الرئيسية / صوت الثقافة / الواقع الثقافي في تونس : تهشيم الفردانية ومحظيات المشهد
الواقع الثقافي في تونس :  تهشيم الفردانية ومحظيات المشهد

الواقع الثقافي في تونس : تهشيم الفردانية ومحظيات المشهد

بقلم : أمامةالزاير

يبدو أنه علينا أن نفكك الارتباط السياسي الوثيق بالثقافي، الارتباط الذي يجعل من الإبداع والثقافة خادمين دائمين للظاهرة السياسية.. الإبداع على اليمين أو على اليسار، أو رافعا شعار “الفن من أجل الفن”.. مطبّلا أو رافضا أو “محايدا”.. يظلّ دائما في علاقة مباشرة بالسياسي.

فلا يمكننا أن نتحدّث عن ثراء ثقافي أو تنوّع جماليّ بمعزل عن مفهوميْ “الحرية” و”القمع”، اللذين يشكّلان جوهر الفعل السياسي، إن لم نقل جوهر الوجود الإنساني نفسه.untitled-1

كان المشهد الثقافي قبل 14 جانفي 2011 ينقسم إلى فضائين، فضاء مكرّس في الإعلام وفي المؤسسات الثقافية الرسمية، وفضاء نشأ في العتمة ونشط في الجامعات وفي الشارع.. كان التنوّع حاصلا، ولكن كان بعضه يقبع في الهامش وفي اللامرئيّ رسميا. كانت المحافل غاصّة بأناشيد الحزب الواحد وفنّاني القصر ومثقّفي السلطة القائمة، في المقابل انطلق شباب الراب و”slam” في الأحياء الشعبية، وغنّت لبنى نعمان وآمال الحمروني، وأطرب أولاد المناجم والحمائم البيض طلبة الجامعات، وأبدع الفاضل الجعايبي وجليلة بكار مسرحا ساخرا مناضلا، وظهر الغرافيتي على الجدران رغم أنف البوليس السياسي. وكان مثقفون كثيرون يؤمنون بأنّ المثقّف الحرّ “شخص عليه أن يقوم علنا بطرح أسئلة محرجة.. وأن يكون فردا يصعب على الحكومات أو الشركات أن تستقطبه” (إدوارد سعيد).

تغيّرت المواقع بعد انتفاضة 14 جانفي، ومن كان في الهامش احتلّ الصدارة، وتراجع الفنيّ المكرّس عن مركزيته ليظهر بعد ذلك واضعا ربطة عنق ثورية.

وانتبه الجميع إلى تلك الفسيفساء الثقافية التي كانت شبه محجوبة، وخاصة ظهور حركتين فنيتين بشكل واضح ومحدّد عبر بيانات تأسيسية، واختيار مضبوط لعنوانهما: “حركة نصّ” و”أهل الكهف”.. ويمكن اعتبارهما تعبيرتين جديرتين بالبحث والسؤال، من زاوية لم يتمّ التطرق إليها بشكل مفصّل.

ولكن يظلّ السؤال قائما: هل يمكن القول إن تأسيس أيّ حركة هو إلغاء للفرد وتذويبه في الجماعة؟

أليست “الجماعة شرّا ووهنا”؟

هل التزمت هذه الحركات التي أعلنت أنّها ضدّ القانون والسّائد والعرف، بشعارها هذا؟

أليس غياب المرأة أو حضورها الضعيف (عدديا) في صفوف هذه الحركات تكريسا لمفهوم الذكورية والأبويّة؟

أسئلة كثيرة تطرح اليوم بعد ستّ سنوات من تأسيس حركتيْ “نصّ” و”أهل الكهف” لعلّنا نحاول التفكير في بعضها.

1/ الفرد الفذّ… أو استيهامات الجماعة؟

من الصّعب تخيّل تأسيس حركات فنية في ظلّ الفردانية التي تسيطر على المشهد الثقافي.. ولا يمكن تخيّل سحب المبدع المنفلت بطبعه والرّافض للقيود إلى إطار محدّد.. “لأنّه لا بيت للشعر” (زياد عبد القادر).. لا بيت للفنّ .. ولأنّ “الإنسان كائن قلق”يأبى الاستكانة إلى أشياء ثابتة. كما أن الإبداع”مشروع فرديّ” (كمال الرياحي) لا علاقة للجماعة به.

ولكن هل يعني تأسيس حركة بالضرورة إتلافا لهذا المشروع الفردي وتهشيما له؟ وقمعا للتعدد والاختلاف؟

إن تأسيس حركة فنية في واقع ثقافي وسياسي متشظّ، يعبّر عن انتباه مجموعة ما إلى لحظة تاريخية فاصلة بين المكرّس والمعتاد وبين الانطلاق نحو أفق أرحب. وليس في ذلك إلغاء للفرد الذي سيكون مبدعا أو لن يكون.. ولن يضمن انخراطه في حركة ما تطوّر تجربته أو ركودها.

ولا يمكننا أن نسلّم بأنّ الفرد لا يحمل همّا مشتركا، ثقافيا أو سياسيا… فهذا من مشمولات إنسانيته الذي لن ينفي حتما تفرّده وتميّزه.

وقد تأسّست “حركة نص” من خلال بيانات سبعة. بيانات مختلفة تماما يربط بينها الإيمان فقط بـ”النص” بحثا عن الجِدّة التي “تستحيل إلى براءة ويغدو التّميز اختلافا وإنشاء لاستراتيجيات ترمي إلى الحفاظ عليه “(توني موريسون). ولم يكن تأسيس حركة “أهل الكهف” إلّا “ضدّ الإقصاء، ضدّ الإخصاء” (من بيان أهل الكهف).

ولم يكن رهان الحركتين إيجاد قالب واحد تصبّ فيه كلّ المشاريع الفنية.. لم يكن رهانا إيجاد المتشابهين. ولم تكن البيانات إلّا كسرا للنّمط وخرقا “للبيان الأبويّ” الذي يجهد أن يكرّس الصوت الواحد واللون الواحد.

حركتان رفضتا الإيمان بالواحد الفرد الأحد، تمجيدا لكسر الأصنام.

لا شيء سوى الفنّ الذي يضمن حريّة دائمة ويؤمّن “عمليّة الفكّ الدائمة للقيود”(محمد الجوّة).. لا شيء سواه يمكنه أن يقف في وجه السياسي واضعا أصابعه على الجرح تماما.. لا شيء سواه يمكنه أن يلهو بكلّ المسلّمات ويبعثرها في مشهد ساخر مستفزّ.

هذا ما نادت به حركة نص وأهل الكهف، اللتين لم يكن همّهما أن تعيدا ترتيب الأشياء وأن يرتكبا حماقة إنكار أنّ الفرد فذّ بطبع… حركتان لم تبحثا عن عمل أو اعتراف من الدولة أو جواز سفر إلى جزر الكاراييب. ولم تكن بياناتهما أو تأسيسهما عقد زواج يلغي طرفا على حساب الآخر.

2/ “وليس الذكر كالأنثى”: محظيّات المشهد الثقافي

“المرأة حين تتساوى فإنها تتساوى بالرجل. وحين يسمح لها بالمشاركة فإنّها تشارك الرجل. وفي كل الأحوال يصبح الرّجل مركز الحركة وبؤرة الفاعلية. ويبدو الأمر كأنّه قدر ميتافيزيقي لا فكاك منه ولا مناص… وكأنّ كل فاعليّة للمرأة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية فاعلية هامشيّة، لا تكتسب دلالتها إلّا من خلال الرّجل”(نصر حامد أبو زيد).

يبدو أن حضور المرأة في المشهد الثقافي حضور إشكالي دائما، فقد كانت قبل 14 جانفي موجودة في المحافل والمهرجانات واللقاءات لتزيين المشهد لا غير ولإثبات أن المرأة التونسية اكتسبت حرّيتها ومساواتها التّامة والفعلية بالرجل.

لا يمكن طبعا في هذا الإطار نفي أصوات نسائيّة أثبتت جدارتها وقدّمت أعمالا فنية تفرض الاحترام والفخر، ولكنّ الشائع أنّه تمّ استخدام النّساء مادّة لترقيع المشهد السياسي والثقافي. وكنّ مجرّد محظيّات فحسب.

وكان انبعاث الحركات الفنية بعد 14 جانفي بما تحمله من شعارات ضمّت بياناتها إلى منحى “الخروج عن القانون” والإطاحة بالسّائد ثقافيا وسياسيا والقطع نهائيّا مع المكرّس من مسلّمات..حركات “تتبنّى أيّ عملية تقطيع للمعلقات الإشهارية أو تهشيم اللّافتات التّسويقية وكل ما يتعلق بالذّوق السليم والأخلاق الاستهلاكية الحميدة”(من بيان أهل الكهف)، وتعلن عن رؤية جديدة للعالم ترفض تسويق الإنسان مادّة استهلاكية أو شمّاعة لتعليق السّياسي عليه. ترفض الانتقاص من هذا الإنسان وتنتصر له.

ولكن لنا أن نسأل: أين المرأة من كل هذا؟

هل يمكن أن نثق في حركات تدعي أنها ضد السائد فإذا هي لم تخرج عنه في مستوى التعامل مع المرأة بالذات؟

هل يمكن اعتبارالذكوريّة قدرا لا مناص منه؟

أمازلنا نعتقد في أنّ صوت المرأة عورة وأن ليس الذكر مثل الأنثى؟

في إحصاء بسيط للمنتمين إلى حركتيْ نص وأهل الكهف لن نعثر إلا على صوتين نسائيين من جملة ثمانية أصوات رجالية.

هل يحيلنا هذا العدد الضعيف والمربك لحضور النساء في هاتين الحركتين إلى إقصاء ممنهج وإلى شكل من أشكال العنف المسلّط عليهنّ باعتبار أنّ “العنف سلوك إيذائي قد يكون باديا أو متخفيا، ماديا أو معنويا وفي كل هذه الحالات هو إنكار للآخر قيمةً مماثلة لقيمة الأنا”؟ (التيجاني القماطي)

لعلّ غياب المرأة في هذه الحركات أو حضورها المتقلص نتيجة حتمية لما تمّ تكريسه منذ سنوات طوال حتى صارت المرأة نفسها تأبى خوض غمار ما هو غير ثابت، وتقنع بالاكتفاء بالمشاهدة من بعيد متوجّسة من كل أشكال المخاطرة والمغامرة.

مازالت المرأة المبدعة تخشى أن “تهبّ الرياح على اللافتات فتسقط في المنحدر”(من بيان نزار الحميدي) … تخشى أن تسقط هي أيضا في المنحدر.

قد يكون هذا سببا من أسباب عزوف النساء عن الحركات الفنية ما بعد 14 جانفي. وقد يكون للمسألة أبعاد أخرى تتمثل في الإيمان بالفردانية المطلقة والاحتراز من أيّ مشترك جماعي مثلا.

“هل أنتم محصّنون ضد” الواقع؟

“لا يوجد مجتمع غير قمعي ولن يوجد قطّ “(محمد الجوّة)، تبدو هذه الجملة شبه مسلّمة لا يمكن إنكارها أو التّشكيك فيها. قمع سياسي وثقافي وديني يولّد حتما ضرورة “اللهو في العتمة” والانتباه إلى تفاصيل قد تغيب للوهلة الأولى عن ناظرينا، والتمسّك جيدا بذلك الطفل الذي يقفز في دواخلنا.

أعتقد أنّ الواقع أكثر إثارة للدهشة وللبلبلة، بكلّ ملامحه العنفيّة والقمعيّة، وبإرهاصاته اليومية المثيرة للأعصاب، بما يحدث من ألم (“يؤلمنا وهم الشيوخ والحرّاس وكهنة المعابد..” من بيان عبد الفتاح بن حمودة) أو تخمة ثقافية مفاجئة.

أعتقد أنّ الواقع أكثر إثارة من كونه واقعا مجرّدا يقاس بعدد الثواني والدقائق والساعات.

هذا الواقع التونسي الذي نشأت فيه حركات فنّية تكسر قيوده وترفض التّعامل معه، هو في حدّ ذاته سبب مباشر في تأسيسها بما يحمله من علامات كثيرة للدّهشة والسؤال.

وهو ما يجعل هذه الحركات محصّنة ضدّ هذا الواقع المترهّل، هذه الحركات التي لا ترتبط أساسا بأسماء مؤسّسيها وإنّما هي علامات لا تختفي باختفاء أصحابها.. هي ذلك التوقيع أسفل لوحة الواقع.

اعترف “كيريكو” بأنّه لم يكن يستطيع أن يرسم إلّا وهو تحت مفعول الاندهاش”(أندري بريتون)

ومن هذا المنطلق يكون الواقع مادة فنية ثرية، مهما كان ضاغطا أو منفّرا.

فليكنْ.. للفنّ وحده القدرة على أن يلهو بهذا الواقع.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×