الرئيسية / صوت النقابة / الاتحاد العام التونسي للشغل:
الاتحاد العام التونسي للشغل:

الاتحاد العام التونسي للشغل:

التجمّع العمالي 2 مارس؛ ثم بعد؟

بقلم جيلاني الهمامي

ونجح تجمّع 2 مارس…

حقّق التّجمّع العمالي الذي نظّمه الاتحاد العام التونسي للشغل صباح يوم السبت 2 مارس 2024 بساحة القصبة، دفاعا عن الحوار الاجتماعي والحق النقابي وتطبيق الاتفاقيات والقدرة الشرائية كما جاء في بلاغات الدّعوة، نجاحا كبيرا. فقد أمكن للاتحاد تعبئة ما يقارب عشرة آلاف نقابي ونقابية من مختلف الجهات وهو رقم يُعدّ صعب التحقيق على كل المكونات السياسية والمنظمات الأخرى وحتى على رموز السلطة بما في ذلك الرئيس قيس سعيد نفسه. لا شك وأن الاتحاد تكبّد مصاريف طائلة لاستقدام ذلك العدد الضخم من الجمهور، وفي هذا الصدد راجت أخبار عن المبالغ التي منحت للجهات لتغطية مصاريف كراء وسائل النقل ومصاريف أخرى. وهو أمر طبيعي إذ من غير الممكن ضمان مثل هذا الحضور دون ذلك الجهد الدعائي والمادي. وكانت النتيجة تماما كما أرادت قيادة الاتحاد لتبلّغ أولى الرسائل وأهمها إلى السلطة: وفي معناها الأساسي أن الاتحاد لم ينته بل مازال يتمتّع بقدرة عالية على التجنيد والتعبئة حتى في الظروف الصعبة كالظرف الحالي.
تتأتى صعوبة الظروف الراهنة من أن البلاد قد وقعت في براثن الثورة المضادة، ثورة مضادة من نوعية خاصة. إنها الشعبوية في نسختها المحافظة الرجعية ذات برنامج انتقائي تلفيقي وخطاب ديماغوجي وتضليلي. وفي هذا المناخ تمّ التشكيك في كل شيء وتدمير كل القيم المرجعية وخلق أرضية خصبة للإحباط والقنوط. وقد ساعدت هذه الأجواء على خلق فراغ من حول مكونات الحركة السياسية (الأحزاب والحركات) والمدنية (النقابات والجمعيات والمنظمات). علاوة على ذلك تفتتت حركة المطالبة الجماعية والاحتجاج الجماهيري. ولكل ذلك أصبحت التعبئة الجماهيرية لأي نشاط، مهما كان نوعه، أمرا مستعصيا على الجميع لأن الجماهير فقدت الثقة في كل شيء تقريبا. من جانب آخر شنّ قيس سعيد حملة “ناعمة” على الاتحاد مزج فيها بين الدعاية المسمومة والمضادة للاتحاد وبين بعض “الضربات” المنتقاة بعناية تحت عنوان “محاربة الفساد”. فعلى مستوى الدعاية جرى العمل على ترويج صورة الاتحاد الذي تسبب في كل المآسي الاقتصادية جراء طلباته المادية المشطة وكثرة الإضرابات التي خرّبت جهاز الإنتاج وهي عملية تشويه ممنهجة غالطت أوساطا واسعة من الناس. أمّا بالنسبة إلى حملة الايقافات فقد وظّف حساسية عموم التونسيين والتونسيات إزاء آفة الفساد لينتقي بعض الحالات قدمها على أنها نماذج من فساد النقابيين ومظاهر من استغلال المناصب ليضمن بذلك تعاطف الكثير من المواطنين.
ومن جانب آخر فإنّ غياب الاتحاد عن الساحة طيلة سنة كاملة (منذ 4 مارس 2023) أعطى فرصة لعديد الهجمات، بعضها باسم الاحتجاج على انقلاب القيادة على الفصل 20 من النظام الداخلي كي تروّج انطباعا لدى أوساط واسعة من الناس بأن المنظمة النقابية تمرّ بحالة تفكك.
لكل هذه الأسباب وغيرها كان من المتوقع أن تكون عملية التعبئة والتجنيد للتجمع العام يوم 2 مارس ضعيفة ومحدودة.
فأن تنجح هذه العملية ليكون الحضور بمثل تلك الكثافة، رغم كل العوائق التي أتينا عليها، يمثل في حدّ ذاته نجاحا مهمّا لصالح قيادة الاتحاد في ردّها على ما أسمته “استهدافا للمنظمة”، ولها هي بالذات.
لقد كان نجاح التجمع يوم السبت 2 مارس أبلغ رسالة توجهها القيادة إلى الرئيس قيس سعيد في الصراع الناشئ بينهما، وسيكون لهذه الرسالة تداعيات على حسابات كلاّ منهما في الأيام القادمة وفي المستقبل بشكل عام.

حسابات الأيّام القادمة

ما من شك أن نجاح تجمع يوم السبت سيعطي للقيادة (أو بأكثر تدقيق لشقٍّ منها) شحنة معنوية قوية وحجة إضافية للإيمان أكثر بصحة مقاربتها والتي يمثل تنظيم هذا التجمع أول خطوة عملية تؤشر على إمكانية المضيّ قدما في منطق “المواجهة” حتى وإن اتخذت هذه المواجهة شكلا تدريجيا وتصاعديا. أما الشقّ الثاني فسيجد نفسه نوعا ما “مبخوسا” وستصبح أسلحته في الدفاع عن مقاربة اللهث وراء “الوفاق والتفاهم” مع سلطة قيس سعيد غير ذات فاعلية. ومن غير المعلوم الآن ما إذا سيكون هذا التجمع منعرجا لرأب الصدع داخل القيادة النقابية أم منعطفا لمزيد تعمّق الخلافات صلبها. وينبغي أن ننتظر الهيئة الإدارية الوطنية التي ستنعقد في غضون هذه الأيام للحكم على اتجاه هبوب الرياح في صفوف القيادة النقابية.

لكن، وعلى العموم، يمكن القول إن هامش الاختيار بين التصعيد والتهدئة بالنسبة إلى القيادة قد بات ضعيفا، إذ ليست هي من يمسك بناصية المبادرة في هذا الصدد وهي على الأغلب مجبرة على تحديد تكتيكها بناء على سلوك السلطة حيالها كما عبّر عن ذلك الطبوبي في خاتمة خطابه، الأمر الذي من شأنه أن يفعل فعله في المقاربات المعبّر عنها داخل القيادة، من جهة شقّ المواجهة والدفاع عن الاتحاد كما من جهة شقّ التهادن مع السلطة والبحث عن أرضية تفاهم معها.
أمّا بالنسبة للسلطة فليس معروفا بعد كيف ستتعاطى مع هذا المعطى المهمّ وهو قدرة القيادة على تجنيد الاتحاد في وجهها مثلما حصل يوم 2 مارس الجاري. والأقرب للظن أن قيس سعيد سيستمرّ على العموم في استراتيجيته دون تغييرات كبرى، مع احتمال أن يسرّع قليلا في نسق “الخطة” أو يخفّض بعض الشيء. فالمهمّ أن استهداف المنظمة بشكل عام وبعض من قيادتها بشكل أدق هدف لا محيد عنه، ومازال تكتيك التهرئة والتضييق من الداخل عن طريق بعض المعارضين (وليس كل المعارضين) ومن الخارج بإثارة بعض ملفات الفساد المنتقاة بعناية من حين لآخر، تكتيكا ملائما للأوضاع العامة ولطبيعة المعركة وتعقيداتها الداخلية.
وفي هذا الإطار يجري الحديث عن إمكانية تحريك أطراف أخرى في الساحة النقابية مثل إمضاء اتفاقيات جديدة مع نقابة السحباني أو تمكينها من الخصم المباشر (وقد سبق أن وعدت نجلاء بودن بالنظر في ذلك ردًّا على طلب السحباني في لقائهما شهر جانفي الماضي) كرسائل موجهة رأسا لقيادة اتحاد الشغل.
وبصرف النظر عمّا ستكشف عنه الأيام في نوايا هذا وذاك من الطرفين وخطط كل واحد منهما فإن التمعّن في خطاب الأمين العام يوم 2 مارس يمكن أن يدلّنا على الاتجاهات الكبرى التي من المحتمل أن تتجهها العلاقة بين الاتحاد والسلطة من الآن حتى الانتخابات الرئاسية القادمة في مرحلة أولى وبعد ذلك في مرحلة تالية.

خطوة إلى الأمام، خطوة إلى الوراء

في مستوى الشكل راوح الأمين العام في خطابه بين الارتجال وقراءة نص مكتوب. وباختلاف طريقة الإلقاء ارتفعت نبرة الحماس أو هبطت. ومن جانب آخر اختلف نسق الخطاب في بدايته عن نهايته حيث ترك انطباعا بأنه اختصره بشكل فجائي وغير مفهوم، ما يعني أنه ربما أحجم عن قول أشياء كان ينوي الإعلان عنها.
أمّا من حيث المضمون فإن ما يمكن قوله إجمالا هو أن خطاب الأمين العام كان مدروسا بعناية وقد رسم له أهدافا محددة حرص على أن لا يحيد عنها الخطاب. لقد جاء الخطاب نصفه تفسيريا توضيحيا ربما بغاية إقناع الجميع – بما في ذلك السلطة – بأن الاتحاد لم يختر التصعيد وإنما أضطرّ إلى ذلك اضطرارا وأن هذا التجمع ليس الغاية منه تصعيدا إذا ما تعقلت السلطة ونهجت طريق الحكمة والمسؤولية، وشطره الثاني التهديد ولكن في صيغة التنبيه الغاية منه إقناع الجميع بما في ذلك السلطة أن القيادة لن تدع سعيد يأكلها “يوم أكل الثورة الأبيض” أو الأسود كما قال الأمين العام.
غير أن هذا الخطاب الذي أراد المزج بين اللهجة الدفاعية بمسحة توفيقية وبين النبرة الهجومية المرنة لم يوفق كثيرا في مسعاه وترك وراءه كثيرا من نقاط الاستفهام لدى من حضروا أو واكبوا الاجتماع بأيّ طريقة أخرى. لقد ترك انطباعا بأن مستوى الخطاب بقي تحت السقف الذي كان يفترضه حجم التجمع وقد يكون الذين جاؤوا من أبعاد البلاد أحسوا بخيبة أمل خفيفة عزاؤهم في ذلك النجاح العددي.
من المفهوم، بل من الطبيعي، أن يتولى الأمين العام شرح أسباب الخلاف وفيما تجلّى هذا الخلاف ومن المسؤول عنه. ومن المشروع أيضا أن يدفع الاتحاد عن نفسه المسؤولية في التوترات الحاصلة بالنظر للحملة الخسيسة التي شنّت ضده، فحسنا ما فعل الأمين العام حين استعرض سلسلة الاتفاقيات المبرمة والنصوص القانونية الصادرة بخصوص العديد من المسائل كالمناولة والمعطيات المتعلقة بالتفرغات النقابية. وحسنا ما قال أيضا حين تباين بوضوح مع مسألة “ملفات الفساد” ودعا إلى تفعيل القانون بكلّ ما يقتضيه من حزم وصرامة لكن في ظل قضاء مستقل وعادل.
لكن وبالمقابل فإن ما أغفله خطاب الأمين العام – وربما عن قصد – هو أنه أولا أنه لم يضع كل التجاوزات التي قامت بها السلطة في سياقها السياسي والخطة المبرمجة ضدّ الاتحاد العام التونسي للشغل والحركة النقابية، في الوقت الذي يطرح على القيادة أن تضع قواعدها في صورة الحقيقة وعمق الإشكال لا الاكتفاء بتوصيفه. لقد كان واضحا أن الأمين العام تحاشى عن قصد ربط التراجعات في الحقوق النقابية واستهداف حرية العمل النقابي بأشكال ملتوية في أغلب الأحيان وبأشكال صريحة أحيانا أخرى بنهج التشدد والعودة المعلنة لنظام الحكم الفردي الاستبدادي. ومردّ ذلك هو خشيته من أن تشنّ عليه من جديد هجمة أخرى كالتي شنت عليه بعد تجمع 4 مارس 2023 بسبب موقفه المساند للمعتقلين السياسيين.
من جانب آخر أغفل الأمين العام التعرض لما بلغته المقدرة الشرائية وظروف العيش وظروف أداء المهنة وتفاقم التعسف والاستغلال الذي يعانيه الشغالون من تدهور وتردّي. إن أوضاع العمال في أسوأ حال وهي مرشحة لمزيد التردّي في ضوء مخططات السلطة الماضية في تطبيق تعليمات صندوق النقد الدولي بشكل ملموس سواء فيما يخص كتلة الأجور وإلغاء الانتدابات أو فيما يخص الإعداد لخوصصة المؤسسات العمومية عبر إعادة هيكلة رأسمالها المبرمج وفق ما جاء في ميزانية 2024 أو فيما يخصّ تقويض منظومة الدعم عبر فقدان المواد المدعومة والانزلاق بأسعارها تحت منطق العرض والطلب وإعداد الرأي العام للقبول بإعادة تسعيرها عفويا في السوق وما إلى ذلك من التوصيات الأخرى.
على صعيد آخر أغفل الخطاب الحديث عن الأوضاع الداخلية للمنظمة في ظلّ ما يروج بخصوصها من أحاديث وجدل وصراع. وقد كان من المطلوب أن يخصص لهذه المسألة نسبة من الاهتمام، ذلك أن الجبهة الداخلية للاتحاد ليست على ما يرام وتتطلب إعلان القيادة استعدادها لتجاوز الأخطاء والنقائص المثيرة لصراعات باتت معروفة لدى الجميع. فإذا كانت القيادة لا تنكر هذه الأخطاء والنقائص، ولا أظنها تنكرها، فقد كان لازما أن يعلن الأمين العام أنها ستتخذ ما يلزم من الإجراءات بما في ذلك فتح حوار حول المسألة الديمقراطية الداخلية وحول الفصل 20 على وجه الدّقة خصوصا وأن الاتحاد مقدم على مناسبات نقابية هامة منها الهيئة الإدارية الوطنية واحتفالات غرة ماي والمجلس الوطني.
إن معالجة الأوضاع الداخلية مهمّة ملحّة ملقاة على عاتق القيادة. وكان من المفروض أن تعلن القيادة عزمها الجاد على الاضطلاع بهذه المهمة الآن ودون تأخير. وطرح المسألة في تجمع يوم 2 مارس لم يكن من باب نشر الغسيل الداخلي وإنما في صلب هذه المهمة العاجلة. أمّا عدم طرحها بدعوى التركيز على توجيه رسائل إلى السلطة فهو هروب غير مسؤول من واجب إعادة توحيد الصفوف الداخلية كشرط للنجاح في مواجهة المخاطر الخارجية.
ومهما يكنْ من أمرٍ فإن التجمع العمالي يوم 2 مارس كان مناسبة نقابية على غاية من الأهمية نجحت نصف نجاح ولكنها تبقى مجرد محطة في مسار طويل مرشّح لتطورات أخرى لا تقلّ عنها أهمية.

إلى الأعلى
×