الرئيسية / الافتتاحية / سلطة الانقلاب توغل في سياسة التبعية والتجويع والاستبداد ولا حلّ إلا في المقاومة
سلطة الانقلاب توغل في سياسة التبعية والتجويع والاستبداد ولا حلّ إلا في المقاومة

سلطة الانقلاب توغل في سياسة التبعية والتجويع والاستبداد ولا حلّ إلا في المقاومة

استغلّت سلطة الانقلاب انشغال الرأي العام بالقضية الفلسطينية منذ 7 أكتوبر 2023، ساعة انطلاق “معركة طوفان الأقصى”، لتواصل سياسة التدمير والتجويع والقمع المسلطة على العمال والكادحين والفقراء وعموم الشعب التونسي. فخلال هذه المدة انكبّ مجلس “الدمى” على مناقشة ميزانية العام القادم 2024. كما اشتغلت ماكينة القمع لتوسّع دائرة ضحاياها، في الوقت الذي يتمّ فيه الاستعداد لإجراء مهزلة انتخابية أخرى، أي مهزلة انتخاب مجلس الأقاليم والجهات. وهو ما يمثل خطوة جديدة تخطوها سلطة الانقلاب نحو تركيز نظام الحكم الفردي المطلق، المستبد والفاشستي، الرأسمالي التابع والاستغلالي المتوحّش.

ميزانية تعميق التبعيّة والفقر
تمثّل ميزانية العام الجديد واحدة من أخطر الميزانيات التي عرفتها بلادنا خلال فترة ما بعد الثورة، لا لأنها تنخرط في نفس التوجهات اللاوطنية واللاشعبية السائدة منذ عقود فقط، وإنما أيضا لكونها تعمّق تلك التوجهات بشكل غير مسبوق وتدفع بالبلاد والمجتمع نحو الانهيار. فالميزانية الجديدة هي ميزانية إغراق تونس في التداين الذي يمثل حوالي 36 بالمائة من الميزانية معظمه من الخارج وهي نسبة غير مسبوقة ممّا يمثل تكذيبا لشعار “التعويل على الذات” الذي ما انفك يرفعه قيس سعيد ومؤيّدوه. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الميزانية يمكن اعتبارها، خلافا لما يدّعيه قيس سعيد من “رفض للإملاءات الأجنبية”، ميزانية ترضية صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية والإقليمية، لما جاء فيها من إجراءات حول مواصلة رفع الدعم وما سينتج عنه من استمرار الارتفاع الجنوني للأسعار وتجميد الانتدابات وما سينتج عنه من تفاقم البطالة المتفاقمة أصلا – أكثر من مليون عاطل عن العمل – والضغط على كتلة الأجور ومواصلة سياسة التقشف والرفع من الضرائب والأداءات، وما سينجرّ عن ذلك من توسّعٍ لدائرة الفقر والبؤس اللذين يشملان حاليا أكثر من ربع السكان حسب الإحصائيات الرسمية وهو ما سيفاقم ظاهرة “الحرقة” هروبا من جحيم “العصر السعيد” والجمهورية الثالثة”.

اتساع دائرة القمع
إن وضع الحريات في تدهور مستمر. فقد طال القمع اليوم غالبية القوى السياسية. ففي الفترة الأخيرة، بعد عبير موسي، الأمينة العامة للدستوري الحرّ، جاء الدور على رياض بن فضل، المنسق العام لحزب القطب، في ملف ظاهره اقتصادي / مالي وجوهره سياسي على خلفية الموقف من الانقلاب. وما من شك في أنّ إيقاف رياض بن فضل أخيرا يؤذن باتساع موجة الاعتقالات مع اقتراب مهزلة الرئاسية التي يريد قيس سعيّد أن يجد فيها نفسه بلا منافسين، يفعل فيها وبها ما يشاء ليعلن نفسه “بايا” جديدا لتونس. ولم تطل يد القمع الأحزاب السياسية فحسب، بل طالت في الأيام الأخيرة الاتحاد العام التونسي للشغل في شخص الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس وعدد من نقابيي الجهة بتهم مفتعلة. ولئن فشلت سلطة الانقلاب في هذه الهجمة الأولى والهامة نتيجة ردّة فعل النقابيين، فإن ذلك لا يعني تراجعا عن ضرب الاتحاد الذي يرى فيه سعيّد، في كل الحالات، عائقا أمام تنفيذ مشروعه السياسي الاستبدادي وخياراته الاقتصادية الليبرالية المتوحشة. وفي هذا السياق يتّجه سعيد اليوم بشكل مكشوف إلى ضرب منظمات المجتمع المدني بعنوان مقاومة “العمالة والتمويل الأجنبي” وهي كلمة الحقّ التي يُراد بها الباطل لأن إثارتها من قبل قيس سعيد لا تعدو أن تكون ذريعة لضرب حرية تكوين الجمعيات بشكل عام، لا تصحيحا لوضع فيه ما يقال الكثير.

ومن جهة أخرى فإن سلطة الانقلاب تواصل انتهاك حرية التعبير والإعلام. فبعد وضع يدها على وسائل الإعلام العمومية وتدجينها فهي تعمل على تدجين وسائل الإعلام الخاصة بمختلف الطرق بما فيها الترهيب. فقد عمدت في الآونة الأخيرة إلى منع بث حصة برنامج “ميدي شو” على موجات إذاعة موزاييك أف أم بسبب استضافة محامي الدفاع في قضية “التآمر على أمن الدولة” الأستاذ عبد العزيز الصيد. وأخيرا قررت النيابة العمومية إحالة كل من المحاميتين، الأستاذة دليلة مصدّق والأستاذة سنية الدهماني، والإعلامي برهان بسيس على القضاء وفقا للمرسوم 54 سيء الذكر، بسبب تصريحات حول قضية التآمر على أمن الدولة بالنسبة إلى الأولى والحديث عن ظروف الاعتقال في سجن المرناقية بالنسبة إلى الثانية أما الثالث فباعتباره صاحب البرنامج الذي استضاف الأستاذة مصدّق.

تركيع القضاة بلا هوادة
إنّ قيس سعيد ماض في مزيد تركيع القضاة وإخضاعهم، ناهيك أنه لم يتردد في كلمة يوم الجمعة 24 نوفمبر 2023 في التعبير عن استعداده لإجراء “تطهير ثان” في القضاء إذا لم ينصع القضاة لرغباته بالكامل مع العلم أنه يتحكّم في هذا الجهاز تعيينا وطردا. ويدبلج سعيد سلوكه الفاشستي هذا بخطاب ديماغوجي حول مقاومة الفساد والاحتكار والتلاعب بالمال العام واسترداد أموال الشعب والحال أن ما يقوم به تحت هذه العناوين ودون احترام للإجراءات القانونية حسب المحامين، لا يعدو أن يكون عملية ابتزاز لأثرياء ذوي نفوذ في منظومات الحكم السابقة، ومن بينهم فعلا من هو من رموز فسادها، ولكنه هو وغيره ليسا من صفّ سعيد الذي يبحث بكل الوسائل، بما فيها الابتزاز، عن مصادر تمويل لميزانية الخراب في الوقت الذي يتمتع فيه الفاسدون الموالون له بالحماية.
وبالإضافة إلى ذلك كلّه فقد تفاقمت سطوة البوليس على الحياة العامة وما يصحب ذلك من اعتداءات خطيرة ليس أقلها خطورة ما جرى في القيروان في المدة الأخيرة من تعذيب وحشي لأحد المواطنين، ومع اشتداد هذه السطوة تتفاقم بالطبع ظاهرة الإفلات من العقاب.

الأقاليم والجهات : نحو مهزلة انتخابية جديدة
في هذا المناخ السياسي والاجتماعي المتأزم والمتعفّن والقائم على التسلّط تستعد سلطة الانقلاب لتنظيم مهزلة انتخابية جديدة هي مهزلة انتخابات الأقاليم والجهات يوم 24 ديسمبر 2023 لاستكمال ديكوره الشعبوي. ومن المضحكات المبكيات أن المترشحين لهذه الهياكل “القاعدية” لا يعرفون حتى الآن صلاحياتهم. ورغم اللامبالاة العامة بهذه المهزلة الجديدة ومقاطعة غالبية القوى السياسية لها، فإنّ قيس سعيد ماض في إجرائها، مثلما أجرى مهزلة الانتخابات التشريعية في العام الفارط التي لم تتجاوز نسبة المشاركة فبيها 11 بالمائة وأعطت برلمان “دمى” بلا مشروعية وبلا صلاحيات ولا يعدو النواب فيه أن يكونوا مجرد موظفين لدي “رئيس الموظفين الأعلى” قيس سعيد ينفذون ما يريده، وهو ما كشفته أخيرا فضيحة عرض مشروع قانون لتجريم التطبيع إذ تدخل سعيد لوقف التصويت عليه مهددا بأن تمريره يمثل “اعتداء على أمن الدولة الخارجي” بعد أن كان يردّد أن “التطبيع خيانة عظمى” وهو ما صدّقه “نواب الغلبة”، فما كان منهم إلاّ أن اصطفّوا وانضبطوا خاصة بعد أن حصلوا على منحة شهرية بألف دينار في الوقت الذي لا يجد فيه الأساتذة النواب ما يسدّون به رمقهم بدعوى “صعوبة الظرف”.

لا حلّ إلا في المقاومة
كل هذه العناصر، مضاف إليها حالة العزلة التي عليها سلطة الانقلاب إقليميا ودوليا بسبب عجزها عن بلورة عقيدة دبلوماسية تخدم فعلا مصالح تونس وشعبها، تثبت أن هذه السلطة، وعلى رأسها قيس سعيد، تسير بالبلاد نحو أزمة خطيرة متعدّدة الأبعاد ما انفك العمال والكادحون والفقراء والفئات الوسطى من المجتمع يدفعون ثمنها فقرا وبطالة وغلاء معيشة وانهيار خدمات عمومية وتصحّرا ثقافيا وتفشيا للجريمة والعنف وانهيارا لقيم التضامن والتآزر وتدهورا للبيئة، الخ. وما من شكّ في ألا حلّ في مثل هذا الوضع إلا بالنضال والتصدي لمنظومة الانقلاب الاستبدادية نقطة بنقطة ومحورا بمحور في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفسح المجال لطور جديد من الثورة التونسية تتحقق في ظله طموحات الشعب التونسي.

إن حركة النضال السياسي والاجتماعي تمرّ بلا شك بحالة جزر في اللحظة الراهنة وهو ما يعطي نفسا لسلطة الانقلاب رغم هشاشتها واعتمادها بالأساس على أجهزة الدولة القمعية لضمان استمرارها وعلى الفئات الأكثر تأخرا في الوعي علاوة على حشود الانتهازيين والآكلين من كل الموائد والمغلّطين والمفلسين. ولكن حالة الأزمة في حدّ ذاتها تمثل مناخا مناسبا للعمل بصبر وثبات في صفوف الشعب من أجل التوعية وتقديم البدائل الثورية والتقدميّة وتنظيم الصفوف حولها والسير بالحركة شيئا فشيئا نحو حالة جديدة من النهوض تنتهي هذه المرة بانتصار حقيقي للشعب تكرّسه سلطة وطنية، ديمقراطيّة، يحقق في ظلها الشعب سيادته على الدولة كما يحقق مطالبه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

إن هذه العملية تتطلب الصّبر والمثابرة، ولكنها تتطلب الوضوح أولا وتكتيل ما أمكن من القوى للتقدم خطوة، خطوة نحو الهدف المنشود ثانيا. فلنعبّئْ ما أمكن من القوى اليوم ضدّ ميزانية الخراب وتبعات تطبيقاتها على الوطن والشعب وضد انتهاك الحريات والحقوق وما يولّده من مظالم لن تستثني أحدا ولنراكمْ القوى خطوة، خطوة على طريق التحرّر التام، لا من نظام الشعبوية فحسب، وإنما من نظام التبعية والاستغلال والاستبداد والقهر بشكل عام. إن من يجرؤ على النضال والمقاومة هو الأقدر دائما على تحقيق الانتصار..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×