مرّة أخرى تحرّك الأطباء المقيمون يوم الثّلاثاء 1 جويلية بدعوة من “جمعية الأطباء الشبان” وهي الإطار الذي بعثوه منذ سنوات للدّفاع عن حقوقهم المهدورة وتنظيم تحركاتهم المشروعة. وقد بلغ هذا التحرّك ذروته أمام المسرح البلدي بالعاصمة حيث تجمّع المئات منهم القادمون من مختلف جهات البلاد. تجمّعوا لإدانة صلف السلطة الشعبويّة، اليمينيّة المتطرّفة، التي ظلّت تتعامل مع مطالبهم المادية والمعنويّة المزمنة بكل ازدراء وصل حدّ تهديدهم بالسّجن وبحلّ منظّمتهم لتعرف نفس المآل الذي عرفته جمعية القضاة (هكذا !!). ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، إذ لوّح لهم المسؤولون بأن الدولة ستستفيد من هجرتهم، إذا خيّروا الهجرة، وأنه سيتمّ تعويضهم بأطباء صينيين (!!!). ولا يتورّع قيس سعيّد من الجهة الأخرى عن دعوتهم إلى العمل “مجانا” حتّى يكونوا “أطبّاء الشّعب” بينما لا هو ولا وزراؤه ولا نوّاب برلمانه ومجلسه للجهات والأقاليم مستعدّون للتنازل عن فلس واحد من مرتّباتهم ومنحهم وميزانيات مؤسساتهم التي ما تنفكّ، على غرار ميزانية الرئاسة، ترتفع من عام إلى آخر على حساب المصالح الحيويّة للشعب.
إنّ منظومة الحكم الفردي المطلق تريد في الواقع إخضاع الأطبّاء المقيمين لنظام عمل أقرب إلى نظام السّخرة وهم الذين يتحمّلون جزءا كبيرا من أعباء عمل الجسم الطبّي وشبه الطبي. ففي السنوات الأخيرة التي توقّف فيها تقريبا الانتداب في القطاع الصحي، مثل غيره من القطاعات العمومية، وأصبحت أقسام بكاملها دون أطباء ودون ممرّضين تحمّل الأطبّاء المقيمون ما لا طاقة لهم بتحمّله من ظروف عمل صعبة يعلمها التونسيون والتونسيات في دقائقها. لكن عوض إقرار حقوقهم والاعتراف بدورهم وتشجعيهم حتى يرجّحوا البقاء في بلدهم الذي صرف على تكوينهم أموالا طائلة، تصرّ السلطة على إذلالهم وصدّ مطالبهم العادلة والمشروعة مثل الترفيع في منحة الخدمة التي لا تتجاوز دينارا لكل ساعة عمل فضلا عن إبعاد العديد منهم عن الكليات التي يتابعون فيها أبحاثهم ودراساتهم، وتكليفهم بأعمال تتجاوز أحيانا قدراتهم وكفاءاتهم مما يجعلهم في عديد الحالات تحت طائلة المسؤولية والمساءلة الإدارية والقانونية. يضاف إلى ذلك تعرّضهم إلى الاعتداءات المادية (عنف…) والمعنويّة (سبّ، إهانات…) بسبب إمكانات محدودة (نقص المعدات والتجهيزات الطبية أو حتى غيابها بالكامل، ندرة الأدوية وعدم توفّر العديد منها…) وظروف استقبال للمرضى غير مرضيّة (ازدحام، طول مدة المواعيد…)، وهي أمور لا مسؤوليّة لهم فيها بل هي مرتبطة بأوضاع قطاع كامل يتعرّض للإهمال والتدمير الممنهج منذ عقود.
لقد حرّك الأطبّاء الشبّان بركة راكدة وهي بركة المرفق الصحّي العمومي الذي يعاني من كل الأمراض، وتكاد تكون نقطة الضوء فيه رأسماله البشري ممثلا خاصّة في الأطباء والممرضين الذين يريد قيس سعيّد “إقراضهم” للأجنبي وإفراغ البلاد منهم والحال أنّها في حاجة مؤكّدة لخدماتهم. إنّ القطاع العمومي يتعرّض إلى التصفية الممنهجة لحساب قطاع مصّاصي الدّماء وخاصة في المجال الصحي الذي أصبح أكثر من أيّ وقت مضى مرتبطا بالقدرة على الدفع. وباستهداف الأطباء الشبان فإن سلطة الحكم الفردي المطلق تطلق رصاصة الرحمة على هذا القطاع الحيوي. إنّ الأطباء الشبان مثلهم مثل المعلمين والأساتذة النواب هم الذين يسيّرون فعليا أهمّ مرفقين في حياة الناس، لكن سلطة رأس المال المتجلبب بالشعبوية ليس لها سوى تعميق اضطهاد هؤلاء الأجراء تأكيدا لطبيعتها الطبقية الرجعية وزيف خطابها الذي يكثر من الحديث عن الشعب ويكرّس الخيارات المعادية لمصالحه الدّنيا وهي الحقيقة التي ما انفكّ يدركها غالبيّة النّاس انطلاقا من واقعهم المعيش.
لقد وجدت تحركات الأطباء الشبان كل التعاطف من قطاعات واسعة من الشعب. لقد عبّر هؤلاء من خلال شعار “صحة، حرية، كرامة وطنية” عن وعي عميق وتأطير سليم لمطالبهم العادلة والمشروعة التي هي مطالب شعبنا المقهور. ولئن تراجعت وزارة الصحّة بعد تحرّكهم الأخير عن شيءٍ من صلفها وعنجهيّتها وأقرّت لهم ببعض حقوقهم نتيجة إصرارهم ونضالهم، فإنّ معضلة المرفق الصحّي ستظل قائمة لأنّ المسألة مسألة خيارات جوهريّة ينبغي أن تتغيّر جذريّا حتى يتغيّر واقع ذلك المرفق. وهنا لا بدّ من الوعي بأنّ هذا التغيير لا يهمّ العاملين في القطاع الصحّي فحسب وإنّما كافة طبقات الشعب وفئاته وعلى وجه الخصوص المفقّرين منها باعتبارهم المعنيين أكثر من غيرهم بتحسين حالة هذا القطاع وهو ما يجعل من الشعار الذي رفعه الأطبّاء المقيمون، وجمعيّتهم “صحّة، حرّية، كرامة وطنيّة” شعارا للجميع وليس لهم وحدهم.
فإلى الأمام من أجل خدمات صحية مجانية وراقية.
وإلى الأمام من أجل أجور وظروف عمل لائقة لأطبائنا وكافة إطارنا الطبي وشبه الطبي.
لا للتفريط في إطاراتنا الطبية وشبه الطبية، تونس في حاجة إليهم.
