الرئيسية / الافتتاحية / في ذكرى 8 ماي: إسقاط الاستبداد شرط لوضع حدّ لممارسة التعذيب الوحشية
في ذكرى 8 ماي: إسقاط الاستبداد شرط لوضع حدّ لممارسة التعذيب الوحشية

في ذكرى 8 ماي: إسقاط الاستبداد شرط لوضع حدّ لممارسة التعذيب الوحشية

تحيي القوى الديمقراطيّة التونسية يوم 8 ماي الذكرى 38 لاستشهاد نبيل بركاتي الذي استشهد في مثل هذا اليوم من عام 1987 تحت التعذيب. عشرة أيام كاملة وهو يُعذّب بمركز الشرطة بقعفور (ولاية سليانة) حتى لفظ أنفاسه. وكان سبب اعتقاله توزيع منشور لحزب العمّال في خضم الصراع وقتها بين نظام بورقيبة الدكتاتوري وحركة الاتجاه الإسلامي بعنوان: “الصراع الدستوري الإخوانجي لا مصلحة للشعب فيه”. وقد امتنع نبيل عن تقديم أيّ معلومات للبوليس عن مصدر المنشور وعن علاقاته بالحزب. وممّا يذكر أنّ قاتل نبيل، الحاج عمّار رئيس مركز الشرطة، أجاب المحكمة عندما سئل عن بعض أدوات التعذيب التي استعملها: “هذاك ماعون الخدمة سيّدي الرّئيس”. وهو يؤكّد بكلامه حقيقة كان يعلمها الجميع وهو أنّ التعذيب لم يكن في عهد بورقيبة ولا لاحقا في عهد بن علي منحصرا في بعض الممارسات المعزولة وإنّما كان أسلوب حكم. لقد كان التعذيب يُستعمَل، في ظلّ مصادرة الحريات والحقوق ومنها خاصة حرّية التّنظيم والتّعبير والتّظاهر والاحتجاج، وسيلة لتفكيك التنظيمات المضطرّة إلى التشكّل في السرية وتكميم الأفواه وفرض الصمت المطبق على المجتمع وإخضاعه لسلطة الحزب الواحد والحاكم الواحد. وكان البوليس السياسي بمختلف فروعه هو الذي يمثل رأس حربة القمع. وكان القضاء هو الذي يتولّى تغطية جرائمه. وكانت السلطة السياسية هي التي توفّر لهذين الجهازين الحماية والإفلات من العقاب. وقد ذهب ضحيّة التعذيب العشرات من المعتقلين من مختلف الحركات السياسية والنقابيين إضافة إلى ضحايا آخرين من معتقلي الحقّ العام. وكان من بين أهداف الحركة الديمقراطية التونسيّة بتنظيماتها السياسية والحقوقية والنقابية والنسائية والثقافية العمل على وضع حدّ لهذه الممارسة الوحشيّة ومحاسبة المسؤولين عنها أمرا وتنفيذا وتوفير التشريعات والآليّات التي تُنهي ظاهرة الإفلات من العقاب.
وجاءت ثورة 2010-2011 وكان مطلب اجتثاث التعذيب في بلادنا وحماية المجتمع منه من بين المطالب الأساسية المرفوعة إلى جانب فتح ملفات التعذيب منذ عام 1956 ومحاسبة الجناة مهما كان موقعهم والتعويض للضحايا واعتذار الدولة لذويهم. وكان من المفروض أن تقوم بهذه المهمّة “هيئة الحقيقة والكرامة” في إطار مشروع “العدالة الانتقالية”. ولكنّ هذا المشروع فشل في النهاية، فلا تصفية الحساب مع الماضي تمّت ولا ممارسة التعذيب توقفت ولا مؤسسات الدولة ومنها الأمن والسجون والقضاء أعيد تنظيمها على أسس جديدة، ديمقراطية، لتكون في خدمة الشعب، تحمي كرامة المواطنين والمواطنات وتحترم حقوقهم وحرياتهم. لقد عملت الحكومات المتعاقبة على إفشال مشروع العدالة الانتقالية سواء من خلال محاولات توظيفه أو عرقلته ناهيك أنّه لم يتمّ البتّ تقريبا في أيّ ملف من الملفات. وقد جاء انقلاب 25 جويلية 2021 ليوجّه الضربة القاضية لمشروع العدالة ويعود بالبلاد إلى مربّع الاستبداد والدكتاتورية. وفي هذا السياق تكاثرت حالات التعذيب في المراكز الأمنيّة وفي السجون كما تكثّفت ظاهرة العنف البوليسي الذي أودى بحياة أكثر من مواطن وهو ما تشهد به تقارير المنظمات الحقوقية المختلفة.
لقد أصبح شعار “حريات، حريات، دولة البوليس وفات” إلى جانب شعار “حريات، حريات، يا قضاء التعليمات” من أبرز الشعارات التي ترفع اليوم في التظاهرات الاحتجاجية في إشارة إلى تصاعد القمع مع سلطة الانقلاب. ومن الملاحظ أنّ أكبر ضحايا التعذيب بعد الثورة ظلّوا المواطنين العاديّين المتهمين في قضايا حق عام بينما قلّ حتى لا نقول غاب تعذيب المناضلين السياسيين. فمن جهة قلّت الاعتقالات السياسية ومن جهة أخرى مثّلت يقظة المنظمات الحقوقيّة كابحا للبوليس وأعوان السجون. ولكن الوضع اتخذ منحى آخر مع قيس سعيّد لا بدّ من التفطّن إليه. لقد كان البوليس في عهد بورقيبة وبن علي رأس حربة القمع أمّا اليوم فإن هذا الدور انتقل إلى وزارة العدل. فهذه الأخيرة هي التي تقرر الاعتقال وهي تطلب من الأجهزة الأمنية القيام بأبحاث شكلية يضعون فيها ما يطلب منهم ممّا يجعلهم لا حاجة لهم باستعمال التعذيب لاقتلاع اعترافات أو إرغام الضحية على قبول أخرى لأن وزارة العدل، في غياب أيّ رقابة عليها وأيّ محاسبة لها، وفي حضور قضاء طيّع ينفّذ ما يطلب منه، تتصرف بكامل الحرية في تطبيق القوانين التي تريد وتوجيه الاتهامات التي تشاء وإصدار الأحكام التي تعنّ لها. وهو ما حصل ويحصل في مختلف القضايا ذات الطابع السياسي التي تشهدها بلادنا منذ مدّة. ومع ذلك فقد عاد الحديث في الأيام الأخيرة (حالة الشاب ريّان من بنزرت) عن استعمال التعذيب في قضايا لها بعد سياسي.
وفي هذا السياق العام وبمناسبة ذكرى اغتيال الرفيق نبيل البركاتي، التي حوّلتها الحركة الديمقراطية منذ مدة طويلة إلى يوم وطني لمناهضة التعذيب من المهمّ جدّا أن تتجنّد كل القوى الديمقراطيّة للتصدي لظاهرة التعذيب مهما كانت الضحية كالتصدي لاستشراء العنف البوليسي الذي ما انفك يتخذ طابعا انتقاميّا مع عودة البلاد إلى مربّع الاستبداد مع قيس سعيّد. وبالإضافة إلى ذلك كلّه بل إنّ الأهمّ من ذلك كلّه هو الوعي بأنّ اجتثاث ظاهرة التعذيب والعنف البوليسي لا يمكن أن يتحقق بالمرة في إطار نظام دكتاتوري، فاشي، شعبوي لا وسيلة له لإخضاع العمال والكادحين والشعب عامة غير القهر والعنف وإنّما في إطار نظام ديمقراطي بحقّ بل في إطار جمهورية ديمقراطية شعبيّة تكون فيها السلطة على الدولة والثروة للشعب. فمثل هذه الجمهورية التي تمثل الأغلبية الساحقة من المجتمع لا حاجة لها لا بممارسة التعذيب ولا العنف ضدّ الشعب الذي تمثّل مصالحه وتدافع عنها وتحتاج إليه لحمايتها في وجه أعدائها في الداخل والخارج. وما من شك في أنّ شرط قيام هذه الجمهورية التي توفر الأمن والاطمئنان لكل مواطن ومواطنة وتحترم حريته/ها وحقوقه/ها هو التخلّص بشكل نهائي وجذري من منظومة الاستبداد القائمة.

المجد والخلود لشهيد الحرية نبيل بركاتي
يسقط الاستبداد
معا لاجتثاث ممارسة التعذيب الوحشية

إلى الأعلى
×