الرئيسية / الافتتاحية / ميزانيّة 2024 : أعلى نسبة تداين تجسيما لشعار “التعويل على الذات” الجزء الثّالث
ميزانيّة 2024 : أعلى نسبة تداين تجسيما لشعار “التعويل على الذات” الجزء الثّالث

ميزانيّة 2024 : أعلى نسبة تداين تجسيما لشعار “التعويل على الذات” الجزء الثّالث

جيلاني الهمامي

خصائص الميزانية : الاستنتاجات الأساسيّة
يمكن تلخيص ما يميّز ميزانية 2024، علما وأنّها ميزات تكاد تتكرّر سنويّا بنفس التفاصيل تقريبا، في خمس مِيزات أساسية نستعرضها فيما يلي في شكل استنتاجات عامّة.
1. ميزانية التقشّف
فميزانيّة 2024 التي سجّلت نسبة زيادة بـحوالي 10% ليست كما توحي بذلك ظاهريّا هذه النّسبة ميزانية توسّعية بل بالعكس هي ميزانية تقشفية بامتياز، ويبرز ذلك في عديد المؤشّرات والمعطيات. ونعني بالطّابع التقشّفي الضّغط على النّفقات العمومية التي يستفيد منها المجهود الاستثماري أو يتمتّع بها الاستهلاك العام أي عموم المواطنين في أشكال عديدة ومتنوّعة. أوّل هذه المؤشّرات هو الضغط على كتلة الأجور والحطّ منها بما يقارب نقطة من النّاتج الداخلي الخام إذ تراجعت لتمثّل 13.5 % من الناتج الداخلي الخام سنة 2024 مقابل 14.7 % سنة 2023. ويعكس هذا التّقليص في نسبة كُلفة التّأجير من النّاتج المحلّي سعي الحكومة إلى الاقتراب من النسبة التي اشترطها صندوق النقد الدولي قُبيْل انطلاق المفاوضات حول القرض الممدّد وأثناءها (12.5 %). وبشكل ملموس ترجمة هذا التّقليص تتمّ عبر الإجراءات التي وردت في تقرير الميزانيّة ومنها بالخصوص “التحكّم في الانتدابات” و”مواصلة التّخفيض التّدريجي في عدد خرّيجي مدارس التكوين” و”ترشيد التّرفيع في سنّ التقاعد” و”التحكّم في نسب التّرقيات السنوية على أن لا تتجاوز 20 %” و”عدم تعويض الشّغورات” و”مزيد ترشيد مِنح السّاعات الإضافية اتّجاه إسناد استراحة تعويضيّة في حالة القيام فعليّا بساعات إضافية”. علاوة على ذلك حثّت الميزانية الجديدة المصالح الإدارية على التّخفيض في عدد الأعوان العموميّين وذلك باعتماد آليات مستحدثة مثل “الإحالة على التقاعد قبل بلوغ السن القانونية” و”العطلة من أجل بعث مؤسّسة خاصة”، الخ…
ومن أوجه التقشّف أيضا التّخفيض في اعتمادات الدّعم ذلك أنه تم التّخفيض بـ 138 م.د. ليصبح إجمالي اعتمادات الدّعم 11337 م.د. مقابل 11475 م.د. محيّنة لسنة 2023. وينضاف إلى ذلك إثر هذا النّقص آثار عدم توفّر العديد من المواد الاستهلاكية الأساسية في المقدرة الشّرائية للمستهلكين.
أمّا المظهر الآخر للتقشّف فهو الأثر غير المباشر للاختيارات الاقتصاديّة المتّبعة والمتمثّل أساسا في محدوديّة حجم الاعتمادات المخصّصة للتّنمية والاستثمار ذلك أنّ مجموع 5274 م.د. لا تمثّل إلا 6.7 % من مجموع الميزانيّة وهو ما لا يسمح ببعث مشاريع وبالتّالي لا يسمح بخلق الثّروة وتوفير حاجات استهلاك المواطنين، كما لا يسمح بخلق مواطن شغل للعاطلين عن العمل وللوافدين الجُدد على سوق الشغل من الشبّان الذين أصبحوا في سنّ الشغل.
ويتّضح ممّا سبق تبيانه أنّ توجّه التقشّف الذي يميّز ميزانية 2024 له تبِعات مُضرّة بالخصوص بمصالح الفئات الفقيرة ومحدودة الدّخل من الجماهير الشعبيّة. ويتمثّل هذا الضّرر أولا في غياب فرص الشّغل وثانيا في عدم كفاية الدّخل (إن وُجد) لمواجهة تكاليف العيش بالنظر لارتفاع الأسعار وتصاعد نسبة التضخّم التي من المتوقّع أن تكون بمعدّل لا يقلّ عن 9 % وهي نسبة مرتفعة بالنّسبة لمستوى الأجور ومستوى العيش في تونس.

2. ميزانية التّداين
تحتاج ميزانية 2024 لاقتراض ما لا يقلّ عن 28188 م.د. وهي أعلى نسبة لم يسبق في تاريخ تونس أن بلغ حجم حاجة الميزانية للاقتراض لمثل هذا المستوى. نسجّل هذه السّابقة والحال أنّ شعار الدولة هو “التّعويل على الذات” شعار كان أطلقه الرّئيس قيس سعيد تعليقا على ما لاحظه على الاتّحاد الأوروبي من “مُماطلة” و”تلاعب” باتّفاق الشراكة الاستراتيجيّة التي عقدها معه شهر جويلية الماضي. وكما سبق قوله ينقسم هذا المبلغ إلى 16544 م.د. سيتعيّن إيجاد من في الخارج، دُول ومؤسّسات مانحة وسوق ماليّة خاصة، يقبل بتمكين تونس منها والبقية أي 11743 م.د. كقروض من السّوق الداخلية وبالتّحديد من البنوك والمؤسّسات المالية المحلية. وحسبما جاء في التّقرير حول الميزانية فإنّ الحكومة التونسيّة قد رصدت بعض المصادر الخارجيّة للحصول على ما مجموعه حوالي 4160 مليون دينار. (السعودية 1600 م.د.، الجزائر 965 م.د.، البنك الإفريقي للتّصدير والاستيراد 1264 م.د.، البنك العالمي 218 م.د. الخ…) ولكنها لم تتمكّن بعد من تحديد مصادر الاقتراض بالنّسبة للمبلغ المتبقّي وهو أكثر من 10300 مليون دينار. ونعتقد أنّه في صورة استمرار موقف صندوق النقد الدّولي “المُناوئ” سيكون من الصّعب إن لم نقل من المستحيل أن تتوصّل الحكومة التونسية إلى الحصول على هذا المبلغ وفي هذه الحالة سيتعمّق عجز الميزانية ليبلغ ضعف النسبة المقدّرة في مشروع الميزانية الحالي. إن تونس تعيش اليوم، جرّاء ذلك الموقف، حصارا ماليّا عالميّا لا يبدو أنها قادرة على فكّه في ظل علاقة الجفاء بين صندوق النقد الدولي وقيس سعيد شخصيا.
أمّا بالنسبة للاقتراض الدّاخلي فإنّ مشروع الميزانية يعوّل على تعبئة 11743 م.د. عبر إصدارات متنوّعة سندات الخزينة (القرض الرّقاعي الوطني، رقاع الخزينة 52 أسبوع الخ…) إلى جانب الآليّة الجديدة التي ما انفكّت الحكومة في عهد قيس سعيد تعمل بها وهي القرض البنكي بالعملة. ويذكر في هذا الصّدد أنّ البنوك التونسية لم تعد متحمّسة لشراء سندات الخزينة أوّلا لتصاعد الضّغط عليها بشكل يفوق أحيانا قدراتها التّمويلية من جهة وبسبب طول آجال استرجاع رأس المال ومحدوديّة قيمة الفوائد المترتّبة عن عمليات الشراء من ناحية أخرى.
ومعلوم أنّه عند اللّجوء إلى هذا الحجم الهائل من القروض (الخارجيّة منها والداخلية) على غرار ما هو مُبرمج للسنة القادمة 2024 (28188 مليون دينار أي تقريبا ما يزيد عن 36 % من المداخيل المتوقّعة للميزانية)، تنجم عنها جملة من المشاكل منها أوّلا الترفيع من حجم المبالغ الواجب تسديدها سنة بعد سنة. فنتيجة لمسار التّهافت على الاقتراض يبلغ ما يتعيّن علينا تسديده سنة 2024 أكثر من 24700 م.د. مقابل 20810 م.د. سنة 2023 أي بزيادة 3891 م.د. (18.7 %) وهكذا نرى بالملموس عمليّة استنزاف المالية العموميّة ورهن الاقتصاد التونسي لدى مؤسّسات التسليف العالمية (دولا ومؤسّسات) وأنّ هذه السياسة تحوّلت إلى مُعطّل جدّي للتّنمية ذلك أنّه وكما هو ملاحظ يمثّل تسديد الدّيون السنة القادمة حوالي خمْس مرّات حجم ميزانية التّنمية والاستثمار.
ومن المشاكل المُنجرّة أيضا عن الهرولة نحو التّداين ارتفاع نسبة الضّغط الجبائي إذ أنّ الحكومة ومن أجل تحسين مداخيل الجباية تضطرّ إلى تشديد الإجراءات الجبائيّة سواء بالزيادة في معاليمها أو بإحداث إجراءات جديدة والتّنويع فيها. مثال ذلك قرّرت الحكومة في ميزانية 2024 إلزام المؤسّسات المالية (بنوك ومؤسّسات تأمين الخ…) بدفع معلوم ظرفي لفائدة الميزانية “يُحتسب المعلوم المذكور بنسبة 4 % من الأرباح المُعتمدة لاحتساب الضّريبة على الشّركات التي يحُلّ أجل التّصريح بها خلال سنتي 2024 و2025 مع حدٍّ أدنى بـ10.000 دينار سنويا” حسبما جاء حرفيّا في الفصل 49 من مشروع قانون المالية. وقد سارعت المؤسّسات المعنيّة بالاجتماع لتنسيق الموقف وقرّرت تثقيل هذا المبلغ على حرفائها ضمن أسعار الخدمات المقدّمة. ما معناه أنّ الحريف، أي المستهلك في هذه الحالة وكل الحالات الشّبيهة، هو من يتحمّل تبِعات هذه الإجراءات.

3. ميزانية تُطيع تعليمات صندوق النقد الدولي
جسّمت ميزانيّة 2024 انخراط السّلطة في تونس في ما يسمّى بـ”الإصلاحات” وتنفيذها عبر قرارات ماليّة ملموسة منها أوّلا الحطّ من نسبة كتلة الأجور من النّاتج المحلّي الإجمالي حيث نزلت من 14.7 إلى 13.5 وبذلك اقتربت من النّسبة التي حدّدها الصندوق كشرط من شروط الموافقة على القرض الممدّد. من جانب آخر تمّ التخفيض في حجم الاعتمادات المخصّصة للدّعم بـ 138 م.د. ليصبح إجمالي اعتمادات الدّعم 11337 م.د. مقابل 11475 م.د. محيّنة لسنة 2023. وهو كذلك خطوة باتّجاه التقليص فيه بما يخفّف العبء عن ميزانية الدولة. وهو إجراء ليبرالي الغاية منه القضاء على المكاسب الجزئيّة التي فرضها الشعب التونسي في مراحل سابقة من نضاله من أجل حماية المقدرة الشّرائية. أمّا الإجراء الرّابع الذي بموجبه تمّت الاستجابة لإملاءات صندوق النقد الدولي فهو بعض الإجراءات الجبائيّة التي اعترف بها محافظ البنك المركزي حين قال “الإصلاحات التي تمّت مناقشتها مع الصندوق وقع تجسيدها وتطبيقها ضمن قانون المالية لسنة 2023 على غرار التّرفيع في الأداء على القيمة المُضافة للمهن الحرّة” علاوة على الإجراءات الأوّلية لتفكيك نسيج المؤسّسات العمومية عبر ما يسمّى “إعادة هيكلة رأسمالها”.

4. ميزانية من دون رؤية وذات برنامج شكلي
رغم ما قيل من أنّ الميزانيّة تندرج ضمن “رؤية لتونس 2035 تقوم على منوال تنموي جديد يرتكز على التّجديد والإدماج والاستدامة” وعلى “تنمية جهوية عادلة وتهيئة ترابية دامجة” فإنّ الحقيقة غير ذلك تماما وسوف نتبيّن ذلك من خلال أهمّ الأهداف التي وُضعت لهذه الميزانية والتي كما ورد نصّه تتمثّل في :

1. تكريس الدّور الاجتماعي للدّولة وتأمين تزويد السّوق بالمواد الأساسية
2. دعم قطاع الفلاحة والصّيد البحري والموارد المائية
3. دعم الإدماج المالي للمؤسّسات الصّغرى والمتوسّطة وتشجيع الادّخار ودفع الاستثمار
4. إرساء آليّات بديلة لتمويل نفقات الدّعم
5. دعم الاقتصاد الأخضر والتّنمية المُستدامة
6. مقاومة التهرّب الجبائي وإدماج القطاع المُوازي
7. دعم الامتثال الضّريبي وتكريس مزيد من الضّمانات للمطالب بالأداء
8. دعم توازنات المالية العمومية

ولتحقيق هذه الأهداف كان رئيس الحكومة يوم عرض الميزان الاقتصادي (أي التّقرير العام حول الميزانية) أشار إلى أنّ “رؤية لتونس 2035” تقوم على منوال تنموي جديد يرتكز على التّجديد والإدماج والاستدامة من خلال المحاور الستّة التالية :• تنمية جهوية عادلة وتهيئة ترابيّة دامجة،
• عدالة اجتماعية أساس التّماسك الاجتماعي،
• رأس المال البشري قِوام التنمية المستدامة،
• اقتصاد المعرفة محرّك الابتكار والتّجديد،
• اقتصاد تنافسي ومتنوّع داعم للمبادرة الخاصة،
• اقتصاد أخضر متأقلم مع التغيّرات المناخية

وعسى أن نعود في فرصة أخرى لنقاش مضمون “منوال التّنمية الجديد” بمحاوره الستّة الواردة أعلاه نكتفي بالقول إن هذه المحاور لا هي بمنوالٍ ولا هو بجديدٍ وأنّ الأمر لا يعدو أن يكون غير خطاب خشبيّ قديم نعثر عليه في خطب رؤساء حكومات بن علي كما لدى مهدي جمعة ويوسف الشّاهد وغيرهم. أمّا أهداف الميزانيّة التي أوردناها حرفيًّا من نص التقرير الحكومي فهي عناوين لإجراءات جزئيّة وشكليّة تندرج ضمن منوال التنمية القديمة المعمول به والذي أودى بتونس إلى الخراب الاقتصادي والانخرام الماليّ.

فبخصوص البند الأوّل من أهداف الميزانية وهو “تكريس الدّور الاجتماعي للدّولة وتأمين تزويد السوق بالمواد الأساسية” فإنّ الإجراءات التي ستُتّخذ تحت هذا العنوان هي في أغلبها إجراءات إداريّة وتنظيمية ولا تزيد عن :

• إحداث حساب دعم تطوير المنظومة القضائية العدليّة (توظيف 10 دنانير على أوامر الدّفع والأذون على عرائض الهِبات الخاصة الخ…)
• إحداث حساب خاص في الخزينة لتمويل تنقّلات حضريّة (يموّل بنسبة من معاليم تسجيل العربات ورُخص النقل)
• خطّ تمويل بـ 20 م.د. لإسناد قروض بدون فوائض بـ 10 آلاف دينار على الأقصى في مشاريع خاصّة مبتكرة
• تمكين شركة اللّحوم بقرض 2 م.د. في إطار إعادة هيكلة رأس مال المؤسّسات العمومية، بالإضافة إلى تخلّي الدولة عن مستحقّات ديوانية في حدود 4.5 م.د.
• التحكّم في أسعار مادّتيْ القهوة والشّاي المورّدة.

وعلى غرار ذلك، الإجراءات التي ستتّخذ ضمن بقيّة الأهداف المنصوص عليها والتي لا نرى فائدة في ذكر تفاصيلها هنا حتى لا نثقل النصّ بتفاصيلٍ، لا ترتقي مطلقا لأن تكون بنود برنامج تنمويٍّ بديل بالمعنى الحقيقي للكلمة.

لقد عاشت تونس على وقع هذه التوجّهات الترقيعيّة حتى سقطت في هوّة أزمة عميقة وشاملة تحمل في طيّاتها كل أسباب الانهيار، وليس لها أملٌ في الإفلات من هذا المصير المؤلم والمخيف غير القطع مع هذا النّمط من التّسيير وهذا البرنامج الذي يكرّس التخلّف والتبعيّة والفقر. يبقى السّبيل الوحيد هو برنامج بديل بأتمّ معنى الكلمة يستند إلى رؤية اشتراكية توظّف المقدّرات المادّية واللّامادية للبلاد وفق خطّة تنمية تقوم على إصلاح زراعيّ عميق وتصنيعٍ مدروس وتنميةٍ متطوّرة للخدمات واعتماد منهجيٍّ على البحث العلمي وآخر مبتدعات التّقنية. ولمزيد تفصيل ذلك سنعود للموضوع في فرصة قادمة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×