الرئيسية / صوت الثقافة / أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني الجماعي للمتلقي
أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني الجماعي للمتلقي

أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني الجماعي للمتلقي

بقلم يحي اليعقوبي

كيف تمّ تحويل الفن والثقافة إلى صناعة غريبة عن المواطن التونسي؟

مثلما حدث مع مجالات أخرى، لم تسلم مجالات الفن والثقافة من تأثير الأفراد ذوي الذوق السطحي، حيث أصبحت الأعمال الفنية والثقافية العميقة والمتأملة نوعًا من النوادر. يعزى ذلك بشكل أساسي إلى تسلّط منطق السوق الاقتصادي على المنتجات الفنية، حيث يتمّ استغلالها في كثير من الأحيان لنقل رسائل معيّنة وتلبية احتياجات النظام الرأسمالي، وذلك تحت سيطرة الأثرياء الذين يمتلكون وسائل الإعلام ويسيطرون على سوق الإعلانات. والمُلفت للانتباه هو قدرتهم على تحويل رأس المال الثقافي إلى أشياء تافهة، حيث يُفرض على الفنانين العمل وفقًا لأهداف السوق أكثر من الأهداف الإبداعية، وإذا لم يلتزم الفنانون بهذه القواعد، فإنهم لن يحظوا الاعتراف. في سياق مرتبط، يسلّط آلان دونو الضوء على الفن ودوره في البيئة الحالية لنظام التفاهة. يستند الفنانون إلى ابتكار فنّي جديد يعزّز ويوسّع الخيال، حيث يصلون إلى استنتاج بأن أرباح الشركات الثقافية، التي تُشارك في الاقتصاد، هي أكثر جدوى من الجوانب الجمالية لأفكارها. وبغضّ النظر عن طبيعة هذه الأفكار، فإنها ستصبح قابلة للقبول في نهاية المطاف من قبل الجمهور المستهدف، بفضل حملات الدعاية المدروسة. يطلق دونو على هذا النوع من الفن ”الفن التخريبي المدعوم“.

هرسلة إعلانية وإشهارية في مساحات زمنية طويلة

تحوّلت المساحات الإعلانية والإشهارية بين المسلسلات والبرامج إلى صناعة تتّخذ الوقت الأكبر حجما من أيّ محتوى فني يعرض، حتى أنها تتحول لذلك الحجم الكبير إلى هرسلة للمشاهد وتشتيت وإزعاج والتصدير لثقافة استهلاكية دافعها الوحيد ربحي مادي مشترك بين البرامج والمنتجين عبر مشاهد ومقاطع تافهة تعبّر بعمق عن حجم أزمة الخيال والشلل الفكري والمعرفي في مقابل سيطرة التفاهة والبلاهة على أغلبها بما أنها تجارية بحتة وبالتالي من الطبيعي أن تكون تجارة بشتى الطرق والأشكال، والمحتويات تستهدف الترويج لمدى انحلال الوعي الجماعي وتردي في السلوكات، حتى أننا نرصد مخلفاتها على الشارع وعلى المجتمع وعلى الأجيال التي تستهلك هذه البضاعة المشهدية التي تُباع وتُشترى دون أدنى احترام للذكاء البشري والمشاهد من خلال محاولة دؤوبة في ترذيل المشهد العام الذي يعاني تردّي عام اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا يقودها رأس المال وعلى قاعدة السوق في البيع والشراء واستبلاه عقل المشاهد وتحويل وجهات نظره وحتى تصرفاته ونمط عيشه وانخراطه في التفاهة التي تسيّر المشهد العام والاضطرابات التي تعمّ المؤسسات التعليمية والثقافية وأغلب المجالات الأخرى، إن لم نقل كلها، وهي الصورة تنعكس على المواد المعروضة على الشاشة والتي تعكس هذا التردّي، والذي يعكس تلك المحاولات في تشويش الانتباه إلى الحاجة الملحة إلى إحداث تغيير إيجابي في التحديات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وإيقاف ذلك التكرار والهرسلة البصرية التي قد تؤدي إلى تحولات ثقافية تجاه الاستهلاك بعدّة طرق والذي تحوّل إلى جزء من الحياة اليومية للمشاهدين، ووفقا لعديد الدراسات تستخدم هذه الإعلانات إستراتيجيات تسويق متقدمة جدا لإيجاد روابط عاطفية وتأثير نفسي على المستهلكين ممّا يجعلهم يرتبطون عاطفيا بالمنتجات المعلن عنها، وهو ما يؤدّي ضرورة إلى ارتفاع مستويات الرّغبة في امتلاك تلك المنتجات عبر تقديم رؤى مشوّقة حول السّلع التي تباع بأثمان تفوق بكثير المقدرة الشرائية ودخل المواطن أو قصص النجاح الشخصي ممّا يعزّز فكرة أن الحصول على مزيد الممتلكات يعكس التقدّم والرفاهية وهو من المتفق عليه أنه يشجع على تبنّي نمط حياة يعتمد على الاستهلاك الزائد.

البرمجة والمنتجات الدراميّة

وفي خضم هذه الصور التي تعرض أمامنا بشكل متكرّر فيها إصرار على الترويج لبرامج ومنوعات وإنتاجات تلفزية فارغة المحتوى تمتدّ على مساحة من التفاهة والترويج لأنماط حياتية غريبة عن الشارع التونسي والواقع وقضاياه الحارقة وحتى هويته الثقافية التي تحتاج إلى إعادة نظر واكتشاف والبحث عن صناعة المحتوى الفني خارج أطر الفراغ الجمالي والمضموني ودون طرح ومعالجة لوضعية البلاد وهواجسها الحقيقية، مع تزييف وتلميع صور أخرى لا علاقة لها بحقيقة الأوضاع والواقع المعيشي للمواطن التونسي الذي انقطع بشكل كبير عن الثقافة والفنون وقاعات العروض لتستعمره الصور النمطية المنمقة والمزيفة للواقع على التلفاز في أعمال فنية تكاد تكون شكلا مغرب بدون مضمون ودون إبداع حقيقي وجمالية وهو ما يساهم بشكل واضح في سياسة التصحّر الثقافي والفكري الذي ينضاف إلى انقطاع المواطن عن المواكبة الثقافية والترفيه ودور العرض والمؤسسات الثقافية.
إن تأثير وسائل الإعلام والتلفزيون من خلال تلك المنتجات والبرامج واسع وفعّال بشكل ملحوظ على الذهنية العامة للشباب وحتى الكهول في تصدير أنماط حياتية تسيطر عليها التفاهة والميوعة وقصص ونمط حياة في غالبها مزيّفة وربما يتطرّق إلى مشاكل لا تخص المجتمع التونسي الآن وهنا في علاقة بالراهن والمتغير في محيطه، وهذا ما يؤسّس إلى مزيد تكريس الفردانية والتركيز على الفرد واهتماماته الشخصية على حساب الاهتمام بالمصلحة العامة أو التواصل الاجتماعي وهذا له تأثير بشكل مباشر على العلاقات الاجتماعية وتقليل التفاعل والمشاركة في القضايا المجتمعية حيث ينحصر التفكير في المصالح الفردية والتفكير في الذاتي بشكل أكبر من الشأن العام.
ففي ظلّ قلّة الإنتاج وشحّه وارتباطه بشهر رمضان فقط، تنضاف إلى ذلك سطحيّة الأعمال المقدّمة وضعفها التقني والموضوعاتي وانحرافاتها الفكرية والمعرفية وهو ما يذهب فيه الفيلسوف آلان دونو في كتابه نظام التفاهة حين يقول “بعيدا عن الإعلام الجمعي، فإن التلفاز، على خلاف ذلك، هو قوة لنزع الصفة الجمعية: إنه يفصل الأفراد الذين يشكلون الجماعة ويعزلهم عن بعضهم، فيما هو يقدم لهم الشيء ذاته بالتزامن (في الوقت ذاته) وبالتشابه (المحتوى ذاته). نحن نتعايش اجتماعيا من خلال التشارك في واقع لا نستهلكه إلا في العزلة.
وهكذا ينتج التلفاز كائنا اجتماعيا جديدا، هو “السلطعون الناسك الجمعي”: يجلسون، الملايين منهم في الآن ذاته، منفصلين، ومع ذلك متماثلين، منغلقين في أقفاصهم كما السلطعونات النّاسكة، لا رغبة في الفرار من العالم، بل من أجل التأكّد تماما من ألّا يفوتهم – أبدا، أبدا – أيّ فتات من أي صورة تظهر لهم على الشاشة. وهكذا، يكون الواقع متأنّقا، مقتطعا من سياقه، مؤطّرا، ومعدّا كما ينبغي، فيوصله التلفاز إلى بيوتنا مثل سلعة، حتى لا نكون بحاجة إلى معايشته أو القيام به”.

إلى الأعلى
×