بقلم كمال عمروسية
تمرّ هذه الأيام أربع عشرة سنة على الإطاحة برأس النظام الديكتاتوري في تونس وذلك بعد ثورة عارمة انطلقت شرارتها الأولى من وسط البلاد وبالتحديد مدينة سيدي بوزيد بعد أن أقدم الشهيد محمد البوعزيزي على إضرام النار في جسده احتجاجا على سوء معاملته وحرمانه من قوته ورزقه. لقد مثّل مطلب التشغيل أحد أهمّ عناوين الاحتجاج ضد النظام البنعليني، وقد استطاع المعطلون عن العمل بعث وتأسيس منظمة “اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل” وكانت أداة و جهازا خاضوا به معارك عديدة ضدّ السلطة وطبعا نالوا نصيبهم من القمع كخيار رئيسي لأجهزة الحكم في مواجهة الاحتجاجات. ولعلّ الملحمة التي شهدتها مدن الحوض المنجمي طيلة أشهر، من 5 جانفي 2008 إلى غاية جوان من نفس السنة، تؤكد من ناحية صلف نظام الحكم في تونس و عدائه لشعبه، و تثبت من ناحية ثانية تمسّك الشعب التونسي بحقه في الشغل و الكرامة وقد تأكّد ذلك لاحقا كما أسلفنا بمناسبة ثورة 14 جانفي 2011 حين تبنّت الجماهير الغاضبة والساخطة هذا المطلب الشرعي واتّحدت من شرق البلاد إلى غربها تحت شعار “شغل حرية كرامة وطنية”.
بعد كل هذه السنوات وبعد كل التضحيات التي قدّمها الشعب هل تغيّر حال البلاد؟ هل قطعت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة مع منوال التشغيل الهش؟ هل التزم حكام البلاد بالحق الكوني الغير قابل للتصرف في التشغيل وتوفير العمل اللائق؟
أسئلة عديدة يطرحها الشارع التونسي ويطرحها الباحث والأكاديمي وغيره من المهتمين بالشأن العام خاصة بعد الجلبة الكبيرة التي أحدثها قرار إدماج الأساتذة والمعلمين النواب مؤخرا.
إدماج المدرّسين النوّاب بين القرار وتطبيقه
صدر صباح يوم الخميس بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية الأمر عدد 21 لسنة 2005 مؤرخ في 8 جانفي 2025 والمتعلق بإدماج المعلمين والأساتذة النواب بالمدارس الابتدائية والمدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية. يعتبر هذا الإجراء من حيث الشكل من أكبر قرارات الانتداب في تاريخ الوظيفة العمومية ناهيك أنّ المعنيين به يصعب على أيّ جهاز من أجهزة الدولة تحديد العدد الدقيق لمن يشملهم القرار وفي كل الحالات الثابت أن الرقم يتجاوز 10 آلاف معلم وأستاذ.
الأكيد والثابت أن حقوق هؤلاء المنتدبين لا جدال حولها وهي ليست بمثابة المنّة من حاكم قرطاج بل هي نتيجة نضالات متواصلة للنواب طيلة سنوات كانوا فيها تحت طائلة التشغيل الهش بأجور دنيا وزهيدة وباستغلال فاحش ودون تغطية اجتماعية وصحية… ولقد بعث فيهم هذا القرار البهجة والسرور. لكن بعد سويعات بدأت أسئلة عملية وواقعية تطرح حول جدية هذا القرار. لقد صدر القرار في ساعة متأخرة من الليل وحمل إمضاء رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير التربية والتعليم وغاب طرف آخر من المفروض أن يكون إمضاؤه إلزاميا وهو وزير المالية وهو الأصل في الأشياء أو على الأقل ما تقتضيه البروتوكولات. فهذا القرار له استتباعات وتداعيات مالية على الميزانية التي يشوبها في الأصل عجز، كما أنّ قانون المالية لسنة 2025 حدّد العدد الأقصى للانتدابات طيلة السنة وبالتالي هذا الحجم من الانتدابات التي سيكون لها أثر مباشر على كتلة الأجور التي نعلم جميعا أنّ إجراءات عديدة اتخذت في الغرض من أجل التقليص منها أو على الأقل عدم الترفيع فيها. مخاوف عديدة تحيط بعملية تنفيذ هذا القرار فكيف سيتمّ خلاص أجور المنتدبين الجدد؟ ومن أين ستعبّأ الموارد؟ زد على ذلك فلا وزارة التربية ولا إداراتها الجهوية مدركة لكيفية تنظيم عملية الانتداب فالأمور معقدة حال مباشرة التنفيذ، بمعنى آخر كيف سيتمّ الإدماج؟ في أيّ مركز عمل؟ وهل سنشهد حركة استثنائية للنقل؟ فالنائب المباشر بصفة وقتية في مركز شغور وقتي أين سيتمّ إدماجه؟ هل في مركزه الحالي؟ وحينها ما هو مصير صاحب المركز الأصلي بعد انتهاء أسباب عدم مباشرته؟ تعقيدات وغموض كبير يحيط بالجانب التطبيقي أو الإدماج. وما يؤكد ذلك أنّ مصالح وزارة التربية ومندوبياتها الجهوية لم يبلغها أيّ أمر ترتيبي في الغرض إلى حدّ الآن. هذه جوانب متعلقة بالقرار الأخير طبعا دون أن ننسى أنّ سنوات العمل الفارطة التي قضاها المربي النائب بين أقسام المدارس أو المعاهد لن يكون لها أثر في الأقدمية العامة، بصورة أخرى تمّ نسف تلك السنوات من عمر الشابات والشبان الذين صاروا كهولا ومعدل سنوات عملهم الفعلية ستكون محدودة جدا وذلك سيؤثر على جراية التقاعد التي ستكون زهيدة وضعيفة، علما وأن الإدماج لا يعني الترسيم الفوري بل إنّ المنتدب سيخضع لتراتيب الوظيفة العمومية لأسلاك التربية وسيقضي سنة كاملة متربصا والسنة الثانية تكون سنة التفقد. ولا تزال عديد الأسلاك التابعة لمصالح وزارة التربية تحت طائلة التشغيل الهش وذلك ما دفع بالجامعة العامة للقيّمين والقيّمين العامين والنقابة الخصوصية للمرشدين التطبيقيين إلى تنظيم وقفة احتجاجية بمختلف المؤسسات التربوية وذلك صباح الإثنين 13 جانفي 2025 كما نظموا تجمّعا أمام مقر وزارة التربية للمطالبة بإصدار أمر يقضي بتسوية وضعيتهم.
وماذا عن بقية القطاعات؟
إن الدعاية التي تصمّ آذاننا اليوم عبر وسائل الإعلام سواء من المسؤولين الرسميين أو من لدن أبواق دعاية النظام وأنصاره مجانبة للصواب تماما. فالمفروض أنّ بلادنا قطعت تماما مع التشغيل الهشّ منذ سنة2011 لكن الحقيقة عكس ذلك فلا يزال إلى حدّ الآن عدد من عمال الحضائر لم تتمّ تسوية وضعيتهم كما أنّ عددا من آليات التشغيل الهش لا تزال قائمة رغم ادعاءات الحكومة بأنها أنهت العمل بها. فالمناولة لا تزال موجودة وبكثافة في قطاع الصحة العمومية وكذلك البنوك وعديد المؤسسات التابعة لأجهزة الدولة وأيضا في المجمع الكيميائي التونسي وهو ما دفع بالعاملين في هذا القطاع بتنظيم رحلة يوم 14 جانفي من هذا الشهر انطلقت من معتمدية المظيلة التابعة لولاية قفصة باتجاه مقر الولاية ومنه إلى قصر قرطاج وذلك احتجاجا على مواصلة التنكيل بهم واستغلالهم والقيام بعملهم في ظروف لا إنسانية وفي غياب تام لأبسط الحقوق الاجتماعية والصحية. كما أن السلط التونسية ما زالت تتفصّى من مسؤوليتها تجاه أصحاب الشهائد العاطلين عن العمل عبر عقود هشة هي مجرّد مسكنات لطالبي الشغل ولعل أبرزها ما يسمّى بعقد الإعداد للحياة المهنية وهو عقد يُبرم لمدة أقصاها 12 شهرا ويمكن تجديده وتمديده بصفة استثنائية لمدة سنة واحدة ويتقاضى بموجبه أصحاب الشهائد العليا 200 دينار و150 دينار لذوي المستويات التعليمية أو التكوينية الأخرى وقد بلغ هذا النوع من العقود سنة 2023 101.906 عقدا. إلى جانب ذلك يجري العمل بعقود هشة أخرى على غرار ما يسمّى بعقود الكرامة وقدّرت سنة 2023 بــــ 5164 عقدا وكذلك العقود المبرمة في إطار برنامج الخدمة المدنية وبلغ عدد هذه الأخيرة خلال الثمانية أشهر الأولى من سنة 2024 5271 عقدا. إن جملة هذه الصيغ من التشغيل تشترك كلها في صبغتها الهشة ولا تضع حدا لمعاناة طالبي الشغل.
المرأة العاملة: الضحية المفضلة للتشغيل الهش
لا تزال قطاعات واسعة وفئات هشة ضحية غياب تشريعات تحميهم وتضمن حقوقهم الأساسية منها الحق في الغذاء الكافي والصحة والتعليم والسكن اللائق وتبقى النساء من أكبر ضحايا والفئات الأكثر هشاشة وحسب تقرير الأمم المتحدة حول التمكين الاقتصادي للمرأة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا يشارك سوى 20.5 % من النساء في القوى العاملة وتشير التقديرات إلى أن 33 % من النساء في المنطقة يشاركن في العمالة الهشة مقابل 23 % بالنسبة للرجال. تمثل المرأة قطعا الفئة الأكثر تضررا في بلادنا من التشغيل الهش خصوصا بالنسبة للعاملات في القطاع الفلاحي وقطاع الحضائر والعاملات في جمع وفرز النفايات أو ما يعبّر عنه بالبرباشة وهي ظاهرة نمت واستفحلت نتيجة للفقر والبطالة وهي مهنة شاقة والعاملات فيها علاوة على المحصول المالي الزهيد (لا يتعدى 8 دينارات يوميا) الذي يجنينه فإنهن خارج إطار التغطية الاجتماعية والصحية وعرضة للأمراض بحكم طبيعة عملهن فالحق في الصحة هو أحد الحقوق الأساسية لكل إنسان مثلما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته 25. وتظل العاملات في هذا القطاع عرضة للعنف وحتى التحرش.
لا تزال العاملات في القطاع الفلاحي يعانين الأمرّين إلى اليوم وهنّ عرضة للحوادث القاتلة ويقمن بعملهن في ظروف قاسية وغير لائقة وفي غياب التغطية الاجتماعية والصحية وهنّ محل مزايدات سياسية فارغة وإلى اليوم لا يتمتّعن بأبسط المقومات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
إن الحصيلة بعد 14 سنة من الإطاحة برأس النظام هزيلة بل إننا نشهد نكوصا إلى الوراء في جميع المستويات فلا المنجز الرئيسي للثورة والمتمثل في الحريات مضمون، بل إنه نسف من خلال ترسانة من القوانين والمراسيم الرجعية، كما أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لشعبنا منتهكة ولا نصيب لهذا الشعب إلاّ مواصلة إغراقه في الفقر والبطالة والتهميش وانسداد الآفاق ويوما بعد يوم يتأكد أن الشعبوية في تونس لا حلول لها ولا خلاص لشعبنا ونهوضه وتطوّره إلا على أنقاضها.