الرئيسية / أقلام / الخبير حسين الرّحيلي: ميزانيّة 2016، ميزانيّة الوهم والقفز على الواقع
الخبير حسين الرّحيلي: ميزانيّة 2016، ميزانيّة الوهم والقفز على الواقع

الخبير حسين الرّحيلي: ميزانيّة 2016، ميزانيّة الوهم والقفز على الواقع

حسينشرع مجلس نوّاب الشعب في مناقشة قانون الميزانية العامة للدولة لسنة 2016، في وضع اقتصادي واجتماعي متأزّم، ووضع أمني غير مستقر خاصة بعد العملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت الأمن الرئاسي يوم 24 نوفمبر 2015.

 فهل ستعبّر الميزانية العامة للدولة لسنة 2016 عن الاستحقاقات الحقيقية للشعب وستوفر الإمكانات والإجراءات اللاّزمة للمساهمة في تحقيقها؟ وهل ستكون إجراءاتها متوافقة مع الصعوبات والإشكالات الحقيقية للوضع الاقتصادي والتنموي بالجهات بشكل عام؟

 تشخيص الوضع الاقتصادي العام بالبلاد:

انطلاقا من بعض الإحصائيات التي أصدرها المعهد الوطني للإحصاء خلال الأيام الأخيرة، تبيّن أنّ عجز الميزان التجاري خلال العشر أشهر الأولى من سنة 2015 قد سجّل تراجعا بحوالي 1500 مليون دينار، ممّا يوحي بأنّ اقتصادنا بدأ يتعافى وأنّ صادراتنا بدأت تقلّص من العجز المزمن للميزان التجاري، غير أنّ التدقيق العلمي في هذا التراجع يبيّن أنه مرتبط أساسا بتراجع الصادرات بحوالي 2.5 % بالمقارنة بالسنة الماضية. وهو ما يعني أنّ محرّكات إنتاجنا الوطني مازالت معطّلة ولا تنتج بالشكل الكافي لتصدّر. كما أنّ وارداتنا قد تقلّصت بحوالي 6% وخاصة في مجال توريد المواد الأوّليّة وتجهيزات الإنتاج، ممّا يعني تراجع استثمارات الشركات المحلية وبالتالي تراجع إنتاجها، وهو ما يفسّر التّدنّي الكبير لمواطن الشغل المحدثة من طرف القطاع الخاص لسنة 2015. كما أنّ تراجع عجز الميزان التجاري كان بسبب تراجع أسعار النفط والمواد النفطية بشكل عام وخاصة أسعار الغاز الطبيعي في الأسواق العالمية، ممّا قلّص من كلفة وارداتنا من الطاقة خلال العشرة أشهر الأولى من سنة 2015  بحوالي 1700 مليون دينار.

وكانت لنتائج هذا التراجع الحاد للمؤشرات الاقتصادية نتيجة مباشرة على ارتفاع معدلات البطالة، حيث ارتفعت خلال الثلاثي الثالث من سنة 2015 بحوالي 30 ألف معطل جديد، وجعل عدد المعطلين عن العمل من أصحاب الشهائد العليا يتجاوز 241 ألف، ممّا يعني أنّ عدد المعطلين على المستوى الوطني ووفق الإحصاءات الرسمية تجاوز 720 ألف. وهو رقم مخيف يجعل البطالة تتحوّل تدريجيا إلى معضلة اجتماعية واقتصادية كبيرة تهدّد بشكل مباشر  الاستقرار الاجتماعي وبالتالي الوضع الاقتصادي برمّته.

وأمام تراجع الطلب الداخلي كنتيجة مباشرة لارتفاع الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية لكل الطبقات والفئات الاجتماعية وخاصة الفقيرة والمتوسط، تقلّص الإنتاج المحلي في كل القطاعات وتراجع الاستثمار المباشر. كل هذه العوامل فرضت على البنك المركزي الإقرار بدخول الاقتصاد الوطني مرحلة الانكماش الفعلي، وهو ما يعني أننا دخلنا مرحلة التراجع الحاد في إنتاج الثروة، بل مرحلة تفتيتها وتبديدها باعتبار أنّ نسبة النمو السلبية المنتظرة لسنة 2015 لا تعني سوى ذلك. وهو ما يعني أننا غير قادرين على خلق مواطن شغل جديدة في القطاعات الإنتاجية وبالتالي ستكون البلاد مفتوحة على مصراعيها لكل الاحتمالات، وخاصة توسيع رقعة التهميش وانتشار البطالة والفقر وتعميق عزلة المناطق الداخلية وتواصل تدنّي بناها التحتية والخدماتية،. كل ذلك من شأنه أن يساهم في توسيع محاضن الإرهاب ويرفع من إمكانياته في الاستقطاب، خاصة في الأحياء الفقيرة والمناطق المنسية والمهمشة.

وأمام هذا التشخيص للواقع الاقتصادي والاجتماعي والأمني بالبلاد، ماذا قدمت الميزانية العامة للدولة لسنة 2016 من حلول وإصلاحات هيكلية من شأنها أن تساعد على حلحلة الوضع نحوالتحسن؟

ميزانيّة الوهم والقفز على الواقع:

القراءة المتأنّية لمشروع الميزانية لسنة 2016، وخاصة في مجال التوازنات العامة للمالية العمومية والموارد والنفقات، تُبيّن أنها حافظت على نفس الشكل والطرق السابقة في تعبئة الموارد. كما أنها اعتمدت أسلوبا عكسيا، فعوض أن تحدد المشاريع والبرامج التنموية في الجهات وتبويبها وفق الأولويات وتقييم كلفتها، وبالتالي إيجاد الآليات والإجراءات الكفيلة بتعبئة الموارد اللازمة لإنجازها، فإنّ معدّي الميزانية رصدوا قيمة مالية للتنمية، وتركوا تحديد المشاريع للزيارات الميدانية والنقاش مع الجهات بعد المصادقة عليها (انظر ص 7 من مشروع قانون الميزانية) وهو ما يعني أنّ سنة 2016 ستكون سنة لتحديد المشاريع في الجهات وتقييم كلفتها فقط.

كما حافظت الميزانية على نفس التصوّر للتنمية، والذي يرتكز على تهيئة مؤسسات الخدمات العامة والمؤسسات التربوية، وتعبيد المسالك الفلاحية وإنجاز بعض مشاريع البنى التحتية، دون برمجة إنجاز مشاريع إنتاجية من طرف الدولة. وهو ما يعني مواصلة تهميش الجهات الداخلية وتعميق البطالة بها، لأنّ الذين ينتظرون من القطاع الخاص أو الاستثمار الأجنبي أن يعوّض الدولة في هذا المجال فهو واهم.

كما كانت الميزانية مبنيّة على توقّعات وعلى أرقام ليس لها أيّ علاقة بما ذكرناه سابقا، فسيتواصل الضغط الجبائي من خلال التّرفيع في الموارد الجبائية المباشرة وغير المباشرة بحوالي2000 مليون دينار، أمام تراجع الموارد غير الجبائية بحكم تقلّص عدد المؤسّسات الإنتاجية التابعة للدولة.

أمّا بالنسبة إلى البعد الاجتماعي، فلا يمكننا أن نقول إلاّ أنها ميزانية تهميش البعد الاجتماعي واقتصارها على منطق الصدقات للعائلات المسماة معوزة وهي في الحقيقة عائلات معدمة لا دخل لها. وعوض العمل على مساعدتها لكسب قوتها بالعمل والتعويل على الذات، تواصل الحكومات المتعاقبة على  تركيز سياسة التّسوّل ومنطق الصدقات، وهو مدخل لشراء الذمم والأصوات بالمال العام.

كما أنّ التشغيل أصبح ثانويا، ذلك أنّ الميزانية لم تبرمج مواطن شغل جديدة إلاّ في حدود 2191 موطن فقط، وجلّ الانتدابات ستكون من نصيب الداخلية والدفاع في إطار مقاومة الإرهاب بمنطق الحكومة التي لا تملك لا تصورا واضحا ولا إستراتيجية محددة لمقاومته.

ولعل السمة البارزة لميزانية 2016، هي مواصلتها في سياسة التقشف بما تعنيه من الضغط على الإنفاق العمومي المتعلق بالصحة والتعليم والنقل والبنى التحتية.

وكنتيجة منطقية للمنطق المقلوب الذي بنيت عليه أول ميزانية للرباعي الحاكم، فإنّ المديونية ستواصل نسق ارتفاعها لتصل إلى حدود 54% من الناتج المحلي الخام، كما أنّ سداد الديون سيصل إلى حدود 5400 مليون دينار أي ضعف الاعتمادات الجديدة المخصصة للتنمية، وبالتالي فلا يجب علينا أن نستغرب من تواصل الفقر والبطالة والتهميش، باعتبار أنّ 18 بالمائة من الميزانية مخصص لخلاص الديون.

كما أنّ العجز سيتواصل ليصل إلى حدود 6500 مليون دينار سيكون حتما بواسطة الاقتراض سواء الداخلي أو الخارجي أو بواسطة صكوك الإيجارة التي تهدد ملكية الشعب لمقدراته وممتلكاته.

متى سيكون هذا الشعب عظيما؟

بناء على ما تقدّم، يمكننا القول إنّ هذه الميزانية لن تكون مخالفة لسابقاتها. فهي تعبيرة عن الطابع الطبقي للتحالف اليميني الطفيلي الذي جاء ضد الطبيعة ليكرّس التبعيّة المطلقة للدوائر الاستعمارية والامبريالية. ويطبّق تعليمات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وخاصة في مجالي الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص أو الخصخصة المقنّعة والتعديل الآلي لأسعار المحروقات الذي يمثّل تهديدا كبيرا لكل المواطنين وللنشاط الاقتصادي في البلاد.

إنّ ميزانية كهذه لا يمكنها أن تعبّر عن الاستحقاقات الحقيقية للشارع ولا تستطيع بالتالي تلبية أبسط المطالب الشعبية في الشغل والعيش الكريم.

فمتى سيكون هذا الشعب عظيما ويصوّت لنفسه ولمصالحه ومطالبه في اللّحظة الحاسمة؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×