آخر. إنهم لا يغفرون لغارثون: إنهم لا يغفرون له تلطيخ وجه “تاتا” بينوشي. لم يكن كل هذا حكرا على اليمين : لقد تم إخفاء كل شيء لسنوات عديدة، وتم إغلاق الذاكرة بشكل ممنهج، بحيث أصبح النفي اليوم أو نسبية الحقائق أو تطبيق نظام الروابط القديم ، حرا.

إن المفارقة فظيعة: ربما تكون شيلي هي البلد الوحيد في العالم الذي لم ندرك فيه بعد وحشية نظام بينوشي.

لقد تم تجاوز كل حدود الخير والشر فلا كاليغولا ولا نيرون بلغوا هذا الحد. لقد كرس الألمان عقودا، يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وعاما بعد عام، لتذكر محرقة هتلر، في الأفلام والمقالات والروايات، وفي الصور الفوتوغرافية واللوحات والآثار، وفي المتاحف والاحتفالات والنصب التذكارية. بينما ليس لمحرقة بينوشي حتى اسم. إنها الرعونة التي بدأت مع ثقل الليل، وهي غطرسة لا تزال تسود اليوم، وكأن شيئا لم يحدث.

( 1 ) _ https://www.latercera.com/opinion/noticia/columna-de-pablo-azocar-frivolidad/C3IHR242FJEBZI66ZPJV5X4DL4/

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×