الرئيسية / صوت الوطن / في ذكرى 14 جانفي 2011: الأزمة الثورية… وأزمة الثورة في تونس
في ذكرى 14 جانفي 2011: الأزمة الثورية… وأزمة الثورة في تونس

في ذكرى 14 جانفي 2011: الأزمة الثورية… وأزمة الثورة في تونس

بقلم جيلاني الهمامي

نحيي هذه الأيام ذكرى الثورة التونسية المجيدة وبالتحديد ذكرى يوم 14 جانفي 2011 يوم فرار بن علي من أمام الغضب الشعبي العارم الذي كان قد اندلع قبل حوالي شهر من ذلك وتحوّل إلى انتفاضة شعبية أصرّت بكلّ قوّة على الإطاحة بمنظومة الحكم عملا بالشعار الذي ردّده الجميع “الشعب يريد إسقاط النظام”.
ونحن نحيي هذه الذكرى يتعيّن علينا في هذا الظرف بالذات أن نُعيد طرح أكثر الأسئلة إلحاحًا وأوّلها : أين نحن من مسار تلك الثورة التي أطاحت بنظام بن علي؟ ويتبيّن لنا من خلال الإجابة عن هذا السؤال أن ذلك سيقودنا بالضرورة إلى التفاعل مع سلسلة من الأسئلة الأخرى التي تطرحها وأن لا محيد عن الإجابة عنها كلّما تعلق الأمر برسم صورة تقييمية شاملة للمسألة. ورغم أن المساحة (مقال صحفي في الجريدة) لا يتّسع لمثل هذا العمل سنحاول أن نركّز عمّا جاء في العنوان أعلاه للإجابة عن نقطتين فقط هما : الأزمة الثوريّة وأزمة الثورة في تونس.

ما هي الأزمة الثورية من وجهة نظر ماركسية؟

إنّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية (التي عامّة ما تقترن بأزمة سياسية) ظاهرة ملازمة للأوضاع العامة في تونس (كما في عديد البلدان الشبيهة) على امتداد عقود من الزمن. والحالة ناجمة بطبيعة الأمر عن السيرورة التاريخية التي تطورت فيها البلاد. فالاقتصاد التونسي كان على الدوام “اقتصاد ندرة واحتياج” إذا صحت الترجمة للعبارة الفرنسية économie de rareté et de besoins وغلب عليه الطابع الرّيعي تحت سيطرة أقلية طفيلية مرتبطة بالخارج ما حكم عليه بالقصور عن تحقيق نسق تراكم يؤدي إلى النمو والتطور ويسمح بتوفير الاكتفاء لإشباع حاجات الجماهير الشعبية وطلباتها. لذلك عانى المجتمع التونسي دائما من آفات الفقر والاحتياج (فضلا عن الاستغلال والقمع) وظلّ بالتالي عرضة للأزمات سواء الناجمة عن تعطل النمو الاقتصادي أو المستوردة من الخارج خاصة في ظلّ التبعية والاندماج بمنظومة العولمة.
في وجه آخر من المسألة تمثل هذه الخاصية التي تميز تاريخ وطبيعة المجتمع/الاقتصاد التونسي الإطار الطبيعي لصراع طبقي لم يهفت بل واتخذ أحيانا طابعا سافرا عبّرت عنه اصطدامات اجتماعية على هذه الدرجة أو تلك من الحدة. فلم يكن بوسع الطبقات الحاكمة الحفاظ دائما – وبسهولة – على حالة الوئام العام والاستقرار الاجتماعي والسياسي. وحتى إن أمكن لها ذلك لردهات من الزمن، فبواسطة استعمال القمع والقهر وبالاعتماد على مؤسساتها القسرية (الجيش والبوليس والمحاكم والسجون). غير أنّ ذلك لم يضمن لها بالضرورة بسط سيطرتها بالأريحية المطلوبة ووجدت نفسها في أكثر من مرة – ولو بشكل مؤقت – في حالة دفاعية أمام مدّ الغضب الشعبي.
إن سيرورة التاريخ متعرّجة تتعاقب فيها و”تتناوب فترات الاستقرار البنيوي (حيث تتجدد العلاقات الاجتماعية من دون حدوث تغييرات غير كمية) وأطوار تحوّل نوعي ناتج عن الأزمات”(1). فكما تحكمت الطبقات الرجعية السائدة على العموم في الأوضاع فإن ذلك لم يمنع في أكثر من مرّة أن “تفلت الأمور من يدها” فتحدث هزّات اجتماعية تهدّد سير الحياة العامة في كل أبعادها بالانخرام. بعبارة أخرى شهد تاريخ مجتمعنا، الذي هو في الأساس تاريخ هيمنة الطبقات المالكة الرجعية والعميلة للخارج، أزمات ثورية يختلّ فيها نظام سير العلاقات داخل المجتمع وتنقلب علاقة الحاكم بالمحكوم ولو لبضعة أيام. فعندما تتفاقم حالة الفقر والبؤس في أوساط الطبقات والفئات الاجتماعية المستغلة والمقهورة وينتشر الظلم والنهب والاستبداد ويفتقد الناس أبسط الحقوق المادية والمعنوية وتنتشر جميع مظاهر الفساد تنشأ مشاعر الاستياء والتذمر التي يمكن أن تنقلب بسرعة إلى حركة احتجاج فتمرّد تأخذ في أوج تطورها طابع الانتفاضة والثورة الاجتماعية. في كلمة يدخل المجتمع في أزمة ولكنها أزمة ثورية أي أنها أزمة تهيئ البلاد إلى ثورة، إلى عملية تغيير، إلى حركة لتهديم النظام القديم بكل مكوناته.
لقد عاشت تونس مثل هذه الأوضاع في أكثر من مرة. ففي شتاء 1978 كثّف نظام الحكم البورقيبي بقيادة الهادي نويرة وتائر الاستغلال والقمع بدرجة جعلت الطبقات الشعبية، وعلى وجه الخصوص العمال وسائر الكادحين، يفقدون القدرة على مزيد تحمل أوضاع المعيشة لينتقلوا من مجرد التذمر إلى الاحتجاج فتصاعدت الحركة الإضرابية حتى بلغت في وقت من الأوقات المصادمة العنيفة مع أجهزة القمع، البوليس والجيش وميليشيات الحزب الحاكم، فكانت ملحمة 26 جانفي العظيمة التي قابلت بين النظام البرجوازي المتعفّن من جهة والطبقة العاملة التونسية وكافة الفئات الشعبية الأخرى من جهة أخرى.
لقد عاشت تونس من الناحية الموضوعية ثورة حقيقية بقيادة الطبقة العاملة. وكان من الممكن أن تؤدي إلى قلب نظام الحكم ومن ثمة إلى تغيير الأوضاع العامة في البلاد. غير أن غياب جملة من الشروط الأخرى مكّن النظام الدستوري آنذاك من إغراق تلك الملحمة في الدم والسيطرة على الوضع. وقد تكرّرت مثل هذه الوضعية في جانفي 1984 فيما يعرف بثورة الجياع أو ثورة الخبز، وفي وقت لاحق في انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 وذيولها في بوسالم والصخيرة وفريانة وغيرها من الجهات.
في كلّ هذه المناسبات كانت البلاد كما يقول لينين في “أزمة وطنية عامة (تشمل المستثمرين والمستثمِرين معاً)”(2) أي في أزمة ثورية ولكن كل هذه الأزمات الثورية لم تتوصّل إلى تحقيق أهدافها أي إنها لم تتحوّل إلى ثورات ظافرة. لأنه وكما قال لينين فـ”إن قانون الثورة الأساسي الذي أثبتته جميع الثورات وخاصة جميع الثورات الروسية الثلاث في القرن العشرين يتلخص في ما يلي : لا يكفي من أجل الثورة أن تدرك الجماهير المستثمرة والمظلومة عدم إمكانية العيش على الطريقة القديمة وأن تطالب بتغييرها. إن من الضروري أيضاً لأجل الثورة أن يغدو المستثمرون غير قادرين على العيش والحكم بالطريقة القديمة. إن الثورة لا يمكن أن تنتصر إلاّ عندما تعزف «الطبقات الدنيا» عن القديم، وعندما تعجز «الطبقات العليا» عن السير وفق الطريقة القديمة… وذلك يعني أنه من أجل الثورة، ينبغي أولاً التوصل إلى جعل أكثرية العمال (أو على كل حال أكثرية العمال الواعين المفكرين والنشيطين سياسياً) مدركة كل الإدراك ضرورة الانقلاب، ومستعدة للمضيّ إلى الموت في سبيله. ثانياً، أن تعاني الطبقات الحاكمة من أزمة حكومية تجذب إلى حلبة السياسة حتى أكثر الجماهير تأخرًا (إن علامة أية ثورة حقيقية هي أن ممثلي الجماهير الكادحة والمستثمرة والخاملة حتى ذلك الحين، الذين بوسعهم أن يشنوا الكفاح السياسي، يتصاعد بسرعة إلى عشرة أضعاف بل إلى مئة ضعف) فتوهم الحكومة وتجعل إسقاطها السريع أمراً ممكنا للثوريين”(3).
لقد كانت انتفاضة الحوض المنجمي بمثابة “التمرين الأخير” كما يقول لينين، ذلك أن إخمادها بالحديد والنار والمحاكمات والسجون لم يمنع جماهير الشعب من العودة إلى محاولة أخرى شتاء 2010 – 2011. ولم يكن اندلاع الاحتجاجات الشعبية إثر حادثة الشهيد محمد البوعزيزي غير استجابة موضوعية لـ”نضج الشروط الموضوعية” لقيام ثورة من جديد، أي تعبير عن الأزمة الثورية التي كانت تعتمل في رحم المجتمع التونسي المأزوم. لقد اجتمعت كلّ العوامل لاندلاع الانتفاضة بما في ذلك الطابع الفجائي والمباغت للأحداث تماما كما يقول لينين : “لا يوجد معجزات في الطبيعة أو التاريخ، ولكن كل منعطف فجائي في التاريخ، وهذا ينطبق على كل ثورة، يتكشّف عن ثروة من المضامين، وعن تركيبات متعدّدة من أشكال النزاع، وعن اصطفافات قوى بين المتنازعين، مفاجئةً ومميّزة، إلى درجة أنه يتبدّى للعقل العادي أنّ في الثورات الكثير من قبيل المعجزات”(4)، واجتمعت فيها كل خصائص الثورة تقريبا إلا خاصية أساسية وهي نضج الشرط الذاتي للثورة. وبطبيعة الحال فإن هذه النقيصة “القاتلة” للثورة كانت العامل الحاسم في قصورها عن تحقيق التغيير العميق حتى تستحق إسم “ثورة” وفي عودة الثورة المضادة في أشكالٍ عدّة وبعناوين كثيرة في وقت لاحق لتمحو آثار ما أنجزته.

أزمة الثورة التونسية

حملت الثورة منذ البداية، أي منذ لحظة فرار بن علي والإعلان عن سقوط نظام الحكم، عاهة جوهرية تسببت في مظاهر الفشل التي ظهرت على امتداد مسار الصراع الذي قابل بين محاولات تطويرها وتعميقها من قبل القوى الثورية وفئات كثيرة من الشعب وبين قوى الثورة المضادة سواء التي تنحدر من النظام القديم أو التي جاءت بها الثورة نفسها مثل النهضة ومجموعات الإسلام السياسي المتطرف الأخرى وكذلك التيار الشعبوي. وتتمثل هذه العاهة في أنها، أي الثورة، لم تكن ذات طابع طبقي واضح بل طغى عليها العنصر البرجوازي الصغير من مهمشين وموظفين وأصحاب مِهنٍ حرّة وحِرف ومن أصول ريفية فيما لم تخرج الطبقة العاملة عن حدود المناوشة التي رسمتها لها البيروقراطية النقابية. كما تتمثل هذه العاهة في غياب البرنامج الثوري.
لقد بلورت مسيرات الأيام الأولى من الثورة واشتباكات الشباب ليلا مع قوات البوليس شعارات كثيرة بتأثير من الشباب المثقف والعناصر النقابية المنحدرة من تيارات اليسار شعارات كثيرة أصبح شعار “شغل حرة كرامة وطنية” هو مضمونها الرنامجي وشعار “الشعب يريد إسقاط النظام” المهمة المركزية للإنجاز mot d’ordre de la révolution. ولكن تلك الشعارات بكلّ مضامينها وما فيها من دعوات عمل ومهمّات لم ترتق الى برنامج الثورة. ما من شك أن اندلاع الأحداث بشكل فجائي قد باغت القوى السياسية الثورية التي كانت تعاني من العزلة والضعف والهامشية بحيث لم يكن بمقدورها توفير البرنامج الذي كانت تحتاجه الثورة.
ويعتبر غياب القيادة المركزية هو نقطة الضعف الأكبر والأخطر، إذ في غياب هذه القيادة لم يكن للثورة المركز الذي يوحّد أعمالها ويصهرها في ديناميك فاعل يصنع النصر ويقوّض كل مرتكزات النظام القديم ويتحكم في كلّ الانفلاتات التي من شأنها أن تزجّ بالثورة في انحرافات غير محسوبة وتخلق لها مصاعب فتعطل مسيرتها وتشوّهها. إن غياب القيادة المركزية للثورة هو السبب الرئيسي في فشلها وفي عجزها عن تحقيق أهدافها العميقة، وبخاصة عجزها عن افتكاك الحكم من الطبقات القديمة وتمكين الطبقات الكادحة وقوى الثورة منها أولا، ونتيجة لذلك عجزها عن القيام بتفكيك العلاقات الاجتماعية والاقتصادية القديمة التي كان يقوم عليها النظام القديم وتعويضها بعلاقات جديدة لصالح الطبقات والفئات الشعبية الكادحة.
لقد مثلت كل هذه النقائص الجوهرية التي ميّزت الثورة في تونس المنفذ الذي عبره تسلّلت القوى المضادة للثورة بشكل مبكّر لتزرع في مفاصل مسار الثورة كلّ أسباب تعطله وانحرافه. من هذه الثغرات دخلت الثورة المضادة واستولت على مركز القرار في نظام الحكم ما بعد الثورة، حتى وإن تمّ ذلك عبر صندوق الاقتراع. ومن هذه الثغرات استعادت الطبقات والفئات البرجوازية الرجعية والعميلة نفوذها ووضعت أجهزة الحكم الجديدة تحت مشيئتها لتضمن لها مجدّدا مصالحها وتحميها من تغيير الثورة. ويمكن القول إن الثورة في تونس دخلت في أزمة بشكل مبكّر حالما توصّلت إلى الإطاحة بنظام بن علي. وازدادت أزمتها حدّة على امتداد فترة حكم حركة “النهضة” و”نداء تونس” اللذان كانا يعملان على غلق قوس الثورة بشكل تدريجي. لقد جرّت حكومات ما بعد الثورة البلاد إلى نوع من الديمقراطية المتعفنة في ظلّ أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة. وعلى قدر ما كانت هذه الظروف تساعد على نهوض الثورة من جديد بالنظر لنضج شروطها الموضوعية كانت في ذات الوقت تزرع مصاعب أكثر تعقيدا في وجه أيّ نهوض ثوري. وهو ما يفسّر بقدرٍ ما صعود تيارات شعبوية منها الفصيل الشعبوي اليميني بقيادة قيس سعيد الذي استغلّ تعفّن منظومة الحكم وترهلها ليغالط الشعب التونسي المحبط والمصاب بخيبة أمل كبرى بعد سنوات من النضال.
وبطبيعة الحال لم يكن صعود قيس سعيد للحكم مكسبا للشعب التونسي وللمسار الثوري بقدر ما كان انتكاسة إضافية عمّقت أزمة الثورة في تونس أكثر فأكثر. وليس من المبالغة في شيء القول اليوم بأن الثورة التونسية تعيش أسوأ مرحلة في تاريخها، إذ “تتظافر” جملة من العناصر أبرزها تراجع حالة الوعي العام بشكل رهيب وعزوف الناس عن الاهتمام بالشأن العام وسيطرة المفاهيم والأفكار الشعبوية اليمينية واستقالة جزء من النخبة وانجرار جزء آخر، ممّا يسمّى زيفًا بالقوى التقدمية واليسارية، وراء قيس سعيد في مسعى انتهازي للفوز بفتات سياسي ومادي. ولا شكّ في أن تجاوز هذه الحالة سيتطلب بعض الوقت وسيحتاج عملا دعائيا ونشاطا ميدانيا كبيرا من أجل استئناف مسار مراكمة جديدة باتجاه عودة حركة النضال من أجل ثورة جديدة تخلّص تونس ممّا تردّت فيه على جميع الأصعدة.

الهوامش:
(1) معجم الماركسية النقدي، جيرار بن سوسان – جورج لابيكا، دار الفارابي، ص44.
(2) مرض “اليسارية” الطفولي في الشيوعية، لينين – الشيوعية «اليسارية» في إنجلترا، ص37.
(3) المصدر السابق.
(4) أطروحات أفريل، لينين.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×