الرئيسية / الافتتاحية / 17 – 14 أيام خالدة لن يقدر أحد على محوها من تاريخ تونس
17 – 14 أيام خالدة لن يقدر أحد على محوها من تاريخ تونس

17 – 14 أيام خالدة لن يقدر أحد على محوها من تاريخ تونس

جيلاني الهمامي

يوم 17 ديسمبر هو واحد من الأيام التي يعتز بها الشعب التونسي وكل الثوريين من أبنائه. في هذا التاريخ من عام 2010 أفاق الشعب التونسي على حادثة كان من الممكن أن تكون حادثة عرضية وبسيطة وهي حادثة وفاة الشاب التونسي محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد. هو شاب كالكثير من الشبان التونسيين كان يصارع ويكابد من أجل العيش بالمعنى المادي للكلمة ومن أجل الحياة بالمعنى الشامل للكلمة. ولكنه اصطدم بقمع نظام الحكم فأقدم على حرق نفسه. وقد وجد شباب تونس في استشهاد البوعزيزي من أجل العيش الكريم والحرية إشارة تلقّفها فورا ليعلن انطلاق مسار احتجاج سرعان ما تحول إلى انتفاضة شعبية أقضت مضجع نظام بن علي الدموي. فكان يوم 17 ديسمبر يوم اندلاع شرارة الثورة في تونس، ثورة الحرية والكرامة، هذه الثورة التي استغرقت شهرا انتهى بفرار بن علي رمز النظام البرجوازي العميل الدموي يوم 14 جانفي 2011. وكان هذا التاريخ الشقيق التوأم ليوم 17 ديسمبر.

وقد دأب الشعب التونسي على امتداد أكثر من عشر سنوات يحيي ذكرى هذين اليومين كل سنة لما يمثلان بالنسبة إليه على أكثر من صعيد ومستوى. لكن منذ مجيء قيس سعيد إلى الحكم بدأ السعي إلى فسخ هذه الذكرى ومحوها من ذاكرة التونسيين ووجدانهم. في البداية جرى الفصل المتعسف بين 17 ديسمبر و14 جانفي في حين أنهما محطتان مترابطتان وطنيا ونضاليا في مسار ثوري واحد. ويجري الآن العمل بشكل حثيث على إحالة هذه الذكرى تدريجيا على النسيان وتغييب الاحتفال بها لغايات معلومة.

يحاول قيس سعيد كما فعل من قبله بن علي إعادة كتابة تاريخ تونس والشعب التونسي. وضمن هذا المسعى يريد أن يمحو نضالات التونسيين من أجل الحرية والكرامة الوطنية وفي المقابل من ذلك يريد أن يحلّ محلّ ذلك مفاهيم العهد الشعبوي الجديد وشعاراته و”إنجازاته” الوهمية.

إنّ الشعب وحده من يكتب التاريخ لأنّ التاريخ من صنع الجماهير وليس من صنع الأفراد حتى وإن كانوا زعماء ناهيك إن كانوا زعماء من طينة دون كيشوط. فبورقيبة رغم الفارق الكبير بينه وبين قيس سعيد مثلا لم يتمكن من أن يثبت في ذهن أجيال ما بعد 56 أنه هو صانع تاريخ تونس و”مجدها” رغم كل الدعاية والقصف الأيديولوجي الذي قام به لمدة حوالي ثلاث عشريات. رغم كل ذلك لم تمح من ذاكرة التاريخ علامات كثيرة من نضال الشعب التونسي من زمن الدغباجي وبن سديرة والجرجار وفرحات حشاد وعمال صفاقس وفلاحي برج السدرية والنفيضة وبوسالم ومعارك جبل برقو ومجاز الباب وغيرها.

نفس الأمر بالنسبة إلى بن علي الذي أراد أن يلخص تاريخ تونس في حركة 7 نوفمبر الانقلابية وما يسمى بـ”العهد الجديد”. ولكنه لم يستطع القضاء على ذكرى نضالات الفلاحين التونسيين في الستينات أو أمجاد الحركة النقابية في 26 جانفي 78 التي لعب فيها دور الجلاد الدموي كما فشل في محو آثار نضالات الجماهير الشعبية ضد سياسة التفقير والتجويع في جانفي 84 وغيرها من المناسبات الأخرى والنضالات الطلابية والشعبية.

إنّ مثل هذه المساعي مآلها الفشل لأنه وكما سبق قوله التاريخ من صنع الجماهير وليس بمقدور أحد أن ينسب لنفسه أمجادا لم يكن له فيه أيّ دور خصوصا إذا كان من يدعي ذلك ليس غير نكرة من وجهة نظر التاريخ المدون والمشهود به بمختلف أشكال الرواية والتسجيل.

ومعلوم أيضا أنّ كل الذين أرادوا السطو على منجزات جماهير الشعب – بصرف النظر عن حجمها وأهميتها – هم عادة من طينة المستبدين المهووسين بالشهرة والمسكونين بحب النفوذ والسيطرة. ومن قوانين التاريخ أن نهاية هذا الرهط كانت على الدوام تقريبا نهاية مأساوية مثلما حصل لبورقيبة ولبن علي. ذلك لأنهم كانوا على الدوام يسبقون اعتبارات “ذاتهم” على احتياجات الشعب ومعاناته ومصالحه ومطامحه وأهدافه. وكان يخيل إليهم دوما أنّ سكون الجماهير وقبولها بالخضوع لمدة طويلة من الزمن علامة على انتصار أبدي. ولكن الشعب يلقنهم في حقبة من الزمن الدرس الذي يتعامون عن استيعابه.

إنّ الشعب التونسي الذي خفض جناح الذل لبورقيبة ولبن علي نهض في كل مرة بعد طول سكون وزعزع أركان نظام الحكم لمّا أجبر بورقيبة على التنازل والتراجع صاغرا عن قراراته المؤلمة أو أجبر بن علي على الفرار ذليلا واللجوء إلى المنفى الاختياري.

هذا الشعب الذي يبدي اليوم حالة من السكون والخضوع بما يشبه أحيانا تلذذ العذاب والمهانة إنما يكتنز ما يلزم من الغضب والحنق للموعد الذي سيقرره هو وحده ولا شريك له. وهنا لا بد من استحضار قولة الشاعر التونسي الفذ أبو القاسم الشابي “حذار فتحت الرماد اللهيب”.

فقد أفلح من استوعب دروس تاريخ الشعب التونسي وقد خاب من سها عنها أو تغاضى أو تجاهلها وتكبّر عنها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×